لم نكن نتوقع ونحن نطأ مخيمات اللاجئين الصحراويين، أن نجتمع بجيلين مختلفين من ضحايا الغزو المغربي على الصحراء الغربية، جيل عايش الحرب ضد المحتل المغربي سنوات السبعينيات والثمانينيات وآخر لا زال يناضل في إطار الانتفاضة السلمية التي اندلعت في 2005 من أجل نيل حريته وكرامته واستعادة أرضه المسلوبة منه، وكأن التاريخ أراد بذلك أن يكشف لنا عن وقائع مأساوية أخرى ومعاناة حقيقية عاشها هؤلاء المقاتلين ولازال يعيشها المناضلون داخل السجون المغربية وفي المدن المحتلة ليكونوا نموذجا حقيقيا لتاريخ المعاناة بداية من احتلال الصحراء الغربية منذ سنة 1975 إلى يومنا هذا. مخلفات الغزو المغربي للصحراء الغربية، شملت كل الأماكن والأزمان ولأن نظام المخزن يرفض لحد الآن الانصياع للشرعية الدولية ولمواثيقها وقراراتها لازال ضحاياه في ارتفاع مستمر أمام صمت دولي صارخ يندى له الجبين، انتهاكات صارخة في حق الصحراويين المتواجدين في الأراضي المحتلة.. قمع ..اغتصاب.. ويوميا مئات المعتقلين والمختطفين والمختفين يزّج بهم في سراديب السجون المغربية في خطوة لطمس الهوية الصحراوية، وحمل هؤلاء على التراجع عن مطلب تقرير المصير والاستقلال، ناهيك عن ضحايا الحرب والألغام الذين تبقى إعاقتهم وصمة عار في جبين المحتل المغربي ودليلا آخر على همجيته ونزعته الاستعمارية. وجودنا في ''مدرسة 27 فبراير'' وهو أحد مخيمات اللاجئين الصحراويين الخمسة المتواجدة بولاية تندوف تزامن وإحياء الذكرى ال 37 لانطلاق الكفاح المسلح، وهي الذكرى التي سمحت لنا رفقة الوفد اليمني الذي حل بالمخيم لأول مرة بزيارة مدرسة ''الشريف'' لضحايا الحرب والألغام التي دخلناها لأول مرة لنكتشف بشاعة ما خلفه الاستعمار المغربي في حق الصحراويين المقاتلين إلى جانب قيادة الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب الممثل الشرعي والوحيد للشعب الصحراوي... عشرات من معطوبي الحرب والمعاقين بسبب الألغام المنتشرة قرب جدار العار كل يروي مأساته وبشاعة ما لاقى على يد غازي يتشارك معه في اللغة والدين وتلك مأساة أخرى. ذاكرة مقاتل جريح ونحن نسأل المقاتل السابق في صفوف جيش التحرير الصحراوي السيد أحمد خاطري، عما بقي مختزنا بذاكرته المثقلة بالهموم والجراح، قال أنه من الصعب العودة للذاكرة في 5 دقائق، فذاكرة مقاتل جريح لم تعد تحتفظ بالشيء الكثير ورغم ذلك بذل جهدا ليضعنا في الصورة المأساوية التي خيمت أيام الحرب مع الغازي الجديد للأراضي الصحراوية بعد خروج المستعمر الإسباني ويتعلق الأمر ب ڤالجارڤ المغرب وللأسف الشديد.. التحق فضل علي بالنظام السياسي في 1974 ضمن حركة سياسية كانت تناضل ضد الاستعمار الاسباني ليبقى في الحركة إلى غاية 1975 تاريخ احتلال المغرب للأراضي الصحراوية ليقرر الانضمام إلى الجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب التي شرعت في خوض معارك في الشمال الشرقي وفي الجنوب مع الحدود الموريتانية.. ويقول فضل علي أن قرار الانخراط في الجيش هو الاختيار