رئيس الجمهورية: متمسكون بالسياسة الاجتماعية للدولة    رئيس الجمهورية يؤكد أن الجزائر تواصل مسيرتها بثبات نحو آفاق واعدة    الشروع في مراجعة اتفاق الشراكة بين الجزائر والاتحاد الأوربي السنة القادمة    المطالبة بمراجعة اتفاق 1968 مجرد شعار سياسي لأقلية متطرفة بفرنسا    تنظيم مسابقة وطنية لأحسن مرافعة في الدفع بعدم الدستورية    مراد يتحادث مع المديرة العامة للمنظمة الدولية للهجرة    صدور مرسوم المجلس الأعلى لآداب وأخلاقيات مهنة الصحفي    الكشف عن قميص "الخضر" الجديد    محلات الأكل وراء معظم حالات التسمم    المعارض ستسمح لنا بإبراز قدراتنا الإنتاجية وفتح آفاق للتصدير    انطلاق الطبعة 2 لحملة التنظيف الكبرى للجزائر العاصمة    عدم شرعية الاتفاقيات التجارية المبرمة مع المغرب.. الجزائر ترحب بقرارات محكمة العدل الأوروبية    رئيس الجمهورية: الحوار الوطني سيكون نهاية 2025 وبداية 2026    ماكرون يدعو إلى الكف عن تسليم الأسلحة لإسرائيل..استهداف مدينة صفد ومستوطنة دان بصواريخ حزب الله    العدوان الصهيوني على غزة: وقفة تضامنية لحركة البناء الوطني لإحياء صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته    مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي: فيلم "ميسي بغداد" يفتتح المسابقة الرسمية للأفلام الروائية الطويلة    للحكواتي الجزائري صديق ماحي..سلسلة من الحكايات الشعبية لاستعادة بطولات أبطال المقاومة    البليدة..ضرورة رفع درجة الوعي بسرطان الثدي    سوق أهراس : الشروع في إنجاز مشاريع لحماية المدن من خطر الفيضانات    مهرجان وهران الدولي للفيلم العربي يعود بعد 6 سنوات من الغياب.. الفيلم الروائي الجزائري "عين لحجر" يفتتح الطبعة ال12    الجمعية الدولية لأصدقاء الثورة الجزائرية : ندوة عن السينما ودورها في التعريف بالثورة التحريرية    رئيس جمهورية التوغو يهنئ رئيس الجمهورية على انتخابه لعهدة ثانية    بيتكوفيتش يعلن القائمة النهائية المعنية بمواجهتي توغو : استدعاء إبراهيم مازا لأول مرة ..عودة بوعناني وغياب بلايلي    الرابطة الثانية هواة (مجموعة وسط-شرق): مستقبل الرويسات يواصل الزحف، مولودية قسنطينة ونجم التلاغمة في المطاردة    اثر التعادل الأخير أمام أولمبي الشلف.. إدارة مولودية وهران تفسخ عقد المدرب بوزيدي بالتراضي    تيميمون: التأكيد على أهمية التعريف بإسهامات علماء الجزائر على المستوى العالمي    بداري يعاين بالمدية أول كاشف لحرائق الغابات عن بعد    حوادث المرور: وفاة 4 أشخاص وإصابة 414 آخرين بجروح خلال ال48 ساعة الأخيرة    العدوان الصهيوني على غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 41825 شهيدا    بلمهدي يشرف على إطلاق بوابة الخدمات الإلكترونية    لبنان تحت قصف العُدوان    البنك الدولي يشيد بالتحسّن الكبير    شنقريحة يلتقي وزير الدفاع الإيطالي    يوم إعلامي لمرافقة المرأة الماكثة في البيت    إحداث جائزة الرئيس للباحث المُبتكر    أسماء بنت يزيد.. الصحابية المجاهدة    دفتيريا وملاريا سايحي يشدد على ضرورة تلقيح كل القاطنين    الأمم المتحدة: نعمل "بشكل ثابت" لتهدئة الأوضاع الراهنة في لبنان وفلسطين    سايحي: الشروع قريبا في تجهيز مستشفى 60 سرير بولاية إن قزام    الجزائر حاضرة في مؤتمر عمان    طبّي يؤكّد أهمية التكوين    استئناف نشاط محطة الحامة    بوغالي يشارك في تنصيب رئيسة