لا يتوقف الجدل حول ملف الإستراتيجية الصناعية في ضوء المتطلبات التنموية التي تعول على الصناعة لكي تجر القطاعات الإنتاجية وتحديات التمويل التي تفرض صرامة في التخصيصات المالية بفعل التكلفة وحتمية التنافسية التي لا تعطي فرصا كثيرة للنجاة من اعطاب مسار سوق مفتوحة محليا وعالميا بالأخص في ظل الأزمة المالية العالمية التي وان لم تشمل المنظومة الاقتصادية الوطنية في الظرف الراهن، إلا أنها لا تزال تلوح بتهديداتها في الأمدين المتوسط والبعيد، مما يضع مراكز القرار الاستراتيجي في حيرة لا تنتهي بشأن ملفات ثقيلة ومنها ملف الإستراتيجية الصناعية. منذ عهد التصنيع الثقيل خلال السبعينيات، وعقب ما آلت إليه تلك السياسة القوية بالانجازات والمكلفة بالتمويلات، تشكلت على ما يبدو عقدة لدى المقررين الاستراتيجيين وما زاد من حدتها المنافسة العالمية التي داهمت أكثر من بلد وجد في الاستيراد الجاهز مخرجا أقل تكلفة مالية من التصنيع المحلي، لكنه في الصميم أكثر تكليفا من حيث الأبعاد الاجتماعية والتحديات الإستراتيجية بفعل محاذير التبعية للأسواق الخارجية التي تمسك قبضتها على الأسواق المستوردة بما فيه في أبسط القطع الصناعية. بفعل تلك العقدة التي أفرزتها الأزمة المالية لمنتصف الثمانينيات، مما أدى حينها إلى توقيف تمويل برامج المعامل الكبرى للدولة وانسحابها إلى درجة عرض رموز تلك الصناعات الوطنية من مركبات مثل مركب الحجار لشراكة مكلفة على أكثر من صعيد دفعت إليها أزمة السيولة آنذاك والمنافسة الخارجية، كما أعلن عنه رسميا وان كانت هناك قراءات أخرى لا تقل إثارة حول الأسباب والمسببات. قبل أشهر عاد الحديث حول هذا الملف أمام إلحاح الظرف التنموي بأبعاده الاقتصادية والاجتماعية غير أنه عاد ليختفي من أولويات الجدل الوطني ما يدفع لطرح أكثر من سؤال بشأن مدى الحسم في المسألة على مستوى مركز القرار الاستراتيجي. ومنه السؤال هل هناك حاجة فعلا لصناعة بالمفهوم السليم أم لا حاجة بها طالما أن الاستيراد يشتغل بأقصى وتيرة له في ظل الوفرة المالية الراهنة؟. من الطبيعي أن تبدي أكثر من جهة تخوفات من إعادة إنتاج نفس السياسة الصناعية التي لا يمكنها أن تقف على رجليها دون الدعم المالي المباشر من الخزينة العامة، لكن لماذا لا تكون هناك مبادرة بطرح الملف على النقاش من الخبراء من كافة المدارس ذات النفوذ في القرار الأخير واستخلاص النتائج ومنها اتخاذ القرار الحسم بدل البقاء في موقف التردد. وصحيح أن المغامرة بتمويل مركبات ضخمة مثل الحجار والرويبة مثلا أمر مكلف وربما مدمر للاحتياطات المالية التي لا ينبغي أيضا أن تترك كما نائما دون استثمارها بالجدوى اللازمة بل قد تتعرض لمخالب الفساد الذي يتحين الفرص ويتسلل إليها أصحابه بمشاريع استثمار سرعان ما تظهر أنها فارغة ولكن بعد أن يتم تصدير العملة الصعبة إلى الخارج. لقد أعلن من قبل في خضم هذا النقاش الحيوي عن توجه لتحديد عدد من الأقطاب الصناعية التي يمكن الرهان عليها في إطار التنمية المستدامة والقدرة على دخول سوق المنافسة فيها مثل الاكترونيك حول مركب سيدي بلعباس والكهرومنزلي حول مركب واد عيسي بتيزي وزو والميكانيكا حول مركب الرويبة، لكن سرعان ما توقف الحديث بشأنها لأسباب لم يكشف عنها لتتضح الرؤية، فما هي الأسباب يا ترى وهل يتعلق الأمر باختلافات حول الخيارات أم أن هناك نفوذ ما للوبيات الاستيراد وجماعات المصالح التي لا ترى في إعادة بعث نسيج صناعي منافس سوى أنه يضرب مصالحها في الصميم وإلا لماذا لا يسمع صوت لمن يصنفون في خانة رموز القطاع الخاص الوطني ويكتفون باطلاق نوايا لا تنتج مشروعا انتاجيا ويكفي مراجعة قطاع استيراد السيارات فقط للوقوف عند واقع لا يمكن ان يستمر بصيغة الاستيراد دون إبداء انشغال واضح بالاهتمام بإطلاق مشاريع انتاجية على تواضعها. وفي خضم واقع يلفه غموض وانعدام رؤية واضحة لا تزال الشكوك تحوم حول بعض المشاريع المعلنة على مستوى التصريحات مثل ما يتعلق بمشروع شراكة مع شركة رونو الفرنسية لصناعة السيارات على أرضية القاعدة الصناعية لمؤسسة العربات الصناعية بالرويبة ولا يبدو أن وزير الصناعة على اطمئنان لهذا المشروع أمام عقدة التردد لدى المتعامل الفرنسي الذي ينظر للسوق الجزائرية باعتبارها استهلاكية ومربحة ويدرج خيار الاستثمار الصناعي في سياق المسار السياسي لدولته بمعنى توظيف الملف في مسائل تتعدى الاطار الصناعي وهذا موقف ليس وليد اليوم وله أثره في غياب استقدام مستثمر صناعي منافس كان بإمكان بعض المستوردين الوكلاء المحليين في قطاع السيارات وغيره مثل الالكترونيك والكهرومنزلي بذل شيء في هذا الاتجاه على الأقل عرفانا لما أعطته لهم السوق الجزائرية من أرباح ومكاسب سخية وتجسيدا لما لم يتوقفوا عن التبجح به من وطنية وقدرة على تقديم ما لم يقدمه القطاع الصناعي العمومي والذي هاجموه لسنوات ولعبوا على تنقضاته وجوانبه الهشة خاصة من حيث المناجمنت أو التسيير الحديث.