الوحيد لأي صحراوي، لأن معركتنا كانت معركة البقاء. ولأن المغرب كغيره من المستعمرين، لم تختلف أساليبه الهمجية والقتالية عن الدول المستعمرة لشمال إفريقيا - يضيف فضل علي- وهو يكاد يحرك نفسه على سرير مد على الأرض بسبب إعاقته التي تعرض لها أيام الحرب، فالمحتل المغربي كان يستعمل كل الطرق لتصفية الصحراويين وكان يتعامل بهمجية مع العسكريين والمدنيين على حد السواء، فلم يكن يفرق بين المرأة والرجل وبين العسكري والمدني وبين الطفل والشيخ، لذا اضطررنا لخوض معركة دفاعية في البداية، فلم يكن أمامنا إلا هذا الخيار، ثم سحب العائلات والمدنيين إلى مناطق آمنة حتى لا يتعرضون للإبادة الجماعية، فالطائرات المغربية لم تكن تفرق بين أحد وقصفها لم يسلم منه لا الشجر ولا الحجر ولا البشر حتى أن قرى بأكملها هدمت. خضنا الكثير من الهجومات وتمكنا من تحرير الجنود الصحراويين والانسحاب بعدها إلى حدود موريتانيا، والذي كان يدفعنا إلى هذا قضيتنا العادلة، فهي قضية شعب كامل وليس قضية أفراد، كما يحاول المغاربة إقناع به الرأي العام العالمي والإقليمي، كما أننا لسنا مجموعة انفصالية ولسنا مغاربة، يختصر المقاتل خاطري كلماته ليختم بالقول أن أصعب موقف مازال بذاكرته الجريحة هو رؤية الأبرياء يموتون وذنبهم الوحيد انتماءهم الجغرافي إلى هذا الشعب والمؤلم أكثر أن يقتل المسلم أخوه المسلم. تركنا المقاتل السابق أحمد خاطري، لنلتحق بغرفة أخرى يتواجد بها ضحايا حرب آخرين، لم نكن نتوقع ونحن نلج الغرفة أن نصطدم بمشهد مروع يعجز اللسان عن تصويره، فأن ترى حي ميت في وقت واحد يكون ضربا من الخيال، وهي حالة المقاتل سعيد محمد فضل علي (57 سنة) الذي وجدناه طريح الفراش لا شيء يتحرك فيه باستثناء رأسه الذي يستطيع أن يهزه بشق الأنفس ويده اليمنى .. مشهد تسقط أمامه كل عبارات المواساة وتنتفض بسببه كل مشاعر الحقد إزاء مستعمر يدين بالإسلام ويدعي الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان. ترددنا في البداية في الحديث إليه، فقد صدمتنا حالته التي تنم عن وحشية المستعمر المغربي وهمجيته اللامعقولة، لنقرر في الأخير نقل شهادته لتبقى حية في التاريخ وتروي للبشر هول ما لاقى ويلاقي الصحراويين على يد غزاة مسلمين . التحق سعيد فضل علي بالجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب في 1976، أيام استشهاد الولي مصطفى السيد، وانضم للكتيبة الأولى بناحية الجنوب الشرقي التي تقع في الحدود مع موريتانيا وظل يقاتل بجانب الجبهة الشعبية الصحراوية إلى غاية 1982، يوم إصابته بداية شهر نوفمبر في مواجهة مباشرة ببجدورة، بعد خوض عدة عمليات. يقول سعيد فضل أن المستعمر المغربي حاصرنا لمدة تجاوزت ال 3 أشهر بمنطقة القلتا وزمورة، ورغم ذلك لم ييأس المقاتلون الصحراويون وتمكنوا من إسقاط خمسة طائرات وأسر 204 مغربي أو يزيد وتحرير 112 جندي صحراوي، لكن ما يبقى في ذاكرة سعيد المظلمة يوم انفجر اللغم المغربي المزروع بتفارتي في السيارة التي كانت تقله هو واثنين من الجنود ليصاب هو بشلل كامل في جسده نتيجة الصدمة ويستشهد الجنديين اللذان كانا برفقته، ليتحول إلى جثة هامدة الرأس بينما بقي هو يتحرك بصعوبة. 