المكسيك    افتتاح الطبعة ال12 لمهرجان وهران الدولي للفيلم العربي    الرابطة الثانية هواة (مجموعة وسط-شرق): مستقبل الرويسات يواصل الزحف, مولودية قسنطينة و نجم التلاغمة في المطاردة    صحة: تزويد المستشفيات بمخزون كبير من أدوية الملاريا تحسبا لأي طارئ    رابطة أبطال إفريقيا (مرحلة المجموعات-القرعة): مولودية الجزائر في المستوى الرابع و شباب بلوزداد في الثاني    الجزائر-البنك الدولي: الجزائر ملتزمة ببرنامج إصلاحات لتعزيز التنمية الاقتصادية المستدامة والشاملة    ديدوش يدعو المتعاملين المحليين للمساهمة في إنجاح موسم السياحة الصحراوية 2025/2024    سايحي يشدد على ضرورة تلقيح كل قاطني المناطق التي شهدت حالات دفتيريا وملاريا بالجنوب    محارم المرأة بالعدّ والتحديد    حالات دفتيريا وملاريا ببعض ولايات الجنوب: الفرق الطبية للحماية المدنية تواصل عملية التلقيح    كأس افريقيا 2025: بيتكوفيتش يكشف عن قائمة ال26 لاعبا تحسبا للمواجهة المزدوجة مع الطوغو    توافد جمهور شبابي متعطش لمشاهدة نجوم المهرجان    هذا جديد سلطة حماية المعطيات    خطيب المسجد النبوي: احفظوا ألسنتكم وأحسنوا الرفق    حق الله على العباد، وحق العباد على الله    عقوبة انتشار المعاصي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأسابيع الأخيرة من عمر إيالة الجزائر في مواجهة المحتلّين
نشر في الشعب يوم 13 - 07 - 2022

لم يكن مشروع الغزو الفرنسي للجزائر مجهولا في «دار السلطان» بالباب الجديد، بل كان الداي حسين يعرف عنه بفضل جواسيسه ومُخبريه الكثير من التفاصيل، وكان على دراية بأنّ الفرنسيين قادمين.
كانت «الأخبار تتوارد عليه من كل ناحية بأنباء العِمارة الفرنسية، وعساكرها، وأنهم سينزلون بسيدي فرج»، على حد قول نقيب أشراف الجزائر أحمد الشريف الزهار، المعاصر للداي ووقائع الاحتلال، في كتابه المعروف «مذكرات الحاج أحمد الشريف الزهار»، الذي حققه المؤرخ أحمد توفيق المدني.
غير أنّ الاستعداد لصدّ الغزاة لم يكن بالقوة والسرعة والفعالية المفترَضة في مثل هذا الظرف الخطير. ربما لأنّ «المحروسة بالله» لم تكن تملك الخبرة الكافية في إدارة المعارك البرية مع الخصوم والأعداء الأوروبيين. ومعروف تاريخيا أنها كانت منذ قرون جاهزة جهوزية عالية بحصونها وأبراجها ومدافعها ومجاهديها فقط لرد الاعتداءات البحرية قبالة المدينة ومرساها، ولم تتعوَّد على صد الهجمات عليها من البر الذي كان بمثابة خاصرتها الرخوة.
جدل حول استعدادات «دار السلطان» للحرب...الداي حسين ينجو من الاغتيال
في هذا السياق، يضيف الشريف الزهار بعض التفاصيل، عمّا قد يكون حسابات خاطئة أو ثقة زائدة عن حدها في النفس لدى السلطات واستسهالا للعدوان الفرنسي، بالقول «سمعتُ رجلا من أتباع الآغا يقول: أتى قنصل النابوليتان (Napoli) يوما إلى الآغا، وقال له: إنّ عمارة الفرنسيين قادمة، وستنزل بسيدي فرج. فلو جعلتم متارز (تحصينات Ndlr) في كل ربوة وعمرتموها بالمدافع ومهاريس البومبة (مدافع الهاون Ndlr)، ووضعتم ألف عسكري على كل متارز، فإذا نزل الفرنسيس في البر فإنه لا يستطيع أن يزيد عن موضعه. فضحك الآغا، وهو صهر الباشا، وأجابه: إذا جاءت عمارة الفرنسيس ونزل جندها، فأقدِم لكي ترى كيف يقص العرب والقبائل رؤوس الفرنسيس، فلمّا خرج من عنده (...) ضرب على فخذه وقال: هذا الحلُوف (أيْ الخنزير Ndlr)، أنا أريد صَلاحَه وهو يقول مثل هذا الكلام...».
