وضعنا المجتمع اليوم على طاولة التشريح لنتتبع آثار التغير الحاصل داخله خلال العقود الأخيرة أين عرفت علاقاته تحولا جذريا خلق الكثير من الظواهر الاجتماعية التي لم نكن نعرفها من قبل، رئيس الأكاديمية الجزائرية لتطور علوم الطب الشرعي البروفيسور رشيد بلحاج مارس مهنته التي تعودها منذ أكثر من عشرين سنة في منتدى «الشعب» وشرح لنا خلاصة ما تقوله جثث الموتى في صمت رهيب عن آفات لا يعرف هولها إلا من كان أحد ضحاياها. الكثير منّا يرى في الطب الشرعي مهنة التعامل مع الموت البارد والمخيف بأسراره الغريبة ولكنها في الحقيقة هي مهنة تجعل من الجثة الهامدة الراوي الصدوق لقصة إنسان ما قتل أو مات لأي سبب كان بكل تفاصل الحكاية التي سبقت ساعة خروج الروح من الجسد لتتركه جثة هامدة، بل أكثر من ذلك قال البروفيسور رشيد بلحاج إنها تخاطب الطبيب الشرعي مطالبة إياه بإنصافها وتحقيق العدالة لها بكشف النقاب عن الجاني الذي سوّلت له نفسه زهق روح بريئة، ليكون الطبيب الشرعي طريق العقل المتتبع لخيوط الجريمة. من خلال الكم الهائل من الجثث التي شرّحها طوال مسيرته المهنية التي فاقت العشرين سنة تعرّف إلى أعماق المجتمع الجزائري وتحولاته على جميع مستوياته، مؤكدا في ذات السياق أن أكبر نسبة من الجرائم سجلها المجتمع في العشرية السوداء، أما في العشر سنوات الأخيرة فإن الملاحظ أن ظاهرة العنف بمختلف أشكاله عرفت تزايدا رهيبا داخل المجتمع خاصة في الوسط العائلي أين يتعرض داخله الأطفال والنساء بصفة خاصة إلى تعنيف معنوي، لفظي وجسدي يصل إلى حد استعمال آلات حادة للقتل، هذا التحول الرهيب كشف النقاب عن جرائم جديدة لم نكن نعرفها من قبل هي في أغلبها الاعتداء الجنسي على الأطفال، الشذوذ الجنسي، زنا المحارم والجرائم الإلكترونية وغيرها من الظواهر التي أصبحت تشكل العناوين العريضة للكثير من الصحف الجزائرية. هذا ولاحظ رشيد بلحاج أن الجُناة في السبع سنوات الأخيرة يلجؤون إلى طريقة جديدة لطمس دليل جريمتهم هي حرق الجثة للتخلص من أي دليل ضدهم، بعدما كانوا يعتمدون على رميها في البحر في المدن الساحلية والدفن في المناطق الساحلية، هذا التحول والتطور في الجريمة يكون في لُب ما يكشف عنه الطب الشرعي من خلال تشريح الجثة التي تروي تفاصيل ما أصابها من ألم وعذاب حتى وإن كان الموت مصيرها الأخير، إلى جانب ذلك الشذوذ الجنسي في السنوات الأخيرة أصبحت له جرائمه الخاصة المرتبطة به ففي أغلب الحالات تتعرض جثة هذا النوع من الإجرام إلى أكثر من 20 طعنة سكين بالإضافة إلى الاعتداء الجنسي. وكشف رشيد بلحاج أن حوادث المرور تشكل أكبر نسبة من الجثث المشرحة، وعدد كبير منها يصل في حالة صعبة ما يكشف النقاب عن ظاهرة إرهاب الطرق التي أصبحت تحصد الكثير من الأرواح في السنوات الأخيرة، وأرجع سبب هذا العدد الهائل إلى تناول المخدرات والكحول اللتان تؤثران على الحالة العقلية للسائق. «هي كسرطان أصاب جسد المجتمع» هكذا شبه البروفيسور ظاهرة العنف التي تتغلغل إلى مختلف فئاته خاصة الأسرة «نواته الأولى» التي أصبحت مسرحا للاغتصاب، زنا المحارم، الاعتداء الجنسي على الأطفال من طرف الأصول، الإهمال واللامبالاة التي تفضي إلى وفاة أحد أفرادها في حوادث منزلية يتدخل فيها الطب الشرعي لتحديد الجاني بسبب صعوبة ذلك على الجهات الأمنية خاصة إذا كان من الوسط العائلي، هذه الحركية تستدعي تكوينا مستمرا للأطباء الشرعيين ليواكبوها ويستطيعوا بالتالي الإلمام بكل جديد في عالم تشريح الجثث لأنها بمثابة الصندوق الأسود لأي جريمة كانت. في أعماق المجتمع وزواياه المعتمة يتحول الطبيب الشرعي بمجرد شقه بطن الجثة إلى مرآة عاكسة لكل ما يحدث داخله من خلال دلائل علمية وبراهين طبية منطقية يكشف الحقيقة التي فضّل السواد الأعظم من المجتمع السكوت عنها وتصنيفها في خانة «الطابو» أما الحديث عنها فهو «عيب» لجم لسان المجتمع وحوله إلى جسم يعيش حالة من الاغتراب عن ذاته وعن أخلاقه ودينه وتقاليده وأعرافه، لأن الصمت عن معاناة أفراده حوَّل الحياة داخله إلى عذاب حقيقي يتساوى فيه الضحية والجلاّد؟. في ساعتين من الزمن، استطاع البروفيسور رشيد بلحاج أن يجعل من الموت لسان الحقيقة والواقع الاجتماعي الذي يعيشه كل واحد منا بطريقته وحسب إمكانياته، ومن برودة وزرقة الجسد المفارق للروح إلى كتاب مفتوح نستخلص منه العبر لنجد الحلول لمشاكلنا الاجتماعية التي أصحبت كالسرطان الذي ينتهز فرصة ضعفنا لينتشر ويتغلغل إلى كل جميل نعرفه، لذلك علينا ألا نترك الجثة تندثر بالطريقة الطبيعية المتعارف عليها بل علينا أن نحولها إلى حياة أحسن وأفضل إلى الأجيال القادمة، بالمساهمة في بناء مجتمع صحي في جميع علاقاته الإنسانية.