تعاني جل تجارب التغيير والإصلاح والتجديد الذي اضطلعت به أغلب الحركات الإسلامية الحديثة أو المعاصرة منذ قرنين من الزمن، بل ومنذ بروز ما يسمى "مجتمع ما بعد الموحدين"، من ظاهرة التراوح المزمن والمنهك، خاصة بعد توالي النكسات السياسية والإخفاقات التنموية وتزايد الإحباطات في واقع الأمة. ولسنا هنا بصدد الخوض في أسباب وعوامل تلك النكسات والإخفاقات والإحباطات المتراكمة، وإنما نريد لفت النظر إلى قضية منهجية هامة، تتعلق بضعف الوعي بمعادلة "الاستقلالية النوعية التكاملية" لدى تلك التجارب، والتي منحت حركات ومجتمعات أمم أخرى شروط النهضة وأسباب القوة، ومكّنتها من ترسيخ أقدامها على خريطة التدافع الحضاري، كاليابان وألمانيا، والكوريتين، وغيرها من الدول التي احترمت خصوصيات مجتمعاتها واعتمدت على كفاءاتها النوعية والتكاملية، بينما تحولت نفس المعادلة لدى حركاتنا وفي مجتمعاتنا إلى عامل تفكيك وتشرذم واهتلاك مرضي مزمن. فالكثير من الجهود المحسوبة على التجارب الإسلامية الحديثة، اتسمت بالشمولية الإقصائية، وخلطت - ولا زالت تخلط - بين شمولية الإسلام وشمولية التغيير الإسلامي، فسادت لزمن طويل مقولة: «إنّ دبابة الثورة ستدوس كل من يعترض طريقها!» بل وما زالت مستمرة حتى اليوم، فكل مخالف أو معترض أو مستدرك يعتبر خصماً خطيراً، وجب تهميشه أو إقصاؤه وفقاً لمنطق "من ليس معنا فهو ضدنا"!!. فقد اعتدنا على سماع مقولات التبديع والتفسيق والتضليل والتكفير والبراء والمفاصلة والتشيّع مؤخراً، المتبادلة بين مختلف الاتجاهات الفكرية والحركية، وغيرها من الأفكار الصادرة عن النظرة الشمولية المتوهمة لحيازة الحقيقة والوصاية عليها. والعجيب أنّ كل فرد أو اتجاه من هؤلاء يصدر مواقفه هذه عن مرجعية الكتاب والسنة، رغم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم المربي الأعلى والقائد الأسمى كان إذا بعث بعثاً أوصى قياداته ببعض أصول المنهج قائلا: «وإن حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم، ولكن أنزلهم على حكمك فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا» صحيح مسلم 3261. فشمولية الإسلام تنظر إلى الحياة البشرية المتكاملة بحيث يتنوع ويتعدد ويتكامل الجهد البشري في تحقيق ذلك، فكان أن قرر العلماء فروض الكفاية التي إذا قامت بها جهة من المسلمين سقطت على الباقين، الذين يجب أن يوجهوا اهتماماتهم وطاقاتهم لتغطية فروض كفائية أخرى في ساحات أخرى من معتركات البناء، وأن لا يزاحموا غيرهم في منطقة أو ثغر تمت الكفاية فيه بغيرهم!.. وكم من نماذج تطبيقية تدلل على مفرزات خيار الشمولية المغلوط، حيث طغى منطق الفكر الوحيد، والحزب الوحيد، والجماعة الوحيدة،...