تحل ذكرى اليوم العالمي لحرية الصحافة هذه السنة في ظرف يتميز بإطلاق النقاش الوطني حول واقع ومستقبل حرية التعبير في ضوء التجربة المتراكمة والمواقف الأخيرة للقاضي الأول للبلاد بإعلانه القناعة بالعمل باتجاه إسقاط صفة الجرم على الأعمال والأنشطة الصحفية بما يعزز المكاسب الثمينة لمهنة الصحافة دون المساس بمبادئ الحريات العامة والفردية ضمن الأطر القانونية. المطلوب اليوم هو السعي لإرساء حرية الصحفي بالدرجة الأولى ومنه تؤسس قيم حرية التعبير بالمقاييس المهنية والأخلاقية المتعارف عليها في المجتمعات الديمقراطية، وبالطبع يقتضي هذا العمل بسرعة ومسؤولية نحو وضع أدوات قانونية لتاطير المهنة من حيث تطوير القانون المنظم لها وتأسيس البطاقة المهنية الوطنية وتأطير سوق الاتصال بالنسبة للموارد البشرية التي تحترف الصحافة من خلال رد الاعتبار للمسار المهني الاحترافي وترتيب الأصناف المهنية بما يضع حدا لتسلل من هب ودب إلى عالم هذه المهنة التي تتعرض منذ تحريرها وتكريس تعدديتها مما سبب لها أضرارا بليغة بحيث تحول جانب من مساحة حرية الصحافة إلى ميدان لتصفية حسابات بين لوبيات وجماعات مصالح غامضة وتراشق بين أحزاب وزعامات سياسية بينما لا يزال حق المواطن في إعلام صادق وشفاف يعاني من تأثيرات وإفرازات محيط متقلب ومتداخل ويقتضي التكفل بهذا الحق الدستوري تزويد الساحة المهنية بالأدوات القانونية والتنظيمية اللازمة بما يضمن كسر أي احتكار محتمل ذلك أن حرية التعبير مفهوم شامل لا يقبل التجزئة أو الاحتكار. في ظل الواقع الراهن لا يمكن القول أن الساحة الإعلامية بلغت درجة عالية من الاستقلالية الصحيحة طالما أن الرأسمال والنفوذ البيروقراطي المناهض لمسار التطور السلس للمجتمع واتساع رقعة الفساد والفاسدين كلها أدت إلى محاصرة المهنة وجعل المهنيين الاحترافيين في الصف الثاني مما يتطلب مضاعفة دور الدولة باعتبارها الضامن للحريات، وطالما أن الضوابط لم تؤسس لحماية المهنة والمهنيين من سطوة المال خاصة الفاسد منه وهو أمر ينبغي التوقف عنده بما يحمي حرية التعبير باعتبارها قاسما مشتركا للمجموعة الوطنية بكامل مشاربها ومراجعها ولكونها أيضا دعامة ضامنة لنمو الديمقراطية كقيمة حضارية للأجيال ضمن الحرص على صون المبادئ والثوابت الجوهرية المشكلة لعناصر الهوية الوطنية والمكرسة في بيان أول نوفمبر الذي أنار الدرب للعباد والبلاد فخلص الجزائر من قبضة استدمارية أتت على الأخضر واليابس لولا أن قاومها الجزائريون أبا عن جد وجيلا بعد جيل متمسكين بالهوية الجزائرية بكامل موروثها الحضاري والتاريخي والعقائدي. لقد دفعت الصحافة الجزائرية ثمنا باهضا لتأسيس خيار التعددية والاستقلالية المنشودة وإرساء ثقافة شرف الكلمة الحرة باعتبارها الغاية والوسيلة مما يضاعف من مسؤوليتها في هذا الظرف لحماية مكاسبها بعيدا عن التحول تحت أي شعار كان إلى طرف في الاختلافات التي تشهدها الساحة وهو أمر طبيعي في مجتمع انخرط كلية ودون إعداد في مسار تحولات تميز في مرحلة معينة بالعنف والإرهاب، ويقتضي شرف الكلمة الذي يعد جوهر شرف المهنة الاحتفاظ بنفس درجة البعد أو الاقتراب من شركاء الساحة الوطنية دون السقوط في المزايدة أو محاولة لعب أدوار ليست من اختصاص الإعلام نفسه إذ لا يمكن لصحيفة أن تكون بوقا أو أداة في خدمة جهة أو جماعة حتى لا تخسر قيمتها أو تفقد مركزها في المجتمع ومن ثمة بقدر ما لها من حقوق عليها أيضا واجبات ثقيلة أولها السعي إلى إظهار الحقيقة وترقية الحس الإعلامي وترقية المواطنة لدى المجتمع بكل شرائحه ونبذ القذف أو الترويج لمغالطات بشان أي قضية من قضايا الرأي العام ذلك أن للحقيقة وجه واحد. وجدير بالتذكير في هذا المقام انه ليس هناك أكثر من مفهوم لحرية الصحافة وبالتالي لا يحق لجهة محاولة احتكارها أو الظهور بمظهر البطل ذلك أن المسالة في الأصل ترتبط مباشرة بمبدأ الحرية نفسه ومن ثمة بمدى حرية الصحافي نفسه وقدرته على الإفلات من سلطان المال أوالسلطة أو نفوذ أي طرف كان، وهنا يطرح السؤال هل للصحفي المهني الأدوات والوسائل التي تجعله كذلك فيكون في منأى عن ضغوطات أو مساومات تسيء للمهنة وللمهنيين الذين بقدر ما يدعون لتعزيز مساحة الحرية والضمانات بقدر ما يتحملون مسؤولية ترجمة تلك الحقوق بعيدا عن المساس بالحريات أو بأسس المجموعة الوطنية خاصة في ظل تطورات الديناميكية المتسارعة للعولمة التي تستهدف المجتمعات الهشة بهدف تحويلها إلى أسواق تستهلك الجاهز دون أن تكون لها فرصة المساهمة في إرساء نظام عالمي جديد يكون عادلا وشفافا علما أن الصحافة الوطنية بكامل ألوانها مستقلة أو عمومية أو حزبية كانت دوما في المقدمة للدفاع عن الوطن والشعب وهي من خصال الإعلام الوطني الذي يضرب في جذور الحركة الوطنية عبر التاريخ وكان دوما يتميز بالاختلاف في التصورات والطروحات دون أي تساهل في الدفاع عن اللحمة الوطنية.