7 ملايين لغم وعشرات الضحايا سنويا أمثال أحمد خاطري، وسعيد محمد فضل علي، ضحايا الحرب والألغام المغربية كثيرون، وهم الآن بمدرسة الشهيد شريف التي أنشأتها جبهة البوليزاريو في 28 نوفمبر1987 بهدف احتضانهم وإعادة تأهيلهم وإدماجهم في المجتمع لاسيما الذين لازالوا قادرين عن العطاء. فالمدرسة، حسب أحمد علي سالم، نائب المدير ظلت والى غاية وقف إطلاق النار تعالج الجرحى والمعطوبين في الحرب لتصبح منذ 1994 مركز، هدفه توفير ظروف إقامة تتناسب ووضعية الجريح من سكن وتغذية وإقامة مريحة. وفي 2007، استفاد المركز من مشروع الأعضاء الصناعية للمبتورين من طرف الصليب الأحمر، وهي اليوم تحتضن 55 ضحية حرب وألغام وتقدر طاقتها الاستيعابية 153 سرير. وأضاف ذات المسؤول أن المدرسة تستفيد من دعم الدولة الصحراوية وبعض إعانات الأصدقاء ومنظمات إنسانية، خاصة إسبانية التي تمنحها مساعدات غذائية وأجهزة التبريد، لأننا نبحث عن راحتهم المعنوية والنفسية. ويواجه المركز صعوبات في إعادة إدماج هذه الشريحة -حسب ذات المتحدث - لأن أغلبية الضحايا غير متعلمين لذا كان من الصعب إعادة إقناعهم بالتعلم خاصة وأن الكثير منهم تجاوز ال 40 سنة، لكن بالإرادة تجاوزوا الصدمة وأصبح الكثير منهم بشهادات إعدادية ووظفوا في الدوائر الإدارية ومعلمين بمدارس المخيمات، والكثير منهم صار يرغب بالعودة إلى جبهة القتال. لكن ما يثير المخاوف ارتفاع عدد ضحايا الألغام التي مازالت تحصد الكثير رغم مرور سنوات على وقف إطلاق النار، فكل سنة تؤدي الألغام الأرضية التي زرعتها القوات المغربية وكذلك -الأجسام غير المتفجرة بحياة عشرات المواطنين الصحراويين .. كل سنة، إن لم نقل كل يوم يصاب الأبرياء، بل يموتون جراء هذه الآفة الممتدة في كل المنطقة، بسبب هذه الظاهرة التي باتت كل المنطقة الصحراوية موبوءة بها، خاصة المناطق التي شهدت معارك وعلى طول الجدار الفاصل، والتي تعد بسبعة ملايين لغم، حسب نائب مدير مدرسة الشهيد شريف لضحايا الحرب والألغام، بل إن الأرقام ليست دقيقة، كون السلطات المغربية لم تبلغ بخرائط الحقول التي تتواجد بها الألغام ناهيك عن عشوائية زراعتها، لتبقى الألغام إلى جانب جدار العار يشكل وصمة عار في جبين الاحتلال، بل أكثر من هذا ويزيد، إذ جعل الشعب الصحراوي في مواجهة خطر حرب الألغام التي باتت أكبر فتكا من الاحتلال. إختراق الصمت وجدار العار بدوره عرى الوفد الخامس من الناشطين الصحراويين في مجال حقوق الإنسان، الذي التقيناه خلال زيارتنا لمخيم 27 فبراير انتهاكات المحتل المغربي التي استمرت منذ حربه مع جبهة البوليزاريو، وأكد رئيس الوفد السيد محمد صالح أعلي منو نائب رئيس لجنة الدفاع عن حق تقرير مصير الشعب الصحراوي، إن المغرب بأساليبه القمعية وانتهاكاته الجسيمة لحقوق الشعب الصحراوي فرض علينا حرب خاسرة وقطيعة بين عائلاتنا المتواجدين في