إلخ. وبعيدا عن التنظير لمعادلة "الاستقلالية النوعية التكاملية" نحاول فيما يلي سوق نموذجين رائعين في الوعي بتطبيقات هذه المعادلة، حقق كل منهما نجاحاً باهراً في التأثير الفعال في محيطهما الثقافي والاجتماعي والسياسي، هما نموذج سيدنا يوسف عليه السلام في نطاق التجربة الفردية، وجمعية العلماء المسلمين عندنا في الجزائر في نطاق التجربة الجماعية النموذجية. فقد شكلت الاستقلالية النوعية التكاملية أكبر وأهم أسباب القوة والفعالية للتجربة اليوسفية الرائدة، حيث مكنته كفاءته النوعية العالية التي منحه الله إياها، من مواجهة كافة التحديات التي أحاطت به، وجعلته محور استقطاب وتأثير في كل من حوله في المجتمع، فكان بذلك محل ثقة المحيطين به وملاذهم في مواجهة همومهم وتلبية حاجاتهم. وشكل صبره واقتداره النوعي سببا مباشرا لخروجه من السجن، وتبرئته من الشبهات التي أحاطت به، وإعادة الاعتبار له، وتبوأ مواقع حيوية للنفوذ والتمكين في الدولة والمجتمع، بعد أن اكتشف رأس الدولة أمانته ومواهبه وقدراته غير العادية، فاستخلصه لنفسه ولم يتردد في تلبية مطالبه من تمكينه من تولي وزارة الاقتصاد والتجارة والتخطيط الاستراتيجي والاستشراف، التي أشرف من خلالها على الإدارة الفعلية للدولة والمجتمع، وطبق الإصلاحات التي رآها ضرورية. وأهم ما يلفت الانتباه في هذه التجربة، هو احترام سيدنا يوسف عليه السلام لمجال تخصصه ونطاق عبقريته، فلم يتملكه غرور القوة ولا شهوة النفوذ فيطلب وضع يده على كل شيء كعادة من لا يحترمون أنفسهم، ولا يقدرون حدود مواهبهم وإمكانياتهم، فيتوقون إلى الهيمنة على كل شيء، دون أن يتمكنوا من عمل أي شيء، أو ترك غيرهم يعمل شيئا للدولة والمجتمع!!. كما يلفت الانتباه أيضا على صعيد المنهج وأخلاقياته الرسالية كذلك، ابتعاد يوسف عليه السلام عن منطق المساومة والابتزاز، خاصة وقد جاءته الفرصة ليخرج من السجن ويبرئ نفسه مما اتهم به، فقد كان بإمكانه اشتراط خروجه وإعادة الاعتبار له أولا قبل منح خبرته في تفسير رؤيا الملك، ولم يقدم مصلحة الجماعة أولا بتفسير الرؤيا فحسب، بل أرفق ذلك باقتراح عملي لخطة إستراتيجية تواجه التحدي المفروض على المجتمع. كما أن من أسرار المنهج اليوسفي، ثقته عليه السلام فيما عنده من خبرة نوعية عالية، سيأتي وقت إدراك الناس لقيمتها ولحاجتهم إليها، فيحرصون هم على توليته شؤونهم والتسليم له والانقياد لتوجيهاته، وقد ترجم تلك الثقة بالحرص على التعريف بنفسه وبمواهبه وخبراته، والتركيز بعد ذلك على مجال عمله، وتوفير الشروط والضمانات التي تتيح له حرية العمل والمبادرة، بل وصناعة القرار. أما على الصعيد الجماعي فقد كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين (1931-1962) تجربة غنية في مجال الوعي بمعادلة "الاستقلالية النوعية التكاملية" جديرة بالتأمل واستخلاص أسرار وسنن نجاحها، منذ بداية تأسيسها، حين اختارت لنفسها موقعا مفصليا على خريطة الواجبات والشروط التي تستلزمها إدارة معركة الحفاظ على الهوية الحضارية للمجتمع، وعلى ذاكرته من الانمحاء، وعلى تأمين مستقبل المجتمع روحيا وفكريا وثقافيا، بعد تصفية الوجود الاستعماري. وكان اختيارها للساحة الفكرية والثقافية والتربوية والاجتماعية باعتبارها مجالات حيوية للمساهمة في معركة التحرير والبناء، أول مؤشر على وعيها الاستراتيجي بهذه المعادلة، وفي هذا يقول الإمام بن باديس رحمه الله: «إننا اخترنا الخطة الدينية على غيرها، عن علم وبصيرة وتمسكا بما هو مناسب لفطرتنا وتربيتنا من النصح والإرشاد،.. ولو أردنا أن ندخل الميدان السياسي لدخلناه جهرا، ولضربنا فيه المثل بما عُرف عنا من ثباتنا وتضحياتنا، ولقدنا الأمة كلها للمطالبة بحقوقها، ولكان أسهل شيء علينا أن نسير بها على ما نرسمه لها، ..ولكننا اخترنا ما اخترنا لما ذكرنا وبيّنا، وإننا - فيما اخترناه - بإذن الله لماضون، وعليه متوكلون»، وفي هذا قمة الاستقلالية النوعية المبدعة، أين يختار كل فرد وكل جماعة في المجتمع والأمة، موقعا أو ثغرا يرابط فيه، ويركز جهده فيه، حتى يصل إلى مستوى الإنتاجية المبدعة. فقد استطاعت الجمعية الثقافية الخيرية البسيطة من الناحية القانونية أن تؤدي أدوارا مركزية في الحراك الاجتماعي والثقافي والسياسي، وأن تشكّل الرقم الصعب في معادلة التغيير ومواجهة المشروع الاستعماري ومحاصرته وتجفيف منابعه، والوقوف أمامه عقبة كؤودا تحول دون تجذير وجوده في المجتمع الجزائري، رغم ما بذله من جهد جبار طيلة قرن من الزمن، لتفريغ المجتمع الجزائري المسلم من محتواه الثقافي والحضاري، وبتره من امتداداته ومحيطه التاريخي والجغرافي، وإلحاقه بالمحيط الحضاري الغربي الدخيل فيما يعرف عندهم "باستراتيجية الاسترداد" التي بدأت من الأندلس. فلعبت الجمعية بذلك دورا مركزيا وطنيا، وصفه الإمام الإبراهيمي بالقول: «إن جمعية العلماء فوق الأحزاب كلها، ما ظهر منها وما بطن، وإن مبدأها أعلى من المبادئ كلها، ما استتر منها وما علن، وقد اتصلت بجميع الأحزاب فرادى ومجتمعين في المصالح العامة، فأرتهم بأقوالها وأعمالها أنها فوق الأحزاب، وقد احتكت بها جميع الأحزاب، من خاطب لودها إجلالا، إلى رائم من نفوذها استغلالا، إلى عامل على الكيد لها احتيالا، فأرتهم بمعاملاتها لجميعهم أنها فوق الأحزاب، ودعت الأحزاب إلى الصلح والاتحاد، وجمعتهم للاشتراك في العمل، فكانت في ذلك كله فوق الأحزاب.. وما دامت تعمل في ميدان لا يختلف فيه الرأي، ولا يتشعب الهوى، فإن منطق الواقع لا يسمح بغير ذلك، وإن تاريخها يشهد بأنها تنصر الحق حيثما وجد، وتدور معه حيث دار، وأنها تزن الرجال بأعمالهم الصحيحة، ومبادئهم الثابتة، وتزن الأحزاب ببرامجها الواضحة وآرائها الصحيحة، وأنها تقارب الجميع وتباعدهم على قدر قربهم من الإسلام والعروبة وبعدهم عنها». تلك الخصوصية التي جعلت من قياداتها الرسالية تنحاز إلى المصالح العليا للأمة على حساب مصالحها الذاتية، على غرار الموقف الرسالي للإمام بن باديس حين ساومه "ميرانت" مدير الشؤون الأهلية بالولاية العامة بالعاصمة، بإنقاذ عائلته من إفلاس اقتصادي ماحق، في حضرة أبيه الذي بكى وتوسل إليه، وبتعيينه قاضي القضاة، مقابل تخليه عن الجمعية، فأجابه برسالة قصيرة جاء فيها: "اقتُل أَسِيرَك يا ميرانت (يقصد أباه) ، أمّا أنا فمانع جاري (أي الجمعية) "!