(الورقة الأولى كانت رحلة علمية للبحث عن قبر الضابط الفرنسي دوبوا غيلبير) هاهي الأيام الأواخر من شعبان تؤذّن بقرب دخول شهر رمضان المعظم لعام 1440 هجرية، ومعها نهاية الموسم بالنسبة لمجموعة دراجي الجبال بالجلفة ... تميز هذا الموسم بخرجات متنوعة الى ثنية الحد وسيدي مخلوف والأغواط وعين ماضي والأبيض سيدي الشيخ والزعفران وغيرها ... أما مسك الختام فقد تقرر أن يكون في عمق الحزام الغابي الغربي لبلدية الجلفة على مسافة حوالي 20 كم ... وبالضبط أسفل "المزرب العالي" أين سينتصب مخيّمنا ليلتين كاملتين في هذه الأيام المباركة ان شاء الله ... الانطلاق كان من مدينة الجلفة على طريق قرية الزينة أين يسايرك وادي ملاح عن اليمين ... وللأسف وضعية الوادي بمياه الصرف الصحي تبعث على أكثر من سؤال. لأنه يُفترض أن تكون هذه المياه داخل قنوات تسمح بتحويلها وضخّها نحو محطة تصفية المياه!! في منتصف الطريق نحو الزينة نجد مسلكا ترابيا يتجه غربا وسيكون هو طريقنا وأنيسنا بخُضرته .... عبد القادر وحليم بالشاحنة مع العتاد ومحمد والمسعود بالدراجة على أن يلتحق الآخرون كل في وقته وبمطيّته. تبدأ الطريق بمساحة غابية مشجّرة بالصنوبر على مسافة حوالي 05 كيلومترات، لنلج بعدها الغطاء الغابي الطبيعي بأشجاره السامقة والكثيفة ... وفي الأسفل تتخلله الحلفاء وشجيرات بدأت تنمو لتشكل أحراشا أعطت الغابة كثافتها ... ولكن من بين هذه الأحراش قد تندلع حرائق مدمرة اذا رميت سيجارة أو نسيت أن تردم مجمورتك!! الطريق نحو المزرب العالي يشكل تحديا جميلا لعشاق الدراجات، فالمسافة مناسبة والرياضة مضمونة والفرجة لا تنتهي بل تزداد وعرة الطريق على جانبيه وتزدان مروجه كلما توغلت في الغابة ... ولكن يبقى هناك دوما من ينغّص المتعة وهو الانسان سواء بالاحتطاب غير القانوني أو بالحرث العشوائي ولا ننسى دودة الصندل التي تجد ضالتها في الغابات المشجرة ... فيا ليت ذلك يلفت ألباب الغيورين من المسؤولين لإنقاذ هذه الآلاف من الهكتارات ... رئة الجلفة!! وصولنا الى نقطة التخييم كان بعد وقت العصر بكثير ... وقد استدل الثنائي الدراج على طريق الشاحنة بالعلامة التي تركها القائد عبد القادر على المسلك الترابي، وهي سهم مُشكّل على الأرض بجذوع الأشجار. كما لاحظنا في الطريق العلامات التي يضعها أعوان الغابات أين تُعلّم شجرة مع كتابة رقم عليها ... حيث وجدنا شجرة عليها رقم 27 مما يذكرنا بالنقاط الكيلومترية التي تضعها مديريات الأشغال العمومية على الطرقات ... وأثناء سيرهما بالدراجة توقف المسعود فجأة متسائلا عن وجود نبات الحبق عن يمينه بالغابة وتوقف محمد ليجيبه بأنه ليس كذلك ... ويبدو أنه آنئذ كان هناك حيوان يكمُن أمامهما خلف الأشجار وينتظر مرورهما ليقطع الطريق خلفهما ولعل الحيلة علّمت هذا الحيوان أن الدراج لا يلتفت خلفه ... لكن وقوف الدراجين المفاجئ أخلط حسابات صاحبنا وربما اعتقد أنهما توقفا للإيقاع به ... وما إن امتطيا دراجتيهما مرة أخرى حتى كان صاحبنا قد اتخذ قرار قطع الطريق بكل جرأة لأننا الدراجين ظهرا وكأنهما قادمين نحوه ... و"يطرطڨ ڨدامنا ثعلوب" وصاح محمد ... نعم إنه ثعلب بذيله الكثيف الأحمر ... يا إلهي ما أجمله وما أبهاه!! وسحقا لمن يقتله وبئس من أفناه!! ... وتربت يدا من يصطاده ... وأنعِم بكل من حماه ورباه!! ... لقد أفنى الإنسان كل طرائد الثعلب في الغابة من أرانب وطيور وجرابيع وغيرها ثم صارت حُجته أن الثعلب "قد" يهاجم خم دجاجه أو زريبة مواشيه أو كوخ أرانبه ... فهل خلق المولى عز وجل الثعلب عبثا؟ وهل خلق الحنزير عبثا؟ الله تعالى حرّم لحوم هذه الحيوانات فقط ولم يأمر بإبادتها ... وجود الثعلوب في هذه الربوع سمة بارزة على أننا قد انقطعنا عن المدينة وأننا في عمق البرية ... ورغم أن أهل الجلفة أمْيل الى الفصاحة في لغتهم الا أنهم لا يقولون ثعلب وثعلبة وثعلبان وثعلبانة بل العجيب أنهم يستخدمون كلمة أخرى فصيحة يكادون يتميزون بها ... انها الصفة "ثعلوب" ... وتظهر في أمثالهم كقولهم "فلان ثعلوب كبير" باستخدام صيغة "فُعلول"، التي يتم تخفيفها في العامية بفتح الفاء، وتشير هذه الصيغة الى الصفات الذميمة على الأغلب. حيث تتضمن في صفة ثعلوب الدلالة على الحيوان وصفته الملازمة له من مكر واحتيال من خلال اسمه ... والحقيقة هي أن التخييم في البرية يجبرك على أن تتعلم من الحيوان كأن تتبع المثل السائر "كن حذرا كالثعلب وحريصا كالذئب" ... الآن التأم الركب وبدأ تحويل المتاع بعد النزول بالمحط ... عبد القادر وحليم اختارا مكانا جيدا للتخييم في ضاية شيح صغيرة بمواجهة شِعبة (واد صغير) تقع في حِجر المزرب العالي ... نعم أنت بين يدي الشموخ والهيبة والعلو والرفعة والسمو ... كلها مجسدة في صخر وغاب المزرب العالي ... هذا المكان معروف بارتفاعه وكثافة غطائه الغابي. وبالتالي صعوبة التنقل داخله ومن ثَم الصعود الى أعلى قمته. وكلمة "مزرب" من صيغة اسم المكان "مفعَل" للفعل "زرب" كملعب للفعل لعب ... وبالتالي فإن مزرب هو مكان زرب الماشية أي ادخالها ... ولعل الأبقار هي التي تتخذ مزربها هناك بعد الرعي طيلة اليوم. والأمر شبيه بزريبة طبيعية للبقر بأعلى جبل الڨعدة ببلدية حد السحاري شمال ولاية الجلفة. ولا ننسى أن دلالة زرب تحيل أيضا على سيلان الماء ولربما كان هناك مسيل للماء في أعلى القمة ... والمزرب العالي يقع في جنوبه الطريق الوطني رقم 46 وبادية مسكّة ومرڨب بن حفاف وغيرهما، أما شماله فتوجد منطقة حواص والنقازية، التي كانت موطنا لأحد قادة قبيلة السحاري السلطان "موسى بن عمور" أثناء البيازة أي الصيد بالصقور، وأم الدفاين ومقابر سنين المسغبة وهي على الأرجح سنوات المجاعة ووباء التيفوئيد التي شهدت وفاة النقيب محمد بن شريف في مارس 1921 نتيجة لموقفه الانساني في التضامن مع الموبوئين مما عرّضه للإصابة ... هل تريد أن تشرب الجبل كله وتضعه في جوفك؟ يسأل عبد القادر ثم يجيب "عليك بشرب منقوع أعشاب الجبل"... الأجوار ومفردها الجور ... جمع حليم وعبد القادر مجموعة من أعشاب الجبل الطبية والعطرية وأوراق بعض أنواع الشجر لتحضير منقوع الأجوار ... الدباغة (لحاء الصنوبر) وأوراق الضرو والشيح وأوراق البلوط وإكليل الجبل والتسلقة وأوراق شجرة الطاڨة ... والطاڨة تذكرنا بسبب التسمية القديمة لمدينة زمالة الأمير عبد القادر فالمنطقة عُرفت أولا ب "طاڨين" المحرفة عن كلمة "طاڨتين" والسبب هو عين الماء التي بجانبها شجرتي طاڨة حسب الروايات ... تم وضع كل الأعشاب في الماء على النار وللأسف هذه الأجوار ينقصها العرعار الذي تنعدم أشجاره في محيط المخيم ... كان يمكن ربط أوراق المنقوع بألياف الحلفاء لكي تأخذ مكانها جيدا في المغلاة لتُنقع جيدا. وفي الحقيقة فإن نبات الحلفاء هو صديق المُخيّمين اذ يُمكّنك من عدة وظائف مثل حكّ وغسل الأواني أو وضع شرائح اللحم عليه أو صنع "ڨفص" للجبن أو صنع ظفيرة متينة منه. أما حرفيو السلالة فهم يصنعون العجب العجاب من الحلفاء مما أكسبها قيمة اقتصادية كبرى وقت الاحتلال الفرنسي خصوصا في صنع أجود أنواع الورق ... هاهو الحاج عمر بن جدو يفد على المخيم وقد أضفى على الجو العام بصمة الرجل الخبير في فنون الرماية الرياضية والصيد وأخلاقياته. والرجل قد أحرز السبت الماضي لقب البطولة الولائية للرمي على الهدف الثابت المقامة بسد الخريزة بالشارف. وقد حدثنا بلغة المتأسف عما آل إليه حال الصيد خصوصا مع انتهاك حرمة الصيد في مواسم التكاثر والرضاعة ... تحدثنا أيضا عن أخلاقيات الصيد قديما وحديثا فأجدادنا كانوا أصحاب مروءة ويتقاسمون فرصة النجاة والقنص بالتساوي مع الطريدة ... فلا يتربصون بها عند جحرها ومكنّها أو عند مكان الشرب أو حال سقوط الثلج ... "الصيد رُجلة وأخلاق" يقول الحاج عمر. ها قد وصل الرباعي مناد ومصطفى وحمزة واسماعيل ... وبمجرد وصولهم انخرط مناد ومصطفى في جمع "الفليّو" ليصنعوا منه منقوعا له هو الآخر خصائص مهدئة للأعصاب ومُيسّرة للهضم ودابغة للمعدة ... لا سيما وأن المعدة تنتظرها غزوات الزفيطي والشواء والشاورما!! وأثناء انتظار المنقوع استلّ المسعود سكّينه وشرع يبري القصبات ليصنع منها "السيڨ" ... اللعبة التي تعتمد على الحظ والإثارة والذكاء في تحريك "الجراء" داخل "السوڨ" ... ويا سعد من "فوّز" جراءه وخرج الى الطريق العام ثم دخل ديار خصمه وشرع في إفناء "جرائه" ... وليحذر أن "يخربز" أي أن يترك وراءه واحدا من جراء خصمه ... العود والثلاثة والأربعة والستة ليس لها معنى الا اذا جاء حظ القصبات الستة على "السيڨ" قبلها ... وكل واحدة منها تعتمد على الوجه الذي تسقط عليه القصبات أرضا بعد رميها في ساحة اللعب ... وقبل بداية اللعب عليك أن تختار: "اللحمة أو الواد" اسم الوجه المُقعّر للقصبة" ... الشحمة أو الجبل" اسم الوجه المُحدّب للقصبة. وبعد رمي القصبات تُحسب النقاط كالآتي: "العود" هو لحمتان وأربع شحمات ويُحسب بنقطتين، الثلاثة هي قصبة يخالف وجهها باقي القصبات الخمسة، الأربعة هي أربع شحمات ولحمتان، السيڨ هو المناصفة بين الشحم واللحم والستة هي كل القصبات بنفس الوجه وُيحسب بنقطة مع الحق في اعادة الرمي ثانية ولكن "جراءك" لن تبرح مكانها من السوڨ حتى تأتي ب "سيڨ" ومن هنا نالت هذه اللعبة الشعبية اسمها. وقد اكتسب السيڨ اسمه من اللغة العربية بمحاكاة السيق وهو السحاب الذي تسوقه الرياح ... فكذلك الحجارة والنوى الإثني عشر في السوڨ، لا يسوقها سوى ما يأتي به حظ القصبات ... السحابة لا تتحرك حتى يأتيها الريح ... والجراء لا تتحرك حتى يأتيها السيڨ حتى ولو رميت كل الرميات بما فيها "الستة" فأنت تحتاج ريح السيڨ ... في الصباح الأول كان حليم أول المستيقظين كعادته ... الفطور خبز وقهوة بالحليب ... بعدها اختار وليد والمسعود التجول بالدراجة أما عبد القادر ومحمد فقد قاما بجولة راجلة على مسافة يسيرة. وقت الغداء عاد الجميع والتأم الشمل لتبدأ جولات جديدة من السيڨ انتهت مع قهوة العشية ليعقب ذلك جولة بالدراجة بمنطقة الخربة ينفذها عبد القادر ووليد ومصطفى. والمسار هذه المرة وإن كان قصيرا الا أن فيه تحديا في المناطق العالية والمنحدرات الحجرية الشديدة. وهكذا كانت نهاية النهار الأول الذي كان رياضيا بامتياز: رياضة عضلية بالدراجة أو المشي ورياضة ذهنية شعبية تتمثل في السيڨ. في الليل كانت زخات المطر سببا في برودة الطقس شيئا ما. والحمد لله مورد الاحتطاب كان متوفرا بمحيط المخيم حيث تكثر الجذوع اليابسة لأشجار الصنوبر الحلبي التي تأبى الا أن تسمو بحثا عن الشمس وتتخلى في سبيل ذلك عن جذوعها السفلى ... أما السهرة فقد كانت طويلة حول سامر نار وإبريق شاي في حضرة البطلين عصام والبشير الذين كانا آخر من استسلم للنوم ... صبيحة اليوم الثاني والأخير هي دوما عنوان النشاط ... رفع المخيم وتنظيم المتاع وتجهيزه للعودة الى الجلفة ... وبالتوازي مع استعدادات الرحيل يتم تجهيز عروس موائد الربيع ... الرفسة ... ولمن يريد أن يتعرف على هذه الأكلة الشعبية فليرجع الى ما كتبناه عن رحلة سيدي مخلوف. الآن دقت لحظة الرحيل على أمل العودة لهذا البر الجميل مرة أخرى بحول الله ... شكرا يا أهل الغابة وتبقاو على خير يا صُلاّحها ... تبقى على خير أيها الثعلوب وشكرا على كرم الضيافة وقد التزمنا بأخلاق الضيف وتركنا الدار نظيفة وأطفأنا كل الجمر ... وسيأتي سائح آخر وسيجدها نظيفة وسيتركها نظيفة لمن بعده لأن جمع القمامة لن يأخذ أكثر من دقيقتين ... أما نحن الآن فطريق العودة الى الجلفة ستأخذ منا الكثير من الدقائق ... نحن الآن على صهوة دراجاتنا وأحدنا قد أنشد: ياخويا أرواح نحدثك ماذا صار * في خرجتنا اليوم للمزرب العالي حديثي ليك راهو حكمة باختصار * احترم خلق الله في ذا البر الخالي أنت ضيف والثعلوب مولى الدار * هو ما آذاك وڨالك هذا مثالي كونك انسان عاقل باقتدار * والغابة للجميع في كل الأحوال كول واشرب في الغابة والقفار * وارڨد والعب وحوّس بالكمال اسمع لحليم وبشير من الحُضّار * والمسعود ومحمد ووليد زين الرجال شويحة والمغربي وعصام يعطوك لخبار * كذا مقال وكذا من حكمة وأمثال حمزة واسماعيل ومناد من الأبرار * ومصطفى نعم الرفيق في الجبال والحاج عمر كْريم في كل الأقطار * احفظو يا مولانا المتعالي أشرب معاهم قهوة وزيد من لجوار * وفي الليل سهرة بالسيڨ تزهالي سيڨ وعود وثلاثة وأربعة يا شُطار * والحذاڨة ماهيش في الستة، راها في الترحال ندعو ربي الخالق العزيز الجبار * يحفظنا في مقامنا وفي كل حال والصلاة على النبي زين الأبرار * محمد بن يمينة شفيعنا في المآل