المخيمات من خلال جدار العار الذي عزل عائلات تركت أبناءها وهم صغار وهذا الفصل ما يحز في النفوس، حيث بقينا معلقين وعلى أحر من الجمر للقاء إخواننا. وأضاف أن الانتهاكات والمعاناة التي يعيشها الصحراويين في كل الماوقع الجامعية والمدن الصحراوية المحتلة ما تزال مستمرة وهي تتنوع بين الاختفاء، الاختطاف والهجوم على المنازل في وقت انتهج العالم الصمت حيال قضية شعب عادلة. ووافقت ليلى الليلي السالكة، مناضلة صحراوية وناشطة حقوقية عضو لجنة مناهضة التعذيب التابعة للجمعية الصحراوية لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، ما ذهب إليه محمد الصالح حيث أكدت بدورها أن منذ 2005، سنة انطلاق الانتفاضة السلمية والمغرب مستمر في سياسة القمع الاغتصاب وتعذيب الصحراويين والصحراويات والرمي بالمتظاهرين خارج القطاع الحضري في خطوة لتبرئة نفسه من جرائم ارتكبها في وضح النهار وتحت أنظار الجميع بما فيهم ممثلي الأممالمتحدة بالمنطقة. وقالت أن الأراضي الصحراوية المحتلة تتعرض اليوم لتجهيل وتفقير وتعميرها بالمقابل بالسكان المغاربة في وقت يتحدث أمير المؤمنين عن تنمية مستدامة لتردف قائلة: ليست هناك أي تنمية في المناطق المحتلة لا صحة ولا تعليم حتى جرحى الانتفاضة يرفض استقبالهم وفي حالة استقباله الشرطة المغربية توقف الدكتور المعالج، ففي العيونالمحتلة كان دكتور صحراوي وحيد يستقبل الجرحى وقد توفي ليبقي الممرضين الذين تركهم المستعمر الاسباني وهؤلاء تمنعهم سلطات الإحتلال من إكمال دراستهم وتخصصاتهم. أما فاطمتو ليمام الحيرش ناشطة حقوقية صحراوية فأكدت هي الأخرى أن انتهاكات المغرب لم تتوقف منذ 1975 حالة مستمرة بين المفقودين والمسجونين والمعاقين بسبب السجن، تعرضت للسجن في 1980 إلى غاية 1991 بعد اختطافها قسرا وهذا يريد به المغرب طمس هوية الصحراويين ونفيهم -توضح فاطمتو- التي شددت على أن المغرب لن يستطيع ذلك لأن الصحراويون على حق ويطالبون بحقهم. وإن وجدت صعوبة في تصوير مشاهد المأساة والمعاناة التي يتلقاها الشعب الصحراوي على يد الجلادين المغاربة، إلا أنها حولت تقريب الصورة ونقل صور اغتصاب الصحراويات في المدارس وضرب الكهول واعتقال الشباب وتركهم بدون أبناء وتقول فاطمتو أنها سجنت ومعها 264 آخرين، من بينهم محمد الصالح وقد حولهم الغازي المغربي لأكثر من سجن، فتنقلوا من العيون إلى الدارالبيضاء و قلعة مقونة ومخافر سرية أخرى ضمت الكهلة والمرضعة ويوجد نساء أنجبن تحت طائلة التعذيب، فيما ضاق الكثير منهم أنواع عديدة من العذاب باستعمال الكهرباء، الماء المتسخ والشد من الشعر وإطفاء السيجارة على الجسد والضرب بعد تعليق الضحية على طريقة الدجاجة المشوية والطائرة. من جهتها، روت لنا جودة فضلي بناهي، معاناتها مع رجال الأمن المغاربة وكيف أصبحت ضحية نظرا لأنها اصطفت رفقة مجموعة من النساء الصحراويات لاستقبال غاندي الصحراء أمينتو حيدر العائدة إلى أرض وطنها بعدما طردت منه إلى اسبانيا، ودفعت ضريبة تمسكها بحقها ووطنيتها كسر ذراعها.