«أما أهل البلد»، يواصل الزهار موضّحًا، «فقد كانوا في محنة لا يقدرون على الكلام، خوفا من الظلم والتكبر والتجبر...».
في Le Miroir (المرآة)، قال حمدان بن عثمان خوجة، من جهته، منتقدا الآغا إبراهيم: «لم يتم تحضير لا المدفعية ولا التحصينات، ولم يكن موجودا سوى حوالي 12 مدفعا، مقابل المئات لدى الغزاة، وُضِعتْ هناك من طرف سلفه…»، وخصمه الآغا يحي المقتول قبل بضع سنوات في إحدى خصومات رجال القصر. وأوضح حمدان أن في «يوم إنزال الماريشال دوبورمون وجيشه (في شاطئ سيدي فرج Ndlr)، لم يكن بحوزة الآغا سوى 300 فارس...».
كذلك، في يوم من تلك الأيام العصيبة، قال أحد رياس البحر في حديث بالمدينة مع «بعض الناس في أمر الفرنسيس»، حسب الزهار، إن الجزائر غير جاهزة عددا وعدة لمواجهة عسكرية كبيرة مع الفرنسيين. وبمجرد ما بلغ خبر كلامه إلى الداي حسين، يقول نقيب أشراف الجزائر، «بعث من يقول له: قسمًا لو لم يكن رجلا مُسِنًّا، لدفنته في القبر وهو حي جزاء الكلام الذي تكلم...».
في خضم تلك الأجواء المتوترة والهواجس والإشاعات والغموض، كما يحدث عادةً في مثل هذه الظروف، كثر الكلام والدّعاية السياسية والدعاية المضادة والبلبلة والتحركات في الكواليس. وأعقب كلَّ ذلك محاولة «البعض من خوجات الترك»، حسب الزهار، كانوا من كبار المسؤولين في الدولة، التخلصَ من الداي في مؤامرة تم الاجتماع بشأنها والتخطيط لها «...في ضريح سيدي بَنّور، بجبل بوزريعة، من أجل قتل الباشا»، على حد تعبيره، والضريح موجود إلى اليوم في ضاحية بوزريعة بمرتفعات المدينة. وكانت الخطّة تقضي باغتيال حسين بن علي خلال لقائه لتقديم تهاني عيد الأضحى له في القصر ب «دار السلطان»، مثلما كانت تقتضيه طقوس وبروتوكولات الدولة الجزائرية آنذاك، والاستيلاء بعدها على السلطة.
غير أنّ هذه الحركة الانقلابية فشلت وسرعان ما أُجهِضت بعد بلوغ أخبارها مُسبقًا إلى الداي الذي سارع إلى إرسال مَن يقتل رؤوس الفتنة ليلة العيد وصباحه، فيما تغاضى عن آخرين بسبب الوضع الحساس للبلاد الذي لم يكن يحتمل المزيد من المشاكل والعداوات.
حسب نقيب الأشراف، لم تتعاط الحكومة بما يجب من الجدية والفعالية مع المشروع العسكري الفرنسي الضخم حيث أرسل الباشا حسين بن علي فِرقا من القوات البحرية في مهام داخل البلاد، في ما كانت العاصمة في أمس الحاجة إليها. ولم يوافق على إعلان الاستنفار العسكري الذي اقترحه عليه البايات بل اتخذ قرارات لم تبْدُ للعديد من رجال الدولة آنذاك منسجمةً مع الوضع الدقيق الذي كانت تمر به البلاد، بل كانت توحي وكأن الباشا كان متيقنا بأن لا خطر على البلاد. من بين هذه القرارات السماح بانطلاق ركب الحج بحرًا والذي كان يقتضي، كما جرت العادة، أن يكون مرفوقا بسفن حربية لحمايته حتى يصل إلى ميناء الإسكندرية في مصر، بينما كان يُفترَض تركيز القوة العسكرية المتاحة في «المحروسة» لمواجهة التهديدات والأخطار المستجدَّة.
في نهاية المطاف، بعد ركوب الحجيج البحر باتجاه البقاع المقدسة، وقع الغزو الفرنسي وفشلت المقاومة وسقطت مدينة الجزائر، واضطرّت إثرها السفينة الحربية الجزائرية التي أمّنتْ نقل الحجاج إلى البقاع المقدسة للبقاء في الإسكندرية لفترة مَا، يؤكد الزهار، ريثما تتضح مآلات الكارثة التي كانت قد حلت ب «المحروسة»...
