تعتبر مجازر ماي 1945م إحدى أفظع الجرائم الاستعمارية الفرنسية وأهم المحطات التاريخية في مسار الحركة الوطنية والنضال السياسي الجزائري الحديث، إذ فضحت الوجه الاستعماري البشع للاستعمار الفرنسي الذي كان يتغنى بالقيم الإنسانية ويتستر برداء الحضارة التي كانت تسوق لها أذرعه الإعلامية ووسائل الدعاية الكولونيالية، كما كانت منعرجا حاسما ومفصليا في مسار كفاح الشعب الجزائري ونضاله من أجل نيل حريته واستعادة استقلاله وأرضه المغتصبة. المجازر البشعة كانت بمثابة منعرج حاسم، أشّر لنهاية مرحلة وبداية أخرى، إذ اقتنع كثير من قادة ونشطاء الحركة الوطنية من ان لا جدوى من الرهان على النضال السياسي السلمي في مواجهة الآلة الاستعمارية التي أثبتت دمويتها واتخاذها من العنف لغة ضدّ كل من يقف في وجه الاحتلال. وكانت مدن سطيف، قالمة وخراطة وغيرها من المدن والقرى والمداشر مسرحا لمجازر دموية وجرائم مروعة لن يمحوها الزمن من الذاكرة الجزائرية. اقتربت «الشعب» من شهود عيان في ولاية سطيف باعتبارها كانت منطلق مظاهرات تطالب بوفاء الحلفاء بوعودهم بعد هزيمة النازية واستذكرت معهم بعض المواقف والمشاهد المؤثرة لأبرياء عزل لم ترحمهم أسلحة جنود ومرتزقة الاستعمار الغاشم أثناء، وبعد ذلك الثلاثاء المشؤوم (المشوم)، كما يطلق عليه بعض كبار المنطقة، كما اقتربت من بعض الأكاديميين لأخذ رأيهم في الأهمية التاريخية لتلك المجازر. وكما هو معروف، انطلقت المظاهرات بتاريخ الثلاثاء 8 ماي 1945 الذي صادف يومها السوق الأسبوعي بمدينة سطيف وتوافد عديد سكان القرى والأرياف المجاورة بعد أن لبى الجزائريون دعوة قادة الحركة الوطنية التي كانت سطيف أهم معاقلها للخروج تعبيرا عن سعادتهم بانتصار الحلفاء على النازية في الحرب العالمية الثانية ومطالبة فرنسا بتحقيق عهودها ووعودها للجزائريين الذين شاركوا معها في الحرب وتجسيد وعود ميثاق الأطلسي بمنح الحرية للشعوب المضطهدة. من مسجد أبي ذر الغفاري انطلقت المسيرة بمشاركة مئات الجزائريين، وساهم فوج الحياة الكشفي الذي أسسه حسان بلكيرد بسطيف في تنظيم المسيرة وتأطيرها كما تؤكد كل المراجع والمصادر وكان فتيان الكشافة في طليعة المتظاهرين بقيادة عيسى شراقة الذي كان أول من حمل الراية الوطنية والشهيد بوزيد سعال الذي استلمها منه كان أول شهيد سقط في برصاص الاحتلال الفرنسي، كما يؤكد الصحفي كمال بن يعيش صاحب كتاب «سطيف المقبرة الجماعية» الذي يتناول مجازر الثامن من ماي 1945 بالتفصيل. غير أن الآلة الاستدمارية تحركت لقمع المتظاهرين وثارت ضد من حملوا الراية الوطنية واللافتات السلمية المعبرة عن مطالب الجزائريين في إطلاق سراح المسجونين وغيرها من المطالب المشروعة، وتم إطلاق الرصاص على المتظاهرين وتوفي منهم العشرات، لتمتد بعدها الأحداث إلى عديد القرى والمداشر بمنطقة سطيف وبجوارها قالمة وخراطة، وتشمل بالخصوص الناحية الشمالية، على غرار بني عزيز وبني فودة وعين الكبيرة وعموشة وتيزي نبشار والواد البارد واوريسيا وعين عباسة والبحيرة والموان والعلمة وبوقاعة. دامت تلك المجازر الدامية أكثر من شهر خلفت آلاف الشهداء والمعتقلين والمساجين وفضحت الوجه البشع والدموي للاحتلال الفرنسي وأذرعه من فرق المرتزقة السنغاليين (الساليغان)، عبر عنها الشيخ البشير الإبراهيمي أحد قادة الحركة الوطنية ورجال جمعية العلماء المسلمين الذي عايش الحدث قائلا: «يا يوما لك في نفوسنا السِّمة التي لا تمحى، والذكرى التي لا تُنسى، فكن من أي سنة شئت فأنت يوم 8 ماي وكفى، وكل ما لك علينا من دين أن نحيي ذكراك، وكل ما علينا من واجب أن ندون تاريخك في الطروس لئلا يمسحه النسيان من النفوس». هم قوات الاحتلال الغاشم «، كما عبر عنها أيضا الشاعر الشهيد الربيع بوشامة (شهيد ثورة التحرير) الذي عاين الحدث وكان من معلمي ورجال جمعية العلماء المسلمين بخراطة الذي عايشوا الأحداث وساهموا فيها بقوله: يا – ماي – قد ظلموك حقا مثلما **ظلموا الضعاف و شوهوك بدام و كسوك ثوب المجرمين إهانة **مقصودة لسنائك البسام ما كنت أهلا للفجائع والأذى**لولا هوى في دولة الأقوام ورموك من بين الشهور بوصمة **شوهاء، تبقى سبة الإعدام مجاهدون يتذكّرون لا يزال المجاهد الحاج منصور واضح البالغ من العمر أربعة وتسعين (94) سنة يتذكّر بأسى كبيرٍ تلقيه مع أقاربه وأصدقائه خبر قصف فرنسا لعدد من قرى ومداشر شمال سطيف، يقول في حديث لجريدة «الشعب» أنه تعرض للتعذيب الجسدي والاستنطاق مدة ثمانية أيام كاملة بالثكنة العسكرية بمنطقة الحامة وسط جبال بوطالب التي ينحدر منها أثناء ثورة التحرير وتذوق أشدّ أنواع التعذيب، لكنه كان يستمد طاقته وصبره من رغبته في الثأر لإخوانه من ضحايا المجازر التي كانت بالنسبة له وللكثير من المجاهدين في المنطقة سببا في الالتحاق بالجبال منذ الأيام الأولى للثورة ويؤكد أن هذه الأحداث غذت رغبة الجزائريين في نيل الاستقلال وساهمت في انتقالهم من النضال السياسي السلمي إلى الكفاح المسلح. وكانت فظاعة الأحداث وما سمعوه ووقفوا عليه من أعمال دموية وإجرامية دافعا بحسبه لأبناء المنطقة لعدم التردد أبدا في حمل السلاح والالتحاق بصفوف ثورة التحرير التي بزغت بعد تسع سنوات حتى يثأروا لإخوتهم الذين سقطوا في تلك المجازر ودفعوا أرواحهم ضريبة لجشع وغدر القوات الفرنسية، وفي الختام قا: «إنه لن يسامح الجلادين الذين تسببوا له ولمئات وآلاف الجزائريين في جروحٍ رافقتهم مدى أعمارهم ومشاهد بقيت عالقة لهم في الذاكرة»، داعيا الجيل الجديد إلى صون أمانة الشهداء والنهل من قيم الثورة والحركة الوطنية والالتزام بعهد الأجداد. تقتيل العجائز والنساء الحوامل لم تسلم النساء والعجائز من يد قوات العساكر الفرنسيين وعملائهم وحسب شهادات حية للكثير ممن عاشوا تلك الجرائم، فقد تعرضت كثير من النساء لاسيما الحوامل للضرب والتقتيل والإجهاض، وهناك من تم سجنهن مع الرجال، كما أن هناك مقابر جماعية دفن فيها أطفال أبرياء راحوا ضحية التقتيل والحرق على يد الجيش الفرنسي وأعوانه من المعمرين الذين كونوا مليشيات قادها السفاح دارل، وحتى العجائز تعرضن للتقتيل. ويذكر الجميع قصة العجوز «فاطمة خرف الله» في عموشة التي قتلت بالرصاص وهي في السبعين من عمرها. هذه القصص وأخرى وثقها الدكتور سفيان لوصيف من قسم التاريخ بجامعة سطيف2، الذي أكد أن بطش الفرنسيين طال العجائز والنساء اللواتي تعرضن للتعذيب والسجن مثل الرجال مستعرضا قصة الحاجة علجية يعقوب زوجة قرناني التي فقدت زوجها وابنتها ربيحة الشهيدة، وهو ما أكده في حديث آخر الباحث والأستاذ يحي مسعودي من منطقة تيزي نبشار الذي جمع العديد من الشهادات حول الأحداث وسرد بعضا منها مع قائمة لنساء شهيدات وسجينات من ضحايا المجازر المشؤومة، فيقول: «أن كل قرية من بلدية تاقيطونت المختلطة سقطت فيها شهيدات»، وذكر مثلا في خراطة ثماني شهيدات من بينهن بوسكين فاطمة، حشمان الزهراء، بطيش جويدة، شعبان هنية وزوجها التي استشهدت في سجن الحراش، عكاش محجوبة هي وابنتها البالغة خمسة أشهر والتي كانت تحملها بين ذراعيها، وثلاث شهيدات من نفس العائلة في بني عزيز هن بورماد يمينة، بورماد نوارة بن علي، بورماد الطاوس، وفي عين الكبيرة أيضا ذكر مجموعة من الشهيدات منهن عليوني خديجة، عليوني لويزة، وبوعويش ربيعة، وغيرهن.. كما ذكر سجينة شقرون ذهبية تم سجنها خلال المجازر وحكم عليها بعشر سنوات سجنا رفقة أخويها، ناهيك عن استشهاد مئات الرجال، من تلاميذ جمعية العلماء المسلمين التي أنشأت ثلاثة مدارس حرة بخراطة وبني عزيز وعموشة، مدرسة خراطة كان يديرها حنوس محمد أعراب، ومدرسة عموشة أشرف عليها عبد القادر بن علاق، ومحمد الطيب حكيمي أدار مدرسة ببني عزيز وكلهم تمت تصفيتهم. كما روى نفس الباحث على لسان الشهيد الشاعر الربيع بوشامة بعض المشاهد الدامية التي شاهدها في الأحداث وكان صناعها أعضاء فرق المرتزقة السغاليين واللفيف الأجنبي الذي كان عناصره يتراهنون على ما في بطون النساء الحوامل ويشقونها لمعرفة ما إذا كان الجنين ذكرا أو أنثى، مشاهد ستبقى وصمة عار لن يمحوها الزمن في جبين فرنسا الاستعمارية. رابح قاريدي: إعداد ملف للمتابعة القضائية في اتصال مع جريدة «الشعب»، ناب رابح قاريدي نائب رئيس جمعية 08 ماي 1945 التي يرأسها المجاهد عبد الحميد سلاقجي - اعتذر عن الحاور لأسباب صحية- للتعبير عن أهمية الذكرى السابعة والسبعين لمجازر ماي 1945 قائلا: «ما يهمنا اليوم كجيل الاستقلال كأساتذة وباحثين في التاريخ هو إبراز الجرائم التي قامت بها فرنسا خلال المرحلة الكولونيالية التي دامت 132 سنة دون التمييز بين المراحل أو المحطات التاريخية، كل مرحلة ساهم فيها الجزائريون بالنفس والوقت والجهد والمال في كفاحهم ضد المستعمر. وأضاف: « الجمعية بصدد إعداد ملفات في الإحصاء والتوثيق، كما اقترحنا مشروع تجريم الاستعمار في شكل مواد قانونية لعرضها على الهيئات التشريعية، تمهيدا لإعداد ملف المتابعة القضائية لدى المحاكم الدولة باعتبار تلك الجرائم موثقة، وقامت بها الدولة الفرنسية بمؤسساتها الرسمية، الجيش ومصالح الأمن والإدارة ، ثابتة وموثقة من خلال التقارير والتصريحات التي حررها كبار المسؤولين الفرنسيين». كما قدم في ذات السياق شهادات نقلها عن والده الذي عاش الماساة في منطقة بني عزيز قائلا: «أنحدر من منطقة بني عزيز من عائلة معروفة قدمت الكثير من المجاهدين بدءا بالمقاومة الشعبية ومرورا ب 8 ماي 1945م ونهاية بالثورة التحريرية، وتعرضت للنفي والتفريق والتفتيت في إطار سياسة الإستعمار الفرنسي، ومنذ تأسيس فرع الجمعية في بلدية بني عزيز سنة 1997 وثقنا الكثير من الشهادات والإحصائيات، منطقة بني عزيز تعرضت لأبشع الجرائم، من بينها الحفر الجماعية المتوزعة على المنطقة، 7 حفر جماعية تضم كل واحدة منها أكثر من 20 شهيدة، حيث كانت تقوم السلطات الاستعمارية بتجميع الأسرى وتطلب منهم حفر هذه الحفر ثم تقتلهم وتقوم بدفنهم فيها، ناهيك عن قتل الكثير من الشيوخ والعجائز والنساء اللواتي لم يسلمن من بطش الاستعمار. وفي السياق نفسه، صرح الأمين الولائي لمكتب سطيف لجمعية 08 ماي مفارس كراس: «سينظم مكتب الجمعية بمدينة سطيف ندوة ولقاء يوم 27 ماي يصادف اليوم الوطني لقدماء الكشافة الإسلامية لإبراز دور الكشافة في تنظيم المسيرة، لأنهم كانوا في الصفوف الأولى حاملين العلم الجزائري، كما ساهما في إعداد البرنامج الرسمي بالولاية وتكريم ضحايا وشهداء المجازر». الدكتور كمال خليل: القطيعة مع الاستعمار وفي حوار مع جريدة «الشعب»، قال الدكتور كمال خليل، الأستاذ المحاضر بقسم التاريخ لجامعة محمد لمين دباغين سطيف 02: «لقد