تراجعت أسعار النفط في الأسواق الآجلة خلال شهر جوان الجاري الى ما دون التسعين دولارا لكل من البرنت والخام الخفيف تحت ضغط الركود في منطقة اليورو وفائض انتاج منظمة أوبك. وسرعان ما أبدى الاقتصاد الوطني إشارة سلبية عن توقعات الايرادات من التصدير خلال العام الجاري حيث من المنتظر أن تنزل التوقعات ب 10 مليار الى 15 مليار دولار إذا استمرت اتجاهات السوق في الهبوط وفشل اجتماع قمة العشرين الذي اختتم أعماله أمس الثلاثاء بالمكسيك في حفز الأسواق . فكيف يمكن تفسير هذا الترابط القوي بل الشديد بين اتجاهات أسواق خام النفط في العالم وتوازنات الاقتصاد الوطني؟ وماذا يعني أن تكون هذه هي حال اقتصادنا ونحن نستعد للاحتفال بخمسينية استعادة الاستقلال الوطني بعد أسبوعين من الآن؟ ضريبة الانفتاح غير المدروس كانت بداية الثمانينات من حيث تاريخ الوقائع الاقتصادية في الجزائر تحولا جذريا في السياسة الاقتصادية والمالية للبلاد من خضوع النظام الاقتصادي لتوجيهات الحزب واللجنة المركزية الى تحكيم السوق والانفتاح. وقد بدأ ذلك بإعادة هيكلة المؤسسات في 1982 والتحضير للتعددية الحزبية عن طريق أحداث أكتوبر 1988. هذا التحول هو الذي وضع الاقتصاد الوطني أمام الحقائق وليس أمام الخطاب السياسي، وما أكد تلك الحقائق أزمة 1987 شرق آسيا والتي أدت الى الصدمة البترولية الثانية وبالتالي الى أزمة المديونية التي انفجرت العام 1993. الأزمة البترولية أكدت هشاشة الاقتصاد المبني على الريع النفطي ودفعت المنظرين للتفكير فيما بعد النفط، ولكن على المستوى التنفيذي لم تستفد الجزائر من هذا الوعي حتى الآن ومازالت السياسة الاقتصادية الوطنية مبنية على الانفاق العمومي للخزينة وهو الانفاق المبني على جباية المحروقات وليس على الثروة الناتجة عن القطاعات المنتجة. وعلى مستوى الحكومة أنشأت الدولة العام 2000 وزارة خاصة بالمؤسسات الصغيرة والمتوسطة ولكن قبل مرور عشر سنوات من انشائها أعادت السلطات ادماج القطاع في وزارة الصناعة وترقية الاستثمار، وهذا خطأ تنفيذي كبير لأنه أفرغ قطاعا حيويا وواعدا من سياساته المركزية. وعلى مستوى القوانين سهلت الدولة من تدابير الاستثمار ولكنها لم تعالج مشكلة الادارة الاقتصادية وملفات الفساد ولم تفرق بين الاستثمار المنتج للثروة والاستثمار الموجه للاستيراد. وعلى مستوى الانفاق العمومي على الاستثمار مازلت السلطات تفضل القطاع العام عن القطاع الخاص والدليل على ذلك استمرار معوقات الاستثمار المتعلقة ب: العقار الصناعي، العقار الزراعي، التمويل البنكي، التمويل بالبورصة، التصدير، الجباية. ومن الناحية الاحصائية يكفي أن نعرف بأن نسبة الصناعة في الناتج الداخلي الخام لا تزيد عن 5 بالمائة، وأن واردات الجزائر ستصل نهاية 2012 الى 50 مليار دولارا وهو رقم سيقترب من حجم الصادرات الجزائرية من المحروقات لو تستمر أسعار النفط في الهبوط. كل هذا يدل على أن ارتباط الاقتصاد الوطني بإنتاج المحروقات لازال كبيرا، بل قويا وأن السياسة الوطنية لإنتاج الثروة خارج المحروقات غير فعالة لحد الآن. الاستراتيجية التائهة في العام 2001 كانت لي الفرصة في المشاركة في اعداد مشروع القانون التوجيهي و«استراتيجية قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة» في الجزائر عندما شغلت منصب مدير الدراسات والاستشراف في الوزارة المعنية بهذا القطاع. وركزت الاستراتيجية على حزمة من الآليات والمراسيم التنفيذية قامت السلطات بتجسيدها ميدانيا مثل آليات الدعم، التأهيل وضمان التمويل. ولكن برزت عوامل أخرى خارجة عن نطاق قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة أثبتت التجربة أنها المتحكمة فعلا في نجاح القطاع بالجزائر ونقصد بذلك: مناخ الأعمال في الاقتصاد الكلي الذي مازال يصب في صالح القطاع العام، ضعف الشفافية في الأسواق مما سهل من دور الاقتصاد الموازي واقتصاد الاستيراد، درجة الفساد التي مازالت تعيق تقدم المؤسسات الخاصة التي تعمل بشفافية وتتقيد بالقانون، فوضى السوق والتهرب الجبائي الذي يجعل من تكلفة الانتاج لدى المؤسسات التي تعمل وفق القانون أعلى منها لدى المؤسسات التي تعمل في السوق الموازية، نظام الجباية والضرائب المختلفة التي تعيق تراكم رأس المال وتوسع المؤسسات الخاصة، وأخيرا التمييز بين مؤسسات القطاع الخاص والقطاع العام عند منح الصفقات وإن كانت قرارات الثلاثية تنص على العكس وهذا راجع الى عدم توفر أغلب مؤسسات القطاع الخاص على شروط التأهيل. وفي موضوع التأهيل يجب التذكير بأن الدولة خصصت 5 . 5 مليار دولار لهذا الملف بموجب الخطة الخمسية 2010 2014، ولكنها لم توفر الشروط التقنية ومكاتب الدراسات لاستقبال ملفات 20 ألف مؤسسة معنية بهذا البرنامج. وهذا مثال واضح على القرارات التي تتخذ دون دراسة حقيقية. هل يمكننا الاستغناء عن النفط ؟ لا يمكن الاستغناء عن مداخيل المحروقات في الوقت الحالي، والسعر العالي للنفط يسمح لنا برسملة الاقتصاد الوطني على أساس المؤسسة المنتجة للثروة والمنتجة للبحوث الصناعية والفلاحية. مداخيل النفط عامل مساعد في جر قاطرة الاقتصاد الوطني نحو النمو المستديم ونحو التنمية متعددة الأقطاب. والاستغناء عن ايرادات المحروقات موضوع يحكمه الزمن حيث أن العمر الافتراضي لهذا القطاع الريعي لا يزيد عن نصف قرن أي في حدود 2060. السياحة بالنسبة للدول ذات المحتوى السياحي أحسن بكثير من حيث المردودية الاقتصادية من النفط. في هذه السنة 2012 ممكن للجزائر أن تلامس 70 مليار دولارا من صادرات المحروقات وربما أقل حسب اتجاهات الأسواق نفط وغاز طبيعي ومسال وهذا ايراد مهم لو يوضع في خطة دعم الانتاج الصناعي، الزراعي والبحوث والتكوين وتأهيل القطاعين العام والخاص في الاقتصاد الوطني. لا أحد بوسعه أن ينادي بالتخلي عن ايرادات المحروقات ولكن الأصوات تكاد تجمع على أمر واحد: الرفع من نسبة النمو خارج المحروقات ومن نسبة الصناعة والفلاحة في الناتج الداخلي الخام، والى احلال الواردات بالإنتاج الداخلي وزيادة نسبة التصدير خارج المحروقات في ميزاننا التجاري.