أما إذا أخذنا بأقوال الكاتب الفرنسي بول أوديل (Paul Eudèl) (1837م – 1911م)، في كتابه عن فن صناعة المجوهرات في الجزائر وتونس L'orfèverie algérienne et tunisienne (صناعة المجوهرات الجزائرية والتونسية) الصادر بمدينة الجزائر سنة 1902م، فإنّنا نجده ينسب إلى الباشا عندما نُصح قبل أشهر من الاحتلال من طرف بعض أعوانه، وهم حمدان بوالرّْكايَبْ وأحمد بوضَرْبة وحمدان بن عثمان خوجة، بالتفاوض مع فرنسا والتنازل لها قليلا لتفادي المواجهة العسكرية، نَسب له أنه رد بالقول بثقة عالية: «لن يتجرأ الفرنسيون أبدا على الهجوم عليّ (أي على الجزائر Ndlr)، لأن ب «سلطان قَلاَسِي» (حصن الإمبراطور) ومدافعه ال 2000، الجزائر يستحيل الاستيلاء عليها»، وهي «محمية بالله» على حد عبارات بول أوديل العربية التي نسبها إلى الداي. غير أنّ مصداقية كلام الكاتب الفرنسي لا تبدو قوية مادام مصدر معلوماته غير واضح ولا صدقيتها مؤكدة، لاسيما أن عدد المدافع الذي ذَكَر وجودَه في حصن الإمبراطور، أو برج مولاي حسن، أكبر بأضعاف الأضعاف من العدد الحقيقي المتوفر به آنذاك. أما الثلاثي الناصح للباشا فقد اعتُبرت نصيحته انهزامية وأثارت عليه غضبا شديدا في أوساط الإنكشارية، مما جعل الرجال الثلاثة يلتزمون ديارهم في الفحص لفترة ولا يخرجون منها خوفا على حياتهم: بُوضَرْبَة في جنته بالخرّوبة قرب الحرّاش، وبوالرّْكَايَبْ في بيته بالزّْغَارَة مع العِلم أن زوجته هي الزهراء، أو نْفيسَة، بنت التاجر بوضربة، وحمدان خوجة زوج الزهراء شقيقة بوالركايب في الدّار الزّرْقَة المحاذية لقاعة الحَرْشَة متعددة الرياضات الحالية القريبة من ساحة أول ماي.
الرّايس بالجِي: لقد وصل الأسطول الفرنسي إلى سيدي فرج
«دار السلطان»: لا إنّه فقط «سحاب ظهر في الأفق»
في مذكّراته، يوفّر الشريف الزهار، الذي رغم احترامه للداي حسين بدَا شديد الغضب منه بشأن أسلوب تعاطيه مع التحديات التي فرضها اقتراب الأسطول الفرنسي من مياه ساحل سيدي فرج، الكثير من التفاصيل عن إدارة «دار السلطان» للأزمة. ويقول في إحدى شهاداته: «في يوم السبت الحادي والعشرين من ذي الحجة، سنة 1245ه (1830م Ndlr) ظهرت عمارة الفرنسيس ويوم الأحد، نزل عسكرهم بسيدي فرج، (...) وفي الحقيقة ظهرت العمارة عشية الجمعة (...) وقدِم الرايس أحمد بالجي وكيل ضريح سيدي فرج في الليل، وأخبر الباشا بظهور بعض العمارة، فقالوا له: إن ذلك سحاب ظهر في الأفق، ومن الغد رأينا كامل العمارة (...) ومع هذا كله والباشا نائم، كأنه لم يكن عنده عدو...».
لا نعرف مدى دقة أقوال الزهار، ولا نعلم إن كانت معلومات مؤكَّدة أم أنها مستقاة من «القيل والقال» الذي كثر حينذاك في المدينة، مثلما لا نعرف إن كان الداي حسين مخدوعا لم يُخبره رجاله بالحقائق وقدَّموا له لسبب أو لآخر تقارير كاذبة...لكننا على علم، على الأقل، بما قاله في Le Miroir (المرآة) رجل الدولة حمدان بن عثمان خوجة المقرب من الداي والعارف بشؤون «دار السلطان»، والذي جاء مناقضا لكلام نقيب أشراف الجزائر.
