قاوم حملات التغريب الاستعمارية المروجة عبر جريدتي «المعيار» و» الاخلاص» ولَمْ يكد الطفل علي يبلغ سِنَّ العاشرة حتى ختم أولى الختمات، وتصدى للختمة الثانية، وهي ختمة الإتقان والتَّثَبُّتِ والدربة والمعايشة الحقة لأسرار التنزيل، من حيث ضبط الآيات نُطْقًا وضبطها رَسْمًا، والموازنة بين فوارق الضبطين وإدراك ما بينهما من سِرٍّ وإعجازٍ . وبعد فراغه من ثاني الختمات بقي اتصاله بالقرآن اتصالا مباشرا يَطَّرِدُ ويترسخ مع الأيام والسنين.
ولَمْ يكد الطفل علي يبلغ سِنَّ العاشرة حتى ختم أولى الختمات، وتصدى للختمة الثانية، وهي ختمة الإتقان والتَّثَبُّتِ والدربة والمعايشة الحقة لإسرار التنزيل، من حيث ضبط الآيات نُطْقًا وضبطها رَسْمًا، والموازنة بين فوارق الضبطين وإدراك ما بينهما من سِرٍّ وإعجازٍ . وبعد فراغه من ثاني الختمات بقي اتصاله بالقرآن اتصالا مباشرا يَطَّرِدُ ويترسخ مع الأيام والسنين. وبعد إتقانه للختمة الثانية حرص عَمُّهُ العلامة الحاج عمر على متابعته وإعداده من حيث اللغة والنحو، بالإضافة إلى تلقينه جملة أخرى من العلوم الشرعية، وإلزامه بحفظ طائفة من المتون التي تخدم تقويم اللسان وتساعد على ترسيخ التلقي النظري، وتغرس في النفس ملكة العلم، وتنشئ قابلية الاستيعاب والاستزادة من الطلب. الزيتونة وجهته لطلب العلم وفي سِنِّ اليفاعة الأولى وَلَّى وجهه شطر الزيتونة التي كانت تُشَدُّ إليها رحال المحظوظين من طلبة العلم، دون أن يمرَّ بقسنطينة التي كانت محطة علمية هامة للعديد من أترابه وأصحابه من أبناء جيله الذين كانوا ينهلون من دروس رائد النهضة الإصلاحية الأستاذ الإمام عبد الحميد بن باديس، ولعل عدم ذهابه إلى قسنطينة يرجع إلى سببين : السبب الأول : الإعداد العلمي المتين الذي تلقاه على عمه العلامة الحاج عمر، وهذا الأخير هو الذي أشار عليه بالذهاب مباشرة إلى الزيتونة. السبب الثاني : ثراء والده الذي ضمن له تكاليف الرحلة، ووفر له أسباب العيش طيلة إقامته بالزيتونة، بالإضافة إلى سفره مع ابن عمه الأستاذ عبد القادر مغربي الذي يكبر مترجمنا سِنًّا وله معرفة جيدة بتونس وبالزيتونة التي درس فيها، مما جعل والده يطمئن عليه. وقد كانت الزيتونة في ذلك العهد حلما بالنسبة للسواد الأعظم من الجزائريين الذين حال بينهم وبين استكمال تَعَلُّمِهِمْ الفقر المدقع الذي كاد يشمل كل طبقات الشعب، وكان صاحب الحظ وحده هو الذي يظفر بذلك الامتياز، أو بعض المغامرين من ذوي الإرادات النادرة الذين تتحدى عزائمهم الأخطار والمهالك، وقد سمعنا بمن ذهب إلى الزيتونة والأزهر مشيا على الأقدام !!! وأثناء مقامه بمؤسسة عبد الله بن الحبحاب، شارك الشاب علي مغربي في العديد من النشاطات الطلابية المتميزة إلى جانب زمرة من زملائه نذكر منهم : صديق عمره الأستاذ الأديب العلامة الحفناوي هالي والأستاذ عبد الغني بن رابح والأستاذ البحاثة المهدي البوعبدلي، ومن أهم تلك النشاطات تأسيسهم لِ : ( جمعية الطلبة الجزائريين ) التي كان فقيدنا علي مغربي عليه رحمة الله كاتبها العام، و ( جمعية الطلبة الجزائريين ) هذه تَمَّ تكوينها على إثر زيارة خاصة قام بها الأستاذ الرئيس العلامة محمد البشير الإبراهيمي إلى الطلبة الجزائريين بالزيتونة، وكان الغرض الأساسي من هذه الزيارة هو تسفيه قالة السوء وما حملته من افتراءات وإشاعات داخل أوساط الطلبة الجزائريين، وهي فتنة تولَّى كبرها المناوؤون لجمعية العلماء من الدخلاء والمغرضين الذين أرادوا تفجيرها من الداخل، والقضاء عليها في مهدها، لأنها لا تخدم مشربهم المتعصِّبِ ( الشوفيني ) ولا تتقاطع أفكارها وغاياتها مع خبالهم المتطوح في متاهات التصوف الفج، ولا تتلاقى توجهات الجمعية مع إلهاماتهم التي يزعم أشياخهم أنها روح الكرامة التي يجب التسليم بها والاذعان لسلطان زيفها المتهافت الذي ليس له من مرجعية يثبت بها علم، أو يستقيم بها اعتقاد، سوى هرطقة المرائي التي تهيمن عليها حكومة المنام، ويتصرف في حتمية مآلها منهج « دُقْ تَذُقْ « !!! ... على هذا النحو من الجهاد المشهود شهر الأستاذ الإمام محمد البشير الإبراهيمي سيف النضال في وجوه مطايا الاستدمار، وتكفل بمطاردة الشائعات واقتفاء آثارها بالمحو والاجتثاث، وكانت زيارته بمثابة التحصين الثقافي للطلبة الجزائريين بالزيتونة، وكان حديثه إليهم وخطابه فيهم بمثابة التطعيم ضد وباء خرافة الطرقية، وكانت الشحنة المخلصة التي بثها في وعيهم أقوى من كيد الطرقية، وأصلب من دهاء المتسولين باسم الأموات، وكان تفنيده لما يشاع ويذاع عن الجمعية بألسنة بطانات الشرك، وخدم التصوف الكاذب عبر وسائل إعلامية متحاملة كجريدة : ( المعيار ) وجريدة : ( الإخلاص )، والمعروف أن كلتا الجريدتين كان يدعمهما الاستدمار بالمال والرخصة لفائدة صاحبهما الذي سعى لإحداث شرخ في جدار الإصلاح، وانتصر لِ : ( جمعية علماء البدعة ) حتى لا أقول السنة إلا أنه لَمْ يفلح كغيره من الدخلاء في احتواء جمعية العلماء وتحويل مسارها عن مشرب السلف، وصرفها عن منهج الإصلاح، والاستمرار في مهزلة تنفيذ مشروعه التدميري الخاسر. نضال من أجل الهوية الجزائرية لَمْ يكن الطريق الذي اختارته جمعية العلماء طريقا سهلا ميسورا، ولَمْ يكن البرنامج الذي سطرته برنامجا ظرفيا أو مؤقتا، ولَمْ يكن قطف الثمار المرجوة مُنتَظرًا على المدى القصير، ولكنها الخطة الشاملة التي تؤمن بجدوى النتائج التغييرية إذا توافرت أسباب النجاح القائم على الدراسة التي لا تترك جيبا للعفوية أو مطبة للعشوائية والاعتباط. وكان لهذه الكوكبة من الطلبة الجزائريين على الرغم من شبابهم الغض الدور الرائد في النضال عن كل القضايا التي يمثلها برنامج جمعية العلماء والاستمساك بمنهاجها وتعاليمها. وكان لزيارة الأستاذ العلامة محمد البشير الإبراهيمي الأثر الإيجابي في تعميق الوعي، وتجلية مدلول الهوية، وتحديد الغرض من تَعَلُّمِهِمْ وما ينتظرهم بعد ذلك من كفاح قد