تمرّ الجزائر بمرحلة فارقة في تاريخها السياسي لفترة ما بعد الاستقلال، ولعل المعطيات التي ترافق الحراك الشعبي منذ 22 فبراير 2019 تنبئ بأنّ الجزائر شهدت زلزالا على مستوى النظام السياسي، وكذا على مستوى التفاعل المجتمعي مع العملية السياسية التي لطالما كانت آخر اهتمامات الشعب الجزائري نظرا لانشغاله بأمور حياتية يومية، وحتى أن النخبة التي أقيلت عنوة أو استقالت اضطرارا من العمل السياسي أو العمل المجتمعي ككل غاب دورها نتيجة غياب البيئة الملائمة التي تتيح الفرص لأصحاب الكفاءة، وكذا غياب التناغم والانسجام مابين الطبقة الحاكمة والمحكومة لسنوات عدة، فغياب الثقة بين الطرفين زاد من حجم الفجوة باعتبار أن مسألة بناء الثقة أساس أي عملية بناء. هذا الوضع الداخلي رافقه مجموعة من التحديات الأمنية والرهانات السياسية والأزمات الاقتصادية التي يشهدها جوار الجزائر منذ ما يعرف اصطلاحا ب «الربيع العربي»، الذي ما هو إلا مشروع غربي لتفكيك المفكك وتجزئة المجزأ في المنطقة العربية التي تمثل قلب الشرق الأوسط المهم استراتيجيا في أجندة القوى العالمية، التي تسعى للاستحواذ على السيادة العالمية في إطار ما ذكره المفكر الأمريكي بريجنسكي في كتابه «رقعة الشطرنج الكبرى»، حيث يمكن اعتبار مشروع الشرق الأوسط الكبير أو مشروع الشرق الأوسط الجديد، الفوضى الخلاقة، الربيع العربي تكملة لمشروع سايس بيكو في القرن الماضي. إن ما انجر من سقوط نظام معمر القذافي في 2011 والأوضاع في تونس والتطورات في الملف المالي، أثّر ومازال يؤثّر على الأمن الوطني الجزائري، وهذا بإفراز تحديات متعدّدة، مترابطة ومعقّدة يصعب على الحل العسكري إنهاؤها أو الحد منها نظرا لأنها تحديات تتشابك فيها المبررات الاجتماعية، السياسية والاقتصادية، ولعل أبرزها مسألة مكافحة الإرهاب خاصة وأن ليبيا أصبحت بيئة ملائمة لتكاثر هذه الجماعات المتطرفة التي تستند على تكتيك الاختفاء واستراتيجية الضرب في العمق بأدوات استخباراتية في إطار الحروب اللاتماثلية التي تصعب مأمورية القائد والجندي في الجيش النظامي، خاصة وأنها مدعومة من جهات أجنبية باعتبار أن الإرهاب صناعة استخبارتية بامتياز تم توظيفها لخدمة مصالح القوى الكبرى في المناطق الجيواستراتيجية التي تتراوح ما بين المناطق النفطية ومناطق عبور الثروات، وهذا ما تكشفه المعطيات الميدانية والتقارير الاستخباراتية منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 التي كانت المنطلق لخلق فزاعة الارهاب في منطقة الشرق الأوسط لتمرير مشاريعهم وضمان تواجدهم في مناطقها الحيوية باسم مكافحة الإرهاب وحماية حقوق الانسان، حيث أن هذه المبررات أصبحت نتيجة التطور التكنولوجي وثورة الاتصالات عبر مواقع التواصل الاجتماعي غير عقلانية فكُشفت المناورات والمؤامرات وفُضحت النوايا لمراكز صناع القرار الدولية بما فيها تلك المنظمات غير الحكومية. ضرورة خلق وتفعيل النّزاعات بغية تنشيط سوق السّلاح الجزائر لطالما نبّهت ودعت ورافعت عن الحل السياسي كمنهج سليم لحل النزاعات الداخلية لدول الجوار والعالم في المحافل الدولية باعتبار أن التدخلات الخارجية تزيد من الاحتقان وتطيل أمد النزاعات، فمثلا إن دُعم كل طرف داخلي في النزاع من طرف خارجي أصبحنا في نزاع دولي بثوب نزاع داخلي، أو يمكن وصفه ب «حرب بالوكالة»، ولعل التحليل الاقتصادي لمسألة الحرب يمكن اختصارها أن الحروب تمثل مصدرا ماليا لاقتصاديات القوى المصنعة للأسلحة، وهذا ما يفسّر وجود ما يعرف في الولاياتالمتحدةالأمريكية «بالمركب الصناعي العسكري»، ومنه تصبح الحرب أداة مهمة لتفعيل وتنشيط سوق السلاح الذي يعرف بالسوق الأكثر ربحية، فالقوى الكبرى تعيش على منطق ضرورة خلق وتفعيل النزاعات بغية تنشيط سوق السلاح، وكذا من الضروري ايجاد مساحات نزاع لتجريب أحدث التكنولوجيات في مجال الصناعة العسكرية. أمام هذه المعطيات الدولية لمفهوم النزاع وحيوية منطقة الشرق الأوسط والرغبة في تفعيل سوق السلاح المربح في ظل أزمة اقتصادية تكاد تعصف باقتصاديات القوى الكبرى، تجد الجزائر نفسها محاطة بحزام ناسف من أزمات معقدة بمجالاتها المختلفة ومستوياتها المتعددة بدءا بالأزمة في مالي، ليبيا، ضعف النظام التونسي، العلاقة التاريخية المتوترة مع المغرب ولعل ما يحدث في ليبيا في بداية شهر أفريل 2019 وبالذات في العاصمة طرابلس من اشتباكات بين القوات التابعة لحكومة الوفاق بقيادة السراج الحكومة المدعومة غربيا وعلى رأسها الولاياتالمتحدة وقوات الكرامة بقيادة خليفة حفتر المدعوم من مصر، الإمارات وفرنسا، حيث اعتبر رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج: «أن حفتر أعلن الحرب على العاصمة وهذا يستدعي الحزم والرد بقوة عبر الاعلان عن الاستنفار العام للمواجهة»، لتصف وسائل الإعلام الأمريكية خليفة حفتر ب «أمير الحرب» أو «الجنرال المتمرّد» دون الدخول في تفاصيل أكثر وحرب التصريحات والتصريحات المضادة بين الطرفين الليبيين والأطراف المدعمة لكل طرف يوحى هذين التصريحين أو يحيل المتتبع للشأن الليبي إلى التفكير بأن الوضع في ليبيا يتجه نحو مواجهة دامية بين الطرفين أو الحكومتين الليبيتين، الأمر الذي يستدعي لتدخل قوات الناتو في الميدان مرة ثانية كما فعلت في بداية شهر مارس 2011 بعد فرض قرار الحظر الجوي بعد مباركة عربية تحت مسمى قرار جامعة الدول العربية الذي مهد لتدخل الناتو في ليبيا، وهو ما يعتبر مخالفة صريحة وواضحة للأعراف والقوانين الدولية، وهو القرار الذي أزم الوضع في ليبيا أكثر، فلم يتوصل الليبيون لحد اليوم رغم مرور أكثر من 8 سنوات على سقوط نظام معمر القذافي الذي اعتبر سببا لمآسيهم إلى بناء دولة مؤسسات تعيد ترتيب البيت الليبي. ليبيا بؤرة توتر دائمة لإضعاف الجزائر من خلال حرب استنزاف ما يحدث في طرابلس من مواجهات بين جيش الوفاق وجيش الكرامة يمكن اعتبارها أنّها فرصة سانحة ثانية لتدخل ميداني لجيوش القوى الأجنبية التي ما فتئت تتحين الفرص لجعل ليبيا بؤرة توتر دائمة لإضعاف الجزائر من خلال حرب استنزاف ودفعها إلى تبني استراتيجية الحرب على أكثر من جبهة لإضعاف الجيش الجزائري وتشتيت قدراته القتالية كما هو معلوم، فإن الوضع الأمني الاقليمي المتأزّم منذ 2011 دفع بالجزائر إلى إعلان حالة استنفار قصوى على حدودها البرية والجوية، فمن الجهة الشرقية درءا لتنقل الجماعات الارهابية من ليبيا إليها وكذا السلاح، حيث أصبحت ليبيا قطبا مهما في السوق السوداء للسلاح، والجهة الغربية حماية للوطن من أخطار التهريب والاتجار بالمخدرات، والجهة الجنوبية كمنطقة عبور لتجار المخدرات، الرق، الجريمة المنظمة والجماعات الارهابية دون أن ننسى تحدي الهجرة غير الشرعية والنزوح الذي تزايد مع الاضطرابات الأمنية في كل من ليبيا ومالي ، فهو يمثل تحد حقيقي داهم للدوائر الأمنية وكذا النسيج المجتمعي. بالعودة لما تشهده الجزائر منذ 22 فبراير 2019 وبالتركيز على سرعة الأحداث، تعددها، تشابكها مع التأكيد على ضبابية المشهد السياسي سواء على مستوى النظام (سوداوية العلبة السوداء للنظام الجزائري) أو مستوى الحراك الشعبي لاعتبارات أن غياب المعطيات الواضحة والدقيقة للعملية السياسية في الجزائر من ناحية صنع القرار وجدلية صنعت التاريخ السياسي الجزائري بامتياز منذ فجر الاستقلال التي تتمحور حول من هو صانع القرار في البلاد؟ ليزيد الجدل مع تداول مفهوم ثنائية الدولة الرسمية والدولة الموازية - الدولة العميقة - كل هذا يجعل من التحليل والقراءة الصحيحة لمآلات الوضع في الجزائر صعب وصعب جدا، غير أن الأمر الواضح والذي يجب الأخذ به وعدم التغافل عنه أن هناك ضرورة لقراءة جامعة شاملة لما يحدث في الداخل والمحيط الخارجي للجزائر بالتوازي، فالسياسة الدولية علمتنا أن لا شيء يحدث بعفوية ولا يوجد لمنطق الصدفة في مجال العلاقات الدولية ومنه يتحرى على الفاعلين الرسميين وكذا النخبة أن تنتبه لمسألة التوقيت، فما يحدث في ليبيا الآن وفي هذا التوقيت بالذات وبالتزامن مع الفراغ الدستوري الذي تعيشه الجزائر ماهو إلا إشارة قوية على ضرورة الاسراع في ايجاد حلول دستورية تعيد الجزائر إلى بر الأمان لقطع أي محاولة لتشتيت قدرات الجيش الذي يعتبر صمام أمام للدولة والشعب على حد سواء، ووأد أي استغلال للفراغ الدستوري في البلاد لتمرير أجندة دولية في المنطقة المغاربية والافريقية التي بُنيت منذ زمن وتنتظر الفرصة لتجسيدها على أرض الواقع. أعتقد أنّ الوضع الراهن للجزائر داخليا وخارجيا يتطلّب العمل بعقلانية تتميز بإيجاد حلول تحقق أكثر الأرباح وأقل التكاليف، فالجزائر ليست بمنأى عمّا يحدث في محيطها فهي ستتأثّر بالإيجاب أو السلب حتما وليس خيارا ليس نتيجة سياساتها فقط وإنما تبعا لمخططات القوى الدولية في محيطها، ولعل أولى الدوائر الأمنية للأمن الوطني الجزائري التي يجب الحفاظ عليها تتمثل أساسا في تحقيق والحفاظ على أمن دول الجوار - المنطقة المغاربية - واختراق هذه الدائرة سيكلّف الجزائر أعباء أكبر ويشتّت قوة جيشها ويجهض الحراك الشعبي لامحالة باعتبار أن قرار المؤسسة العسكرية باصطفاف في صف الشعب وتبنيه لمطالبه سيسلّط الأضواء عليها أكثر ويجعلها تحت المراقبة بحثا عن الثغرات، وربما الأخطاء التي تحملها زلاّت اللّسان من هذا أو ذاك ممّا يجعل المؤسسة العسكرية محل اتهام بالانقلاب على الرئاسة من قبل قوى أجنبية لا طالما انتظرت هذه الفرصة لتفعيل قرارات أممية باسم الشرعية الدولية، الديمقراطية، حقوق الانسان، حماية الحريات للتدخل في الشأن الجزائري بكل أريحية مادامت مدعمة بقرارات أممية، ومن هنا فلربما تطور الأحداث في ليبيا وتقدّم حفتر نحو طرابلس، وتصاعد الصراع في الحدود الشرقية الجزائرية في هذا التوقيت بالذات ما هو إلا مخطط لجر الجيش الوطني الشعبي لنقل ثقله نحو الجهة الشرقية، وإضعاف الجهات الأخرى، وهذا ما يمهّد لاختراق أمني خاصة وأن خروج الملايين من الجزائريين أسبوعيا وخروج الآلاف يوميا يتطلّب مخطّطات أمنية يومية للحفاظ على أمن الأفراد والممتلكات لصد أي محاولة اختراق، وهذا يتطلب استعدادا لوجستيكيا ونفسيا لأفراد الأمن، مع ضمان لهم الراحة النفسية والبدنية لاستيعاب الأعباء وتحمل الضغوطات، فمنذ 22 فبراير والقوات الأمنية مستنفرة، وهذا ما يستدعي ضرورة تواصل التلاحم بين المؤسسة الأمنية بكل مستوياتها والشعب لحماية الوطن من الرهانات الداخلية والتحديات الخارجية، وهنا نرجع لمسألة التوقيت فهناك من سيتساءل كم سيصمد أفراد الأمن في استيعاب ضغوط حالة الاستنفار الأمني؟ وهي جزئية قد تبدو للبعض ثانوية ولكن مهمة في مثل هذه الأوضاع الاستثنائية التي تستغل جزئياتها أكثر من عمومياتها. يمكن التنبيه أن بيان وزارة الدفاع الوطني الذي تضمّنته مجلة الجيش لشهر أفريل 2019 في عددها 669، بيان قوي يحمل الكثير من التطمين للشعب الجزائري، خاصة وأن المؤسسة العسكرية تتعهّد بالوفاء بالعهد في حماية الجزائر، وأن تكون حصنا منيعا للشعب والوطن، غير أن التغيير الشامل المرجو من الشعب يحتاج وقتا وهي حقيقة لا يجب التغافل عنها أو تجاوزها أو إهمالها، وهذا ما يجب أن يعيه كل فرد، إيجاد حل للخروج من الفراغ الدّستوري يتطلّب تغليب صوت العقل وأيضا يجب التأكيد على الحفاظ على المهام الدستورية للجيش وعدم إدخاله في اللعبة السياسية نظرا لخطورة ذلك على الوطن، وعليه فإن الحكمة في إدارة الأزمة وإيجاد حل للخروج من فترة الفراغ الدستوري، تتطلّب تغليب صوت العقل في بناء الثقة قبل بناء الجمهورية الجديدة أو الثانية، وصوت العقل يحتاج لأناس من ذوي الاختصاص والكفاءة يحملون عبء التفكير العملياتي الذي ينتج خارطة طريق تنقل المطالب المشروعة التي نادى بها الشعب وباركتها المؤسسة العسكرية من مستوى القول إلى مستوى التطبيق والتفعيل على أرض الواقع بآليات دستورية وسياسية، وهذا دون إغفال مستجدات الوضع الاقليمي والدولي، مع التركيز هنا على مسألة التوقيت أيضا، فكلما يتأخّر الحل وتجسيده ننتقل لتحديات أكثر وأعقد، وكلّما تعقّدت التحديات وصعبت الرّهانات كلّما حاد مشروع التجديد أو التغيير عن أسسه وغاياته. إنّ مشروع التغيير أو التجديد ليس بالأمر الهين وليس بالأمر المستحيل أيضا، فمسألة بناء الثقة مسألة جوهرية في صناعة الغد، وكذا مسألة التوقيت مسألة مفصلية في تحقيق الخيارات المرغوب فيها ونقلها من مستوى المطالب لمستوى القرارات الممهدة لتحقيق مستقبل أفضل، فالجزائر لا ينقصها شيء لا من الناحية البشرية - المورد البشري الكفء المتميز - ولا من الناحية المادية من ثروات باطنية عديدة وحتى على المستوى التفكيري - التخطيط - ولا حتى من الناحية القانونية التنظيمية- القوانين الجزائرية من أحسن القوانين في العالم التي شملت نصوصها كل القضايا والمسائل - وإنما ينقصها بناء الثقة، تقدير القدرات، احترام القوانين والعمل بها وإنهاء عصر الازدواجية في تطبيقها، مع احترام الوقت فصدق من قال «الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك»، فمسألة الوقت تختلف عن مسألة التوقيت، فالوقت زمن نملكه نحدد فيه ما نرغب به ثم نسعى إليه لتحقيقه، أما التوقيت زمن لا نملكه يتحدد حسب الظروف المرتبطة بعوامل مختلفة متعلقة بنا أو بغيرنا أو محيطنا، لهذا قد تكون الظروف مواتية لنا وقد تكون معرقلة لنا، فما يمكن تحقيقه اليوم قد يصعب تحقيقه غدا وما يصعب تحقيقه غدا قد يستحيل تحقيقه بعد غد... ما تشهده الجزائر من حراك شعبي لحد الآن ملتزم بضوابط الأمن رغم الظروف الأمنية الإقليمية المتوترة فرصة حقيقية لبناء جزائر مزدهرة بنظام سياسي شرعي، واقتصاد قوي غير ريعي، ومجتمع ملتزم بالقواعد القانونية محارب لكل آفات الفساد من محسوبية، رشوة، سرقة ونهب المال، من القاعدة - الشعب - للقمة - السلطة - باعتبار أن القمة مصدرها القاعدة، فلتكن القاعدة المثال المحتذى به في كل المعاملات، ومنه يجب على القمة الالتزام بهذا المثال لخلق التناغم والانسجام بين الشعب صانع السلطة وبين السلطة الحافظة لمصالح الشعب، وهذا ما يلغي احتمال الاختراق الخارجي ويعزّز سيادة الدولة ويحمي الوطن، الوطن الذي هو لنا وليس لغيرنا، فالوطن وطن واحد لا نملك غيره، فمهما عصف الألم فيه فمنه فقط نصنع الأمل.