يؤكّد حمدان خوجة جازمًا بأن الباشا أعطى الأوامر لبايات الشرق والغرب ولمختلف القبائل، كما في مدينة الجزائر، بالاستنفار والبقاء في حالة تأهب قصوى لمواجهة الغزاة. كما بدا أكثر دقة من الزهار عندما ألقى المسؤولية مباشرةً على عاتق الآغا إبراهيم صهر الباشا متهما إياه بالتخاذل وعدم اتخاذ التدابير الضرورية، رغم إحاطته علما بكل تفاصيل الحملة الفرنسية، مسبقا، عددًا وعُدةً، وبالرداءة وبعدم الكفاءة وموضّحا أن هذا ما كان يعرفه عنه الجميع في دوائر السلطة بمدينة الجزائر...لكن من غير الواضح إن كان الباشا حسين أيضا مُلِمًّا، وقتَذاك، بنقائص صهره ونقاط ضعفه...
الآغا إبراهيم، حسب حمدان خوجة، «لم يُحضّر شيئا ولا اتخذ أيّ إجراء، ولا أصدر أيّ أمر، زاعما أن عندما تطأ أقدام الفرنسيين الأرض، سيلتف عليهم»، فيما لم يتجهز بما يكفي لإنجاح مثل هذا الالتفاف...وتتفق هذه الاتهامات مع الرواية التي نقلها الزهار في كتابه عن ردّ الآغا إبراهيم على تحذيرات ونصائح قنصل نابولي...

الفرنسيّون يُنزلون قوّاتهم على شاطئ سيدي فرج...والمناوشات الأولى تنطلق

خلال المناوشات الأولى الخفيفة بالمدافع و»المكاحل» مع العدو الذي نزل في شاطئ سيدي فرج، كان الآغا إبراهيم، حسب حمدان خوجة، يقول لجنوده: «لا تضربوه أتركوه ينزل، ونبعث للقبائل ونقوم عليه»، وهو ما فعله داعيا القبائل للجهاد.
كانت إستراتيجية الآغا تقوم على ترك الفرنسيين يُنزِلون قواتهم على الشاطئ ثم الانقضاض عليها حتى لا يُغيّرون مكان الإنزال ويحوّلونه، في حال مُنِعوا منه في سيدي فرج، إلى بقعة أخرى يصعب، بالتالي، الدفاع عنها لوجستيا وبشريا لبُعدها عن مدينة الجزائر. وهو ما قاله بهذا الشأن الآغا إبراهيم بنفسه لحمدان خوجة الذي ذَكَرَ الحديثَ الذي دار بينهما في خضم المعركة في كتابه Le Miroir (المرآة). لكن، إذا كانت إستراتيجية الآغا معقولة مبدئيا، فإن التفاصيل التي يستعرضها الزهار توحي بأن الجهوزية العسكرية لم تواكبها، لأن القوات الجزائرية لم يتم تحضيرها بانسجام مع الخطة الحربية بما يسمح بإنجاحها. وفوق ذلك، بدت بعض الخطوات المتخذة يوميا ردًّا على التطورات الطارئة مُرتَجَلة، فيما العدو، الذي لم يكن يُصدِّق أن الجزائريين تركوه يُنزِل عسكره وآلياته معتقدا بإمكانية أن تكون حيلة للإجهاز عليه، اغتنم بذكاء الفرص التي أتاحها هذا «الخطأ» وكان يتحصن على رمال الشاطئ ويعزز مواقعه.
حتى برج مولاي حسن، حصن الإمبراطور، الإستراتيجي الواقع في حومة الثغريين (Tagarins) بمحاذاة فحص الأبْيار، لم يتم تزويدُه بما يكفي من المدافع والذخيرة إلا بعد تعثُّر المقاومة في سيدي فرج ونواحيه وانهزامها أمام الفرنسيين، حسب نقيب أشراف الجزائر.
الحاج أحمد باي لاحظ، من جهته، النقائص والهفوات بعد معاينته وعدد من رجاله الأوضاع في ميدان المعركة في سيدي فرج، ف «كتب للباشا يخبره بقوة النصارى وبضعف جيوشنا...»، حسب الزهار. وهو ما أكّده حمدان بن عثمان خوجة قائلا إنّ «باي قسنطينة أثار انتباه الآغا بأن هذه الطريقة في تنظيم الجيش لا تسمح بالأمل في أدنى حظ في النجاح»، مع الإشارة عليه بعِدّة نصائح تكتيكية لم يَأخذ بها الآغا، بما فيها ضرورة تغيير المقر العام لتجمّع القوات الجزائرية من الحرّاش إلى بقعة أخرى أقرب إلى ميدان المواجهة، لأن الحراش بعيدة بأربع ساعات سيرًا من ضاحية أسطه والي.