يطول، ومسؤوليات قد لا ينهض بها سواهم. كانت مدة الدراسة بالزيتونة مرحلة حاسمة في حياة مترجمنا، عرف فيها حدة الصراع، وعرف فيها الاتجاه الفكري الصحيح، وعرف فيها أبجديات التنظيم الطلابي، وتشرَّبَ خلاصة من المبادئ والتجارب، واكتسب على مدى سبع سنوات قدرة على التنظيم والدفاع عن قضايا وحقوق الطلبة، وهي جملة من المزايا التي أهلته لخوض غمار الإصلاح الذي ساهم فيه مساهمة فعالة، وعايش مساره التغييري معايشة الروح للجسد. تَخَرَّجَ الشيخ علي في الزيتونة سنة : 1935، (( ... وكان أصغر المتطوعين في دفعته ))، وهذه الرواية ذكرها لي الأستاذ المجاهد جمال الدين ميهوبي الذي سمعها بدوره من الفقيد، وتحصل على شهادة العالمية، وكان ترتيبه الأول من بين مائة وثمانين طالبا، وبعد عودته إلى بلدته فرفار تطوع بإعطاء دروس مسجدية، وحاول النهوض بمستوى العوام وترقية ثقافتهم، وكانت تجربته بين أهله وعشيرته الأقربين موفقة وإيجابية وبمثابة التمهيد لدوره اللاحق في ميدان التربية والتعليم، وبقية نضالاته الأخرى التي خدمها بإخلاص، وظل وفيا لها وملتزما بخطها الإصلاحي إلى آخر أيامه. ويبدو أنه لَمْ يمكث طويلا في بلدته، ثم توجه نحو عاصمة الجزائر استجابة لدعوة جمعية العلماء التي طلبته كما طلبت غيره من النخبة المتخرجة في تلك السنة لحضور الاجتماع السنوي العام للجمعية، ولا أستبْعِدُ أن يكون لِبَلَدِيِّهِ الأستاذ الرئيس محمد خير الدين الدور الكبير في توجيه تلك الدعوة إلى فقيدنا وإيصالها إليه محاولة منه لدمجه في خضم الإصلاح، وجعله من أولئك الشباب الذين سيحملون مشعل الجمعية في طول البلاد وعرضها، ويصبحون بمرور الأيام الامتداد الطبيعي لأشياخ الجمعية والجيل الذي سيخلف رادتها ومؤسسيها. مع العلامة مبارك الميلي وحضر مترجمنا الاجتماع السنوي العام للجمعية في موعده المحدد، وأسندت إليه مهمة معاونة الأستاذ العلامة مبارك الميلي أمين مال جمعية العلماء . وباشر مهمته على الفور في مساعدة الشيخ الميلي في تنظيم الشؤون المالية وضبطها قبل تقديمها للاجتماع العام، كما ساهم بكلمة ألقاها أمام المشاركين في ذلك الاجتماع، وهي مثبتة ضمن أعمال سجل مؤتمر جمعية العلماء المطبوع سنة 1935 ( من ص : 183 إلى ص : 186 )، وبعد اختتام أشغال المؤتمر كلفه الأستاذ الرئيس محمد البشير الإبراهيمي بجمع كل ما ألقي في المؤتمر وجمع صور المتدخلين، فقام بواجبه أحسن قيام، وكان لهذه المهمة أثرها الواضح في أعماق نفسه وفي تشكيل معالم شخصيته وصقلها على التضحية وتمرينها على إتقان العمل العلمي الجاد. وبعد مشاركته في مؤتمر جمعية العلماء، رجع إلى بلدته واستأنف التدريس في مسجد سيدي يحي بن أحمد الذي كان قائدًا سُنِّيًا، وقد يكون هذا الأخير من أتباع الزعيم المصلح والقائد المجدد الشيخ سعادة الرحماني السني ( دفين ليشانة ) الذي كانت له مع أمراء بني مزني صولات وجولات مظفرة انتصر فيها للسنة، وقاوم مظالم حكام بسكرة المستبدين. ( يتبع)