بقلم محمد بهناس يتمنّى في اللّي تفقدت ما ولاّت ... واش يرجّع زهونا فات نهارو؟؟ ما أوجعه هنا في قوله وهو يعبّر، في شفقة، عن قلبه الملتاع! إنه الوداع الأخير. يميتك الشعور بالفقد: الجزع من الامتلاك والجزع من التبدّد. إنه الخوف الدائم الذي هو حليفك، والذي أنت غريمه. خاويا سوى من روحك تتربّع دون أثر من دخلوا إلى حياتك ومن خرجوا في أرض الحماد البيضاء البعيدة. تلتفت فلا كتف غير منذور بالرحيل. تتذكّر فلا متذّكر باق. تقبل على النقض والخواء مستوحشة أنفاسك إلى أنفاس من هنا سكنوا ومن صعدوا سريعا دون أن تبلغ سنّ الفطام. الفطام على الغياب. تهب مرفقك إلى التراب مشتمّا شميم الليالي والأنهر المائتة، شميم الشمل المتقطّع والأفضية المتروكة لسلوتك وعزوتك وطول تحنانك. تبكي على نفسك كما لن يقف عليها عزيز ويبكيها. تبكي ليسمعك بكاؤك في الحياة، فإنك لست باكيا ولا مصغيا بعد نومتك الأخيرة. تبكي حتى يرثي لك الجماد ويشفق القفر والخواء. في الأخير ويا للخيبة! تنهض ليتلقّفك الخوف الأبديّ ويحييك، أبدا، داخل ملكوته. إنك لا تنجو ولا تسلم، ولا لحظة، من خوف الفقد. فقد الأحبّة. ها هو الشاعر "علي بن عبد القادر دودو" (1920 / 2019 حسب رواية ابنه البكر) يفقد زوجه، في حدود الأربعينات، وهو في غربته، بعيدا عن الديار، ويفقد معها قدرته على التحمّل، إذ يقول (آمرا) ومعاتبا قلبه في آن: "يا قلبي دير الصّبر واهنا بركات ... ساعف حكم الله وارضى لقدارو" أقول: "آمرا"، ذلك أنه كان بالإمكان أن يقول "طالبا": اصبر يا قلبي وبارينا بركات أو: اصبر يا قلبي ويزّينا ما فات أو: يا قلبي غير الصبر مالك حيلات أو أيّ صياغة تجنّبه فعل الأمر الدارج "دير"، الذي يقابله باللغة الرسمية: "افعل" ، ذلك أن الشاعر هنا قد نهى قلبه وأمره بالكفّ عن التحسّر توّا، والامتثال لحكم الله وقضائه. كان بالإمكان أن يقول ذلك، وهو الشاعر المتوفّق، وما مرثيته في زوجه، التي هي واحدة من عيون المرثيات في شعرنا الملحون بالمنطقة السهبية، إلا خير دليل على ذلك. لقد تعمّد أمره من البداية في قوله: "يا قلبي دير الصبر ...". حين وصله خبر وفاة زوجه وهو في مهمّة بالشرق الجزائري (هنا يذّكرنا بقصة الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهريّ وفقده لزوجه وهو في لبنان، وكانت في ريعان شبابها وقد تركت له ابنة وحيدة "فرات" حيث يقول في مطلع مرثيته الشهيرة: في ذمّة الله ما ألقى وما أجد .. أهذه صخرة أم هذه كبد قد يقتل الحزم من أحبابه بعدوا .. عنه فكيف بمن أحبابه فقدوا فلم يجد الشاعر "علي دودو" مؤنسا سوى سجائر العرعر التقليدية فضمّنها كما لو كانت رفيقا:
انحتّم في المر لكنان تعبّات ... ما فيهش لذّة ونفسي تختارو اتولّعت بنسمتو ليها نفحات ... حاكم عني كي الطايف ماذالو احكم عني صاب في الراس جوانات ... يطقّ عليا كي (الصاحب) نقدالو نطلّع كيفي بيه يعطيلي نفحات ... والمطوي باليد حلّيت قفالو حينما دخل الكفن نارو سنّات ... واصباعي همّا سبايب دمّارو عليه الضغط مع الهوا قادي قطعات ... واللي والع بيه كيفو يحلالو نا وياه الليل ندّوه قناقات ... مسّيطر عنا القلب بتفكارو يتمنّى في اللّي تفقدت ما ولاّت ... واش يرجّع زهونا فات نهارو؟؟! زاد عليّا بالغيار العين بكات ... ما نرقدش الليل نيبان نهارو يا قلبي دير الصبر وهنا بركات ... وارضى حكم الله ساعف لقدارو الناس اللي قبلنا قاع تمسّات ... ما باقي في جيرتي حد نسالو ويوريني وين لحباب تخبّات ... فرقونا وجفاو عنا ما سالو منّك يا فطّوم ذقنا ذ اللذعات ... في جنبي للآن راهم مازالو! لا شكّ أن استهلال القصيدة كان في غاية البراعة، وهو يعترف، بدءا، في تعاطي ما تأنف منه باقي النفوس، أكثرها على الأقلّ. معبرا عن كراهيته لذلك بقوله: " انحتّم في المر .. إلخ" هذا المعنى يذكرنا بقول المتنبي: "سبحان خالق نفسي كيف لذّتها ... في ما النفوس تراه غاية الألم" ثمة تشابه في المعنى، وهذا يحدث من قبيل توارد الخواطر، أو تواطؤ الأذهان كما يقال، لكن لماذا نقول: إنه توارد خواطر؟ ذلك أن الشاعر "على بن عبد القادر دودو" كان أميّا، حسب ما ذكرا لي ابنه البكر، والشاعر محفوظ بلخيري، كما أن الحالة الإنسانية واحدة، على مرّ التاريخ، كانت ومازالت، وستكون دائما، والمتنبيّ نفسه يقال أنه لما سئل عن اتفاقات الخواطر، قال: " الشعر ميدان والشعراء فرسان فربما اتفق توارد الخواطر، كما قد يقع الحافر على الحافر". اللغة بدوية خالصة، وقد استجلب الشاعر، لحظة الولادة الشعرية، ما يوائم حالته النفسية والعاطفية من معجمه اللغويّ، فمن بين ما قال: "لكنان تعبّات"، وكلمة: "لكنان" هنا تعني دواخله، و"تعبّات" أي امتلأت عن آخرها، وفي لسان العرب يقول ابن منظور: "وعبّأت المتاع: جعلت بعضه على بعض"، وهو هنا أعني الشاعر جعل من المرّ وكأنه شيء ماديّ تكدّس، بعضه على بعض، بأكنانه. ويقول أيضا: "يطق عليا كي الصاحب" أي يخطر على ذهني في لحظات الإستيحاش كما لو أنه رفيقي الحميم. وفي مقطعه الشعريّ السرديّ الذي يعنى بالتبغ التقليديّ يصوّر لنا المشهد بدقّة عالية، كما لو أن كاميرا بتقنية بلا حدود نقلت لنا الحدث، والشاعر، هنا، لا يصف بغرض الوصف فقط، وإنما يتداوى من مرارة الفقد بمرارة سجائر العرعر التقليديّة: اتولّعت بنسمتو ليها نفحات ... حاكم عني كي الطايف ماذالو احكم عني صاب في الراس جوانات ... يطقّ عليا كي (الصاحب) نقدالو نطلّع كيفي بيه يعطيلي نفحات ... والمطوي باليد حلّيت قفالو حينما دخل الكفن نارو سنّات ... واصباعي همّا سبايب دمّارو عليه الضغط مع الهوا قادي قطعات ... واللي والع بيه كيفو يحلالو (نارو سنات: أي علا ضوؤها وارتفع لهيبها. دمّارو: أي خرابه وهلاكه. قادي: من غدا يغدو غدوا، أي راح أو ذهب) هنا شبّه مسحوق العرعر وهو يلفّ بورق التبغ، وبممارسة الضغط عليه بالأصابع، بالميت في كفنه. لكن الضغط هنا لم يتوقّف عند الأصابع فقط، بل إنه ضغط مركّب، ضغط يورّث ضغطا نفسيا وعاطفيا لدى الشاعر. ضغط حين يزمّ عليه بفمه، وكذلك ضغط الهواء جوانيّا وبرّانيا، وأيضا، وهذا هو الأهمّ، ضغط النار من حوله، فهنالك علاقة، كما هو معلوم فيزيائيا، بين الضغط ودرجة الحرارة. هنا إشارة للقانون العام للغازات المثالية والمعبّر عنه كالآتي: الضغط في الحجم يساوي عدد صحيح في درجة الحرارة (PV=nRT) وفي قوله: ويورّيني وين لحباب تخبّات ... فرقونا وجفاو عنا ما سالو! في إشارة إلى أن الذين غابوا عنا كأنهم اختاروا الغياب، وكما لو أنهم اختبؤوا في موضع ما، بغرض مجافاتنا، والانقطاع عنا، حيث يتساءل متعجّبا: فرقونا وجفاو عنا ما سالو! * هذه صياغة سردية للأبيات أعلاه، حتى يتسنّى لمن لا يفهمها أن يفهمها: " مرغما أتعاطى مرّ السجائر، وقد امتلأت به دواخلي، وإني لأعترف أن لا لذّة فيه، غير أن نفسي تشتهيه وتطلبه. صرت مولعا بنسائمه وهي تصلني حين أضغط عليه بإصبعيّ الذين يحاصرانه كالحارسين. لقد وجد إلى رأسي منافذ خاوية، فأصبح يخطر في بالي كما لو أنه رفيق حميم، أزوره مشتاقا، فأحسّن به مزاجي وهو يمنحني تلك النفحات. بمجرد أن أضع مسحوق العرعر بالورق الأبيض، الذي يشبه في بياضه قطعة الكفن، وألفّه وأشعله فيومض في التّو ويزيد اشتعالا ودمارا كلما ضغطت عليه بإصبعيّ، وكذا حين أجذب به نفسا عميقا وأنفثه، فيتلاشى في الهواء كقطع السحاب. إني وسيجارة العرعر، التي هي كالرفيق تماما، نبيت الليل كلّه ساهرين غائصين في لجج حلكة الليل، وقد سيطر علينا معا "القلب" وما يفكّر به. إنه يتأمّل ويتمنى تلك التي ولّت، ويتحسّر طويلا على زماننا الأول، وعلى ليالي الأنس، إنه يبكيني فلا أنام إلا مع حلول النهار. قلبي الذي آمره بالصبر، وبالرضى بقضاء الله وقدره، إذ لم يعد هنالك من نسأله عن الذين اختفوا وولّوا، كما لو أنهم أعلنوا مقاطعتنا. لا أحد يطلعنا على المكان الذي هم فيه. وها أنذا بسببك يا "فطّوم"، أتذوّق طعم وخزات الشوق والالتياع: إنها، إلى الآن، لا تفارق جنبيّ!" القصيدة جاءت على الوزن العشاري، موائمة تماما لتيمتها الرئيسة، ولطبيعة النفس الشعري الصحراوي. بقافيتين في صدر البيت وعجزه، كما هو شأن الشعر الملحون العشاريّ. يقول الشاعر: انحتّم في المر لكنان تعبّات ... ما فيهش لذّة ونفسي تختارو قافية صدر البيت الأول: (نَتْ تْعبّاتْ). قافية عجزه هي: (تَخْتَارُو) الروي في عجز البيت هو حرف الراء، مردوفا بألف ممدودة، وموصولا بالواو. وهذا المدّ فيه متنفّس للشاعر، من حيث يدري أو لا يدري: ( تعبّات / تختارو نفحات / ماذالو)، على أن حرف الرويّ في هذه القصيدة ينقلب، أحيانا، من حرف الراء إلى لام، ربما لأن الشاعر منساق إلى حالته الوجدانية في لحظة تدفّقه الشعريّ، على أن الكثير من الشعراء القدامى لم يكونوا يولون اهتماما كبيرا بالرويّ، ولا سيما رويّ قافية صدر البيت، وإنما الرهان قائم دوما على الشعر نفسه. الشعر الذي لا يعترف بقيد أو شرط. فقد كان يتجلّى الشعر في أمثالهم أو أحجياتهم .. وحتى في أحاديثهم اليومية المعتادة. * يقدّر للشاعر أن يشهد وفاة زوجه الثانية، أم عياله، في أواخر شهر مارس 2016، وهذه المرة بحضوره، وهو في سنّ متقدّمة، وقد عبّر على لسانه صديقه الشاعر "قويني قويسم" من مدينة عين الإبل، قائلا: يا مسعودة ليلة فراقك سودة ... يدرى بعدك ذ الوكر كيفاه يعود خلّيتينا كي جّينا في الشدّة ... (افراقك كودة والعمر جانا محصود) مرحولك ڨفّى درڨ داير عڨدة ... جمل الرفدة في الدّيار بقى محرود إلى أن يقول في الأخير مستنشدا الشاعر: سامحني يا شيخ راني نتبدّا ... (وراك مجرّب في القدم كيّات وقيد) كيداري ع الشّوك ولّى يتعدّى ... ونتمنّى من جيهتك ضرك المزيد عارف غيمك راه ع العارم سدّا ... واللي يصبر ياك عند الله سعيد وبالفعل كما أشار الشاعر، فقد رثاها بما اعتصر في قلبه من مشاعر، فكانت أبياتا تنضح بالحكمة والتعقّل، على النقيض من مرثيته الأولى التي جاءت بعاطفة مشحونة، يكتنفها الحزن والأسى: الڨطره جات من السّطح وتعدّمنا ... ما عڨّبها دار لينا ميزابات يا صديقي ما نفع علاج دوا ... ما يخلد مخلوق في الدنيا هيهات آخر مارس لربعا في موعدنا ... ما قصّرنا عامره عنها وصّات سبحان القيّوم لرواح امانه ... وقتيّة ذا الدّار فيها عزباوات متكفّل بينا يجود بلا عنّا ... ايجازينا بالرّضا والمغفرات نبلّغ سلامي على مولى طيبه ... قد العلم وما خلق في لرض انبات جعلو ربي حابّو بعثو ليْنا ... يحضر في الشدّه يغير على لموات واسم الله واسماه ركن العباده ... في لذان يسّمعوا رفعو لصوات ما نصلوش النار كيما عاهدنا ... يا عظيم الجاه غيرك لا فكّاك هنا تتجلّى الحكمة صارخة، إنه صوت العقل، ولسان تجربة حياة طويلة وعريضة، إذ إنه في أبياته الأولى يتحدّث بصوت هادئ، وبيقين كامل، عن الموت الذي لا يتقدّم ولا يتأخّر، إنما يحضر في تمام الموعد: "آخر مارس لربعا في موعدنا .. ما قصّرنا عامره عنها وصّات" ( في إشارة إلى مقبرة مدينة عامرة)، مسبّحا لله ومُذكّرا إيانا بأن هذه الدار ليست إلا محطّة عبور، وما نحن فيها سوى أعزاب. ثم ينتقل إلى ذكر رسول الله (صلّى الله عليه وسلّم) ففيه العزاء، وبذكره الأنس والراحة والروح. * هذا هو الشاعر علي بن عبد القادر دودو في رثاء زوجه، في واحدة من أهمّ مراثي الزوجات، على قلّتها، حتى في الشعر الرسميّ، وبدورها هذه القصيدة تحيلنا إلى مرثية أخرى، ما تزال ترافق الذاكرة، وهي للشاعر المسعدي بلقاسم طيبي المعروف ب: "بلقاسم بن العود" في زوجه: يا مسمط يا خاوتي ولّى مسعد ... ولّى كاس الرهج ع الواحد محتوم ما ندريك اجيّدة تخطي العاهد ... ما هي مني فرقتك ما عنّك لوم توحّشت اللّي عاشرت دشرة مسعد ... وما ترحلشي طالبة ديما ع النوم اللّي طارت في السّما قاع تهوّد ... غير انا قلبي مع لوعار يهوم ملحوظة 01: هي مجرد قراءة انطباعية، تتوقّف على ذوق صاحبها، وقد كتبتها للإضاءة على واحدة من أهم ما قيل في الرثاء في منطقتنا. ملحوظة 02: القصيدة برواية محسّنة للشيخ محفوظ بلخيري، وبرواية الشاعر نفسه، وكنت قد زرته في بيته مطلع سنة 2017، على أنه كان عاجزا على استظهارها على أكمل وجه، نظرا لظرفه الصحيّ الذي لم يكن يسمح، وكذلك سنّه المتقدّم آنذاك (97 عاما). أما قصيدة الشاعر "قويني قويسم" فقد أقرأنيها هو بنفسه، بينما مرثية الشاعر علي بن عبد القادر دودو الأخيرة في زوجه الثانية، كانت من قبل الأستاذ صديق الشاعر محمد القحطاني طوير، وقد كان سجّلها بصوت الشاعر.