مع ذلك، في قرار لا نعرف من يقف وراءه تحديدا، «أعطى الباشا أمرَه لِكامل الجيش بأن لا يقاتل إلا يوم السبت»، حسب الزهار، أي بعد أسبوع من وصول الأسطول الفرنسي إلى سيدي فرج، ليبتدأ القتال بعد صلاة الصبح في اليوم المحدد من طرف الداي. وكان في بدايته ناجحا ومتفوقا لِتمكُّن القوات الجزائرية من اختراق صفوف الفرنسيين على الشاطئ وبعثرتها وإلحاق خسائر بها في قتال شرس أدى إلى ارتباكٍ كبير في أوساط الفرنسيين وصل إلى حد فرار أعداد كبيرة منهم هلعا عائدين إلى السفن. وكان من بين القتلى الفرنسيين في المعارك الأولى الضابط آميدي دوبورمون (Amédée Debourmont)، نجل قائد الحملة الفرنسية على الجزائر الجنرال دوبورمون، الذي دُفن حينها على الشاطئ قبل نقل جثمانه لاحقا، حسب مصادر فرنسية، إلى فرنسا عند عودة والده بعد أشهر من الاحتلال إلى بلاده.
غير أنّ، بعد النّجاحات الأولى للمقاتلين الجزائريين في الميدان، طرأت اختلالات في إدارة القتال وأخطاء، ارتُكِبت من طرف الآغا إبراهيم وجنوده، غيّرت وجهة الحرب وأمالت الكفة للفرنسيين الذين بدأوا يزحفون تدريجيا وبثبات لينتهي الأمر إلى معركة أُسْطَه وَالِي التي بيَّنتْ أن الأمر قد قُضيَ تقريبًا، حتى أن الشريف الزهار علق حينها عما آل إليه الوضع من ضعف وفوضى في صفوف القوات الجزائرية وتقدم للمحتلين قائلا «لو شاءوا لدخلوا مدينة الجزائر ذلك اليوم، لكنهم يقرأون العواقب». كما عبّر حمدان خوجة بحسرة عن هذا الإخفاق المدوي بقوله «لو سار بورمون في ذلك اليوم بقواته نحو حصن الإمبراطور لما وجد أمامه أيّ عائق...».
هنا، سارع حمدان إلى زيارة الداي حسين في «دار السلطان» بحومة الباب الجديد بمرتفعات المدينة لإحاطته علمًا بالتطورات العسكرية الخطيرة في ساحة القتال، والذي برأيه «لم يكن يعرف الطبيعة الجبانة للآغا» التي أثَّرَتْ على سيْر المعارك وفعالية المقاتلين الجزائريين...لكن كان الأوان قد فات...
إخفاقات لوجيستية
من جهة أخرى، إذا أخذنا بأقوال الشريف الزهار فإن السلطات كانت تقتّر في مد المقاتلين من القبائل، لاسيما زواوة، بالسلاح والبارود، خوفا من عدم استخدامهم إياها بشكل كامل في المعارك وإخفاء نسبة منها لأخذها معهم عند عودتهم إلى مناطقهم واستعمالها عند الحاجة لاحقا في خصوماتهم المسلحة مع «دار السلطان» أو مع البايات وكذلك في التمردات والثورات ضد النظام...ويعلق الزهار على هذه التصرفات بقوله إن «من علامة الخراب فسادُ الرأي». كانوا يقولون لهم، يوضح نقيب أشراف الجزائر، إن «البارود الذي نعطيه إياكم لا تقاتلون به، بل ترجعون به إلى بلادكم» بل «كانوا يبعثون في أثرهم عند رجوعهم، ويفتشونهم، ويأخذون ما عندهم من البارود». ولم يكن الزهار الوحيد الذي قال بهذا الكلام.
حمدان بن عثمان خوجة تعرّض بدوره في كتابه Le Miroir (المرآة) لهذه التصرفات المرتبطة بضعف الثقة بين الجزائريين، والتي تسبّبت فيها الأزمات السابقة المتوالية والتوترات الناجمة عنها التي كانت تتخبط فيها الدولة آنذاك ومنذ عقود. وبدