تحل الذكرى التاسعة والأربعون لاسترجاع السيادة الوطنية وبالبلاد تتطلع لمواجهة تحديات العشريات المقبلة في ضوء ما تفرزه العولمة السياسية والاقتصادية والتكنولوجية من رهانات لا يمكن إحكام القبضة عليها إلا بالالتزام بمنهاج عمل شامل ومتكامل يعتمد منظومة المبادئ والقيم والقوانين التي انتهجتها بلدان عرفت كيف تخرج من عنق الزجاجة وتفتح لنفسها المجال واسعا لتتبوأ مكانة متقدمة في محفل الأمم وذلك على الأقل في محور من محاور الصراعات الدولية الساخنة والتي لا تعطي حظا أوفر للبلدان والمجتمعات المترددة أو المتكاسلة. تؤكد التطورات الحاصلة على الساحة العالمية أن كل القضايا من السياسية إلى الاجتماعية مرورا بالتكنولوجية ترتكز في إيجاد حلول لها على العامل الاقتصادي بامتياز وقد اظهرت إفرازات الأزمة المالية العالمية الأخيرة كيف أنها عصفت بالأوضاع بلدان مستقرة سياسيا لجأت بسرعة إلى الدواليب الاقتصادية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. وتصارع الجزائر احتمالات المستقبل على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية مما يجعل خيار الاستشراف بالحد الأدنى على الأقل من المناهج والأدوات مسالة حتمية لارتباط الموضوع في لبه بالسيادة الوطنية عنوان ذكرى الاستقلال وهوية مسار طويل من الكفاح والعذاب تحملته أجيال متعاقبة في مواجهة استعمار استدماري أتى على الأخضر واليابس واستنزف بلا هوادة الخيرات المادية والبشرية لبلد خصب، بل انه حاول يائسا تدمير الهوية الوطنية التي تبقى مصدر الطاقة الذي لا ينضب للتزود بالحيوية التي تحتاجها المرحلة التنموية المستقبلية. وبالفعل تبقى الموارد البشرية الحلقة القوية في الدورة التنموية ومصدر النهوض والتجديد، ولنا في جيل نوفمبر خير دليل حينما قرر الانتفاضة المسلحة في وجه الاستعمار بكل أدواته وبرامجه مفضلا تخليص البلاد من براثينه بكل ما كرسه من إجرام وتخلف واحتقار للإنسان وتمييز عنصري وثقافي وسرقة ممنهجة للخيرات، وقد فضل ذلك الجيل العمل لتغيير الواقع قبل الانزلاق في متاهات استشراف ما بعد الاستقلال مكتفيا بالمحاور الجوهرية لبيان أول نوفمبر التي لا تزال تبحث طريقها للتجسيد الفعلي بسبب العوامل المستجدة والمتغيرات التي لها أيضا دور في تحديد السياسات المختلفة للدول خاصة الناشئة منها. ومن هذا المنطلق فإن أحوج ما تحتاجه الأوضاع اليوم بالموازاة مع تسطير منهاج استشرافي مضاعفة العمل كل في موقعه وعدم الاستثمار في الأزمات لبلوغ أهداف غير معلنة من حزب أو شخصية أو خبير في أي مجال كان ذلك أن المستقبل مسؤولية المجموعة الوطنية برمتها والطريق السليم لبلوغه يمر عبر الدفع بفعاليات وقوى المجموعة الوطنية للانخراط في الديناميكية التجديدية في ضوء استراتيجية واضحة المعالم. ومن ثمة ما تتطلع إليه البلاد أن تستفز الهمم لإحداث الهبة الوطنية والإقلاع ضمن الفضاء العالمي إن كان سياسيا أو اقتصاديا تماما مع مسار مكافحة الفساد وتقنين شفاف لتسيير الشؤون العمومية وإشاعة مساحة الحريات وفقا للقوانين وتكريس مبادئ تكافؤ الفرص وتمكين الكفاءات من ترجمة قدراتهم في شتى المجالات وإنهاء حالة الترقب والانتظار بالحسم نهائيا في الخيارات عن طريق الإرادة الشعبية المعبر عنها بحرية وفي ظل الهدوء. ما أحوج بلادنا في ظل هذه الذكرى التي تحمل تاريخا طويلا بأكمله للعمل أكثر والاجتهاد أكثر والتغيير من الذات أكثر، ورد الاعتبار لمنظومة القيم النوفمبرية في حقول الزراعة وبقايا المعامل وفي الجامعات والمستشفيات والإدارات كل يتقن مهنته حتى تتضح الرؤية وفقا للواقع وتشخيصه في العمق ومن ثمة يمكن الاستشراف.