بقيت أيامٌ معدوداتٌ على الاستحقاق الرّئاسي،و لمّا يزلِ المثقّف الحرُّ منعزلاً عن مجريات المشهد السّياسي في الجزائر ، يشارك في مختلف الفعاليّات الثّقافية هنا و هناك ، داخلَ البلد و خارجَها ، جريًا وراءَ استحقاقاتٍ و تشريفاتٍ و ألقاب ، كأنّ الأمرَ الذي يدورُ و يشغلُ أبسطَ الناس لا يعنيه، أو كأنه يدري مسبقا بأنّ صوتَه لن يُسمع البتّة. ..إنّ القرحةَ الفكريةَ _التي تنتاب المثقّفَ جرّاءَ ما يُحاك بصدره _هي التي تشجّعُه على عزلته و حياده ،و قد انتقلتْ إلى قرحةٍ نفسيةٍ و اكتئابٍ مُزمنٍ؛ و سيأتي يومٌ يلوم نفسَه فيه _ حيث لا ينفع النّدم _ و قد ترك المجالَ واسعًا لمنتظَر لا يملأ عينيه و لا يشغلُ فكرَه .و لعلَّ عزوفَ الدّولة عن إشراك المثقّف في العمليّة السّياسيّة نابعٌ من إيمانها العميق بأنه خبيرٌ في استثارةِ الأحاسيس و تلهيبِ المشاعر، و لكنّه فاشلٌ في تسيير دواليبِ السّياسةِ و الاقتصاد،لأنّ الأمرَ حينها لا يقف عند مُعجبٍ بحرفٍ في كتابٍ ،أو مشدوهٍ بمسرحيّةٍ أو روايةٍ ، بل يتعدّاه إلى استنكارٍ لا حدودَ له ،و هو يرى فمًا جائعًا لا يسدُّه ، أو يخشى من غزوٍ لا يصدُّه..! ..إنَّ الدّولةَ التي لا تأبه بدور المثقّفِ، و لا تشركُ سوى العسكريِّ و السّياسيِّ في قراراتها لن تصلَ إلى آفاقها بالشّكل المخطَّط له، و إنّ المثقّفََ الذي ينأى بنفسِه عن سِجالاتِ السّياسةِ و كواليسِ اللّعبةِ الدّيمقراطية سيكون خيرُهُ المبطَّنُ دعمًا لشرِّ فئةٍ من الناس ، شكّلتْ قوائمَ و رصدتْ أرقامًا لمنتخبين لهم ، تسعى لمسكِ زمامِ أمورِ الدّولة ، و هي لا تفرّقُ بين جلدِ الحمار ،و جلدِ الأسد..! .. لا تثريبَ إذًا على عوامّ النّاس،و هي تفتكّ الفرصةَ من مفكّرينَ و دكاترةٍ و خبراءَ ، يرونَ بأنّ السّياسةَ فاسدةٌ ..و اللاّعبَ فيها ماكرٌ !!..و لكنّ الملفتَ للنّظر _ إذا ما اقتنعا بفكرةِ ديمقراطيّةِ و فاعليّةِ المشاركةِ السّياسيّةِ في الجزائر _ أن يُفتح المجالُ لكلِّ شغوفٍ بالرّئاسة و لا تؤطّرُ هذا الاستحقاقَ شروطٌ و ضوابط؛ لأنَّ القضيّةَ تمسُّ هيبةَ الدّولةِ مؤسّساتٍ و رجالاً ؛ بل من منكّداتِ السّياسة اليومَ اعتقادُ المواطنِ _سلفًا_ بعدم جدوَى تصويته بحجّةِ محسُوميّةِ الأمر ، أو بحجّةِ عدمِ اقتناعِه بأفكار و شخصيّاتِ المترشّحينَ ، و على رأس طليعةِ هذا الشّعبِ متذمّرٌ ..يُسمّى "مثقّف ". ..يلزم المثقّفَ الجزائريَّ الكثيرُ من السّنوات حتى يستطيعَ أن يرسمَ تمثالا لرئيسٍ يشبهُه ؛ يقول شعرًا ،أو يرسمُ لوحةً ،أو يصمّمُ صرحًا ،و هو يقود بلدَه إلى عالم مستنيرٍ بأفكارِه ، متطلّعٍ إلى رُباه..و إلى حين ذلك سيلزمُ الدّولةَ أيضا تنشئةُ جيلٍ كاملٍ ،تهيّئُ منه كوكبةً تخدمُ رؤاها و ترفعُ من شأنها ،بدءًا من الأسرة السّويّة..إلى المنظومةِ التربويّة القويمة..إلى المستوى المعيشيّ الكريم.