شهدت الجزائر خلال القرن العشرين صراعا بين مختلف قوى الحركة الوطنية والإستعمار الفرنسي الذي حاول بشتى الطرق السيطرة على الوضع خاصة خلال الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، من خلال حل الأحزاب السياسية والزج بالزعماء والمناضلين في السجون والمعتقلات، أو النفي والإقامة الجبرية مثل مصالي الحاج ( برازافيل )، والشيخ الإبراهيمي في أفلو ( الأغواط)، وبذلك ترك الشعب الجزائري فريسة للنهب الاستعماري وذهاب مقدراته لصالح حرب ليس له منها سوى الجوع والحرمان. وأضاف محدثنا: «خلال هذه الفترة حاول فرحات عباس إيصال صوته وصوت المستضعفين إلى الحلفاء والعالم من خلال بيان الشعب الجزائري ( فيفري 1943)، حيث تنصل الجميع من تحمل المسؤولية واعتبروا القضية تخص فرنسا، وحتى الوقت غير مناسب لمناقشتها، ومع انتهاء الحرب قدمت فرنسا للجزائريين جائزة كبيرة هي حمام دم ذهب ضحيته أكثر من 45 ألف شهيد، خلال موسم ربيع صيد الأهالي ( شهر ماي الأسود)، بينت هذه الجرائم الوحشية والحقد الأعمى للإستعمار الفرنسي والمعمرين الذين رفعوا شعار صيد الأهالي تحت تواطؤ الجيش والإدارة الإستعمارية، كما بينت خضوع الجنرال ديغول للقوة الاستعمارية عندما أوقف التحقيقات في المجازر التي تعرض لها الجزائريون طيلة شهر كامل. وبعد هذا السيناريو المرعب وعودة الحياة السياسية عام 1946، وقع شرخ واضح داخل التيار الوطني الذي دعى شبابه إلى تأسيس المنظمة الخاصة عام 1947م لتكون منظمة شبه عسكرية تعمل على تنظيم العمل الثوري مستقبلا «. وأضاف الدكتور كمال خليل: «لقد جاء تأسيس المنظمة الخاصة (السرية) كضرورة للخروج من حالة اليأس التي صاحبت مجازر 8 ماي 1945، ومجيء جيل من الشباب الذي نأى بنفسه عن مختلف الصراعات التي يعيشها الحزب في قمته وبين مختلف مؤسساته. لقد سعت العناصر في هذه المنظمة للنهوض بالنظام الذي تهاوى عام 1950 (حادثة تبسة)، لكنهم استمروا لاحقا مع اللجنة الثورية للوحدة والعمل في مارس 1954 وأصبح قناعة لا مفر منها للخروج من مختلف الاتهامات المتبادلة داخل هرم الحزب، والتوجه نحو عمق المشكل هو العمل الثوري الذي إختاره هؤلاء الشباب منذ نهاية الحرب بعدما عاشوا مع شعبهم المأساة وحمام الدم منذ 1945 «. الدكتور محمد بن ساعو: منعرج حاسم في التاريخ الوطني في السياق ذاته، صرح الدكتور محمد بن ساعو، الأستاذ بقسم التاريخ بجامعة محمد لمين دباغين سطيف 2 حول أهمية مجازر 8 ماي قائلا: «على الرغم من أن تلك الجرائم الموصوفة بالمجازر لم تكن استثناء في رصيد الممارسات الاستعمارية، إلا أنها اعتبرت محطة مهمة في المسار النضالي الجزائري، لأسباب عديدة، لعل من أهمها إسهامها في إحداث تغييرات جريئة ومتقدمة في القناعات السياسية لدى قواعد الحركة الوطنية ورؤوسها. وأضاف المتحدث: «إن الوعي بالقضية الجزائرية مع تطور الأحداث وتسارعها عالميا ومحليا خلال الحرب العالمية الثانية 1939-1945 جعل الجزائريين -الذين لم يكونوا بمعزل عنها- إلى إعادة طرح أسئلة مهمة في معادلة التحرر والمبادرة والآليات، يمكن أن نلمس كل ذلك في طبيعة نشاط الحركة الوطنية بعد استئنافه، في ظل النقاش الذي فتح بعمق في كل التيارات المشكلة لها. لم تكن بعض بوادر هذا التحول لتخفى عن السلطات الاستعمارية بعد جريمتها في حق الجزائريين الذين وقفوا في صفها خلال الحرب العالمية الثانية، لذلك راحت تتبنى حزمة من (الإصلاحات) الشكلية، التي عبر الجزائريون عن رفضهم لها بإعلانهم خيار العمل المسلح في الفاتح من نوفمبر 1954».