ثورتان شعبيتان عربيتان مرتا الى غاية الآن بنجاح، وتعيش هذه الأيام أطوار الثورة الثالثة التي تجري وقائعها بليبيا، واذا كنا ندرك مسبقا بأنها ستكلل هي أيضا بالنجاح وستنتهي باسقاط النظام فمن الضروري الإشارة الى ان نهاية القذافي لن تكون مثل نهاية جاريه بن علي ومبارك بالنظر لاختلاف الرجال الثلاثة في ادارة الأزمة والتعامل مع الثوار، وقبل ذلك في رد الفعل تجاه الهزة التي زلزلت كراسيهم التي ظلوا يلتصقون بها لعقود طويلة واعتقدوا طويلا بأنهم لن يبرحوها إلا إلى قبورهم، وطبعا بعد ان يضمنوا بأن من سيلتصق بها بعدهم هم ابناؤهم.. لقد فاجأت الثورة الرئيس التونسي السابق ولانها اول تجربة من نوعها، فان الرجل توتر وارتعب ولم يعرف كيف يتصرف، ولا كيف يدير الازمة في بدايتها، فاستنجد بالقوة من منطلق الفكر الاستبدادي والقمعي الذي ظل يحكم به الشعب التونسي، واعتقد بان السلاح كفيل بوأد الحركة الاحتجاجية في مهدها، لكن الذي حصل ان خيار القوة الهب الاحتجاج وحوله الى ثورة حقيقية فخاف بن علي وارتعدت فرائسة بعد ان قيل له بأن الشعب سيقتحم حصنه وفر هاربا يبحث عمن يقبل استضافته. وللامانة فان هذا الجبن والضعف انقذ رقبته وسبائك ذهب حرمه التي عبأتها في عشرات الحقائب ولم تغادر الا بها، وأنقذ ايضا حياة الشعب التونسي من سفك دمائهم وحال دون ان تنزلق البلاد الى ما لا يحمد عقباه. وقبل ان تنطفئ شرارة الثورة في تونس امتدت لتلتهب في مصر التي ظن النظام بها بأنه محصن كونه مقربا جدا من الغرب وكان في اعتقاده بأن تفانيه في خدمة هذا الغرب والصهاينة على وجه الخصوص، سيشفع له وسيدفعهم لنجدته وانقاذه من السقوط، لقد اعتقد مبارك بأنه مثلما ظل يفعل منذ ثلاثة عقود سيتمكن من اجهاض الحركة الاحتجاجية بالقمع البوليسي وزنزانات التعذيب والاعتقال السري والحجز تحت الارض، لكن فجأة ومثلما صدم بحجم الثورة، صدم اكثر برد فعل اصدقائه الغربيين الذين يلقون النياشين على العملاء والخونة علنا لكنهم يحتقرونهم سرا، والذين اخذوا يتبرأون منه واحدا بعد الآخر ويطالبونه بضبط النفس والاستجابة لمطالب ميدان التحرير التي تلخصت في مطلب واحد وهو رحيله عن السلطة، وللامانة فان الرجل مثلما برع طول الثلاثين سنة الماضية في جر الأمة العربية الى المجهول وفي تصفية القضية الفلسطينية والمتاجرة بحقوق الشعب الفلسطيني وقمع الحركات المعارضة في مصر، فقد نجح وببراعة منقطعة النظير في ادارة الازمة، وجنب البلاد منزلقات خطيرة حتى وان كان قصده هو البحث عن مخرج مشرف وآمن له.. مبارك الذي هالته نهاية بن علي، رفض ان ينتهي الى نفس النهاية وفضل اذا خسر الكرسي ان لا يخسر كل كرامته، وقبل ذلك وبعده رقبته ورقاب افراد عائلته. ولأنه يتمتع بشيء من الذكاء، فقد استطاع ان يخرج من الازمة كالشعرة من العجين كما يقول المثل المصري، وظل طيلة 18 يوما يطل على المحتجين مقدما تنازلا جديدا الى ان انتهى ما في جعبته من تنازلات وخر منهزما مستسلما راضخا لامر الشعب الذي ما كانت ثورته لتنجح لولا ان الذين ظلوا يستعبدون قائده المغوار تخلوا عنه كما يتخلى المرء عن سقط المتاع، وهكذا استطاع مبارك ببعض الذكاء الذي يتمتع به ان ينقذ رأسه ويجنب مصر حماما من الدم. لكن خلافا لبن علي ومبارك يعتقد العقيد الليبي معمر القذافي بأنه يمكنه ان يسبح ضد التيار وان يجهض الثورة التي زلزلت نظامه. ومثل التلميذ الذي لا يستوعب ولا يراجع الدروس اختار الزعيم، بدل الحوار والتهدئة، لغة التهديد والوعيد والشتم والتحقير والمجابهة بالسلاح، متغافلا عن حقيقة اساسية وهي ان ثورة «المڤملين» كما وصفهم تلقى كل الدعم والتأييد من الذين ظلوا يضعون النظام الليبي على القائمة السوداء وينتظرون اول فرصة للاجهاز عليه، وليس هنالك افضل من هذه الفرصة وها نحن نرى كيف يتعامل هؤلاء مع الازمة الليبية اذ سخروا وسائل الاعلام المختلفة لتأجيج الازمة وصب الزيت على النار، وسارعوا الى تحريك مجلس الامن وفرض عقوبات على القذافي وعائلته ومقربيه، واقروا بجره الى العدالة الدولية بتهمة ارتكاب جرائم ترقى الى جرائم حرب، ولم نشهد مثل هذه التعبئة ولا هذا التحرك لمعاقبة اسرائيل التي ارتكبت جرائم مروعة في حق اطفال ونساء غزة قبل سنتين. القذافي، وخلافا لبن علي ومبارك لم يحسن ادارة الازمة في بدايتها، ورغم جهود سيف الاسلام لاستدراك الاخطاء الا ان حظوظ انقاذ النظام من الانهيار تبقى ضئيلة في ظل الحملة الغربية التي تستهدفه، وتبقى التساؤلات مطروحة حول المنحى الذي ستأخذه الازمة الليبية والنهاية التي تنتظر القذافي والتي يتخوف كثيرون من أن تكون شبيهة بنهاية صدام المأساوية بالنظر الى نقمة الغرب وتجنيه الواضح عليه.