دخل اليمن مرحلة العد العكسي للخروج من الأزمة السياسية التي ظلت تعصف به منذ فيفري الماضي والتي أخذت تتفاقم وتتعقّد إلى أن تحوّلت إلى ما يشبه الحرب الأهلية التي حصدت مئات اليمنيين أغلبهم من شباب الثورة الذين “سكنوا” الساحات ورفضوا مغادرتها، قبل أن يغادر الرئيس علي عبد اللّه صالح السلطة ويطوي سنوات حكمه ال33، كما طواها من قبله ثلاثة زعماء عرب عصفت بهم رياح التغيير وألقت بهم إلى الهاوية. الشباب يرفض حصانة الخليجيين لصالح بداية الخروج من المأزق السياسي في اليمن، كانت بتوقيع صالح في 23 نوفمبر الماضي بالعاصمة السعودية الرياض على المبادرة الخليجية التي تتضمن إتفاقا سلميا لانتقال السلطة وذلك بحضور راعي المبادرة ومهندسها الملك السعودي عبد اللّه بن عبد العزيز ووزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي ووفدان يمثلان كل من الحكومة والمعارضة، فضلا عن المبعوث الدولي إلى اليمن جمال بن عمر. وبموجب الاتفاق الذي يرمي إلى وقف انزلاق اليمن نحو الفوضى ومزيد من إراقة الدماء، يجري نقل سلطات الرئيس اليمني إلى نائبه عبد ربّه منصور هادي على أن يظلّ رئيسا شرفيا للبلاد لمدة تسعين يوما حتى يجري إختيار رئيس جديد للبلاد، أي أن يحتفظ صالح بلقبه كرئيس، لكن دون أي سلطات ودون القدرة على نقض قرارات نائبه، وتضمّن الاتفاق أيضا منحه حصانة من الملاحقة القضائية وهو البند الذي لقي ولايزال يلقى اعتراضات واسعة خاصة من قبل شباب الثورة الذي يرفض المبادرة الخليجية جملة وتفصيلا، ويعتبرها بمثابة القشة التي مدّه بها جيرانه الخليجيين لينقذوه من حبل المشنقة ومن المحاسبة، وهو الذي إرتكب حسب ما يقولون جرائم ضد الانسانية بعدما استباح دماء شعبه في سبيل البقاء في السلطة.
آلية تنفيذ المبادرة الخليجية تتضمن آلية تنفيذ المبادرة الخليجية ثلاثون بندا وتتكون من ستة أجزاء تدور في تشكيل الحكومة الإئتلافية والانتخابات الرئاسية المبكرة وتمر الفترة الانتقالية بمرحلتين على أن تكون المرحلة الأولى 90 يوما يكون فيها الرئيس اليمني علي عبد اللّه صالح رئيسا سابقا وشرفيا فقط، والمرحلة الثانية تكون سنتين يحكمها الرئيس المنتخب في الانتخابات المبكرة المقرر تنظيمها في 21 فيفري القادم، مع الحكومة الإئتلافية بحكم تقاسم السلطة بين الأطراف السياسية بنسبة 50 ٪ لكل منهما. وتنص المبادرة على تشكيل حكومة وفاق وطني مناصفة بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة التي كانت منضوية تحت كتلة اللقاء المشترك ثم المجلس الوطني في غضون أسبوعين من تاريخ توقيع المبادرة. وقد سمّت المعارضة وزير الخارجية الأسبق الذي التحق بصفوفها محمد باسندوة لرئاسة هذه الحكومة المفروض أن تدير المرحلة الانتقالية إلى جانب نائب الرئيس عبد ربه منصور هادي، وتقود اليمن إلى انتخابات رئاسية مبكرة ستجري في 21 فيفري القادم كما سبق وقلنا، كما نصت المبادرة على تشكيل لجنة الشؤون العسكرية وتحقيق الأمن والإستقرار، وتتكفل بإنهاء الانقسام في القوات المسلحة ومعالجة أسبابه، وإنهاء جميع النزاعات المسلحة وعودة القوات المسلحة وغيرها من التشكيلات العسكرية إلى ثكناتها وإنهاء المظاهر المسلحة في مختلف مناطق اليمن وإخلائها من المليشيات والمجموعات المسلحة وغير النظامية وإزالة حواجز الطرق ونقاط التفتيش والتحصينات المستحدثة في كافة المحافظات. ومن شأن تشكيل هذه اللجنة أن تحدث الانفراج الأمني وتوقف الإقتتال الذي نراه يشتد خاصة في محافظة تعز. كما ستدفع بالشباب المرابط بساحات التغيير إلى إنهاء احتجاجاته، وذلك لأن اللجنة العسكرية ستبعد أبناء صالح وأقاربه من المناصب العسكرية التي يتحكمون من خلالها بقوات الجيش والأمن وهو المطلب الذي يتمسك به المحتجون. الانتخابات الرئاسية المبكرة
بالإضافة إلى تشكيل الحكومة الإئتلافية واللجنة العسكرية نصّ البند رقم 20 من المبادرة الخليجية على إجراء انتخابات رئاسية مبكرة في فترة أقصاها 90 يوما من تاريخ التوقيع على المبادرة وآلية تنفيذها، وتجري هذه الانتخابات المرتقبة تحت إدارة اللجنة العليا للانتخابات، ويلتزم الطرفان بعدم ترشيح أي شخص لخوضها أو تزكية أي مرشح غير المرشح التوافقي نائب الرئيس عبد ربه منصور هادي. وقد أشار هذا البند إنتقادا شديدا حيث اعتبره البعض استخفافا بعقول اليمنيين ومسرحية تمثيلية إنتخابية صورية بطلها واحد هو المنافس وهو الفائز، وتساءل كثيرون كيف اليوم وبعد مرحلة ثورية ضحى فيها الشباب اليمني وجميع الشرائح اليمنية بكل ما يملكون تُعاد ذات المهازل الانتخابية التي كانت في العهد السابق ويتساءلون لماذا تنظيم انتخابات وهدر أموال والرئيس القادم معين مسبقا بشكل توافقي!. شباب الثورة.. المبادرة لا تعنينا رفض الشباب اليمني الذي يهز الشوارع اليمنية منذ ما يقارب السنة المبادرة الخليجية التي اعتبرها قشة أمان من شأنها أن تنقذ صالح وحاشيته من أي حساب أو عقاب على الجرائم التي إرتكبوها وقال، بأنه لم يعلن الثورة ويقدم التضحيات الجسام من أجل أن تتقاسم المعارضة والسلطة الحقائب الوزارية، بل من أجل إسقاط نظام صالح الفاسد وبناء دولة مدنية ديمقراطية تلبي طموحاته. ومباشرة بعد توقيع المبادرة خرج الشباب اليمني من مظاهرات مليونية ليتبرأ من إتفاق نقل السلطة هذا، مصرا على مواصلة إحتجاجاته حتى تطهير كل النظام من الزُمر الفاسدة وعلى رأسها أبناء وأقارب صالح المتحكمين في دواليب الحكم والقابضين على مؤسسة الجيش والأمن. ولم يتردّد المتظاهرون في إحراق صورة الملك السعودي الذي أنقذ حسبهم الرئيس صالح من حبل المشنقة، رغم أنه قتل المئات منهم وتسببت في إضعاف دولة اليمن وتحويلها إلى واحدة من أفقر الدول في العالم، واستغربوا منحة الحصانة لأنه إجراء لا مثيل له في العالم. كما تمسّك الشباب برفض حكم عبد ربه هادي، لأنه حسبهم جزء من نظام صالح وشريكه من الجرائم التي ارتكبها بحقهم، وانطلاقا من هذا الموقف سيكون التحدي الكبير هو تحقيق مطالب الشباب، وبعضها يبدو تعجيزيا، خاصة ما تعلق بمحاكمة صالح، لهذا لن نتوقع هدوءا قريبا للشارع اليمني، بل على العكس قد يواجه اليمن مزيدا من الاحتجاجات والعنف والإقتتال. الخروج من النفق ليس غدا صحيح أن اليمن خطى خطوة عملاقة بعد توقيع الرئيس علي عبد اللّه صالح على إتفاق نقل السلطة، لكن يبدو بأن نهاية النفق مازالت بعيدة والخروج إلى برّ الأمان لن يكون قريبا، فأمام نائب الرئيس عبد ربه منصور هادي الذي آلت إليه صلاحيات رئيس الجمهورية تحديات كبرى ومهام صعبة، إذ عليه إدارة الفترة الانتقالية وتطبيق آليات تنفيذ المبادرة الخليجية وفي مقدمتها تشكيل لجنة الشؤون العسكرية لتشرع هي الأخرى في إعادة بناء القوات المسلحة والجيش ونزع فتيل الاقتتال وإعادة الأمن والاستقرار وإزالة المظاهر المسلحة، وقبل ذلك الإسراع بإبعاد أبناء وأصدقاء صالح الممسكين بقيادة قوات الحرس الجمهوري والأمن المركزي والقومي والقوات الجوية، لأن استمرار تواجدهم بهذه المناصب الحساسة يزيد من توتير الأجواء وإستفزاز المعارضة ودفعها إلى تبني خيارالسلاح. الاقتتال بالمدن اليمنية تحد آخر ويشكل الاقتتال المتواصل بعدة مدن يمنية وعلى رأسها تعز تحديا كبيرا في المرحلة الانتقالية، ويخشى الكثير من المراقبين أن يؤدي العنف المتصاعد إلى نسف الاتفاق السياسي برمته والعودة إلى نقطة الصفر، بل ويؤكد الكثير من هؤلاء المراقبين أن أطرافا عديدة مصرة على نسف الإتفاق والدفع إلى التصعيد الدموي. وفي الواقع مهمة نائب الرئيس لا تبدو سهلة وموقفه لا يحسد عليه، فحجم طموحات الشعب ومطامحه أكبر من أن يقوى على تلبيتها في فترة محدودة، خاصة إذا أضفنا التحديات الكبرى التي تشكلها تحركات تنظيم القاعدة وجماعة الحوثيين والحراك الجنوبي. لقد زادت خلال الأزمة السياسية التي تعصف باليمن منذ فيفري الماضي حدة تنامي المشاعر الانفصالية في الجنوب الذي خاض حربا أهلية ضد الشمال عام 1994، ومخاطر القاعدة التي تسيطر على عدة مناطق، وعلى رأسها محافظة أبين وحدة التوتر الذي يشكله الحوثيون في صعدة. وبالنظر إلى هذه التحديات والرهانات يحتاج اليمن في هذه المرحلة الحرجة إلى من يمد له يد العون لإنجاح عملية الانتقال السلمي للسلطة، واليد هذه يجب أن تكون من الداخل والخارج وفي المقدمة دول مجلس التعاون الخليجي، فأزمة اليمن بالأساس هي أزمة فقر وبطالة وركود اقتصادي، وبإمكان الدول الخليجية التي رعت إتفاق نقل السلطة أن تقف على تنفيذه على أرض الواقع وأن تلتف على أسباب الأزمة لتساعد على استيعاب البطالة التي تنخر المجتمع حتى لا ينجذب الشباب تحت وطأة الحاجة إلى العنف والإرهاب. كما تقع على الغرب والمؤسسات الدولية مسؤولية مساعدة اليمنيين على إقرار الإصلاح الديمقراطي المرغوب وتجاوز المرحلة الانتقالية بأقل الأضرار، والأهم تقديم المساعدات المالية والمادية التي لا يمكن لليمن أن يتجاوز أزمته إلا من خلال توفرها، والكف عن تزويده بالسلاح بحجة محاربة القاعدة والإرهاب لأن السلاح على العكس تماما يزيد تأجيج الوضع وتأزيمه. القشّة الخليجية ويبقى في الأخير ضرورة الوقوف عند الدور الخليجي، الذي استطاع أن ينزع فتيل الحرب التي بدأت تلتهم وحدة وأمن واستقرار اليمن الهش أصلا، كما أنها تمكنت من إيجاد مخرج آمن لصالح وبطانته ليكون أكثر حظا من نظرائه الذين فرّ أولهم وسجن ثانيهم وقتل ثالثهم شر قتلة، وينتظر رابعهم نهاية مأساوية. وإذا كان على الجميع أن ينوّه بهذا الدور الذي ندرك دوافعه الحقيقية وهي الحفاظ على استقرار وأمن اليمن الذي يشكل الحديقة الخلفية للمجلس الخليجي، فالمطلوب استنساخه لإيجاد تسويات سلمية مشابهة للأزمات الحادة التي مازالت تعصف ببعض الدول العربية بدل تصعيدها وتأجيجها. ونعتقد بأنه مثلما استطاعت دول مجلس التعاون الخليجي تطويق أزمة اليمن حفاظا على أمنه الذي يعني أمنها أيضا، فباستطاعتها أيضا أن تجد تسوية للأزمة السورية وعرض مخرج آمن لبشار الأسد بدل لف الحبل حول عنقه وتضيق الخناق عليه لدفعه إلى ارتكاب مزيد من الأخطاء والخطايا لتبرير التدخل العسكري لإرغامه على التنحي من السلطة ومن الحياة الدنيا. ويبقى السؤال مطروحا عن سياسة الكيل بمكيالين والتمييز في معالجة الأزمات العربية وفي التعامل مع القادة الذين يواجهونها.