من خلال دراسة مهمة في تاريخ الترجمة ولج الأستاذ مصطفى داودي(*) هذه العوالم في كتابه "الترجمة بالأندلس ودورها في النهضة الأوربية الحديثة"، والذي طبع في لبنان من قبل دار التنوير الجزائرية ويعرض لأول مرة ضمن جديد المعرض الدولي للكتاب لهذا العام. وأكد بين فضاءاته أن الشعوب التي لا تهتم بالترجمة هي شعوب ميتة لا تفكر في غذائها الجوهري من أجل أن تتحرك وتحيى وتنهض من جديد ، حيث ينبغي أن ندرك بأن دور الترجمة كما قال "لا يتوقف بمجرد نقل تلك المعارف من لسان شعب إلى لسان شعب آخر بل إن حقيقة الأمر أن الترجمة هي بداية اليقظة والنهضة لكل حضارة ، وإن الشعوب الأوروبية لمّا أرادت أن تنتفض على براثن الجهل وتضيء واقعها المظلم قامت بترجمة ما وصلت إليه معارف المسلمين من تطور في شتى المجالات دون أن تفقد شخصيتها . وبعد أن تغذوا من معين الحضارة الإسلامية تناسى الغرب كل ذلك وراح أقطاب مفكريه يركّزون في ذهن القارئ فعالية الغرب وانفعالية الشرق ، ويدفعوه إلى اعتقاد تفوق الذهن الغربي وتواكل العقل الشرقي … ، والحقيقة أنه لولا حركة الترجمة الكبرى التي تمت في الأندلس طيلة الفترة الممتدة بين القرنين السادس والتاسع الهجريين/ الثاني عشر والخامس عشر الميلاديين لما استطاعت أوروبا أن تصل بحضارتها في مثل هذا الزمن إلى هذه الدرجة العالية ، لأنه ببساطة لا تنبني الحضارات من العدم ، ومن هنا فإن الحضارة الإسلامية بالأندلس تعتبر أعظم موروث أخذه الأوربيون وذلك بإقبالهم على ترجمة المؤلفات الإسلامية في شتى العلوم إلى اللسان الأوروبي، وهو ما يبين لنا حقيقة التبادل الحضاري الكبير بين الشرق والغرب عبر العصور . فإذا كان الغرب يعمل باستمرار على جحد أي صلة له بالإستفادة من الحضارة الإسلامية فإننا بتتبع تفاصيل انتقال هذه المعارف إلى اللسان و الفكر الأوربي ، فإنه يتأكد لنا بأنه لا يعقل أن تشع تلك النهضة الأوروبية من العدم ولا يعقل أن تحبس كل تلك المعارف الإسلامية الباهرة دون أن تستخدم في التحرر الفكري والثقافي الأوروبي ، وإننا من أجل إثبات حقيقة عمق تأثير تلك المعارف الإسلامية المترجمة إلى اللسان الأوروبي في بزوغ الحياة الفكرية والثقافية الأوروبية قمنا بتتبع روح وسيمات تلك المعارف الإسلامية عبر مختلف العلوم التي بزغت في أوروبا ، وخرجنا بنتائج أقرّها الأوربيون أنفسهم حتى نتفادى إشكالية التعاطف وندرس الأمور بمنظارها العلمي باعتبار أن خلاصة النتائج المدروسة علميا والثابتة واقعا يجب أن ترفع من مجال العواطف حتى ولو قلبت الكثير من المفاهيم ، وقد وجدنا بأن تأثير المعارف الإسلامية في بزوغ النهضة الأوروبية الحديثة قد شمل مختلف العلوم إلاّ أنه للأسف الشديد لوحظ الكثير من الانتحال لتلك النتائج العلمية والأدبية التي توصل إليها العلماء المسلمين ، وأصبحت إلى وقتنا الحاضر من بديهيات الاكتشافات العلمية الأوروبية بل إن أبسط القواعد التي قدمتها المعارف الإسلامية والتي كان لها الدور الأبرز في دفع وإذكاء الحياة في مختلف العلوم الأوروبية لم يعترف بها رغم أن تأثيرها واضح جلي ، وقد أوضحنا ذلك جليا في مختلف المجالات العلمية والأدبية. وتبيّن لنا من كل ذلك مدى الدور الكبير الذي لعبته المعارف الإسلامية المترجمة إلى اللسان الأوروبي في دفع الأوربيين إلى نهضتهم وحضارتهم المادية التي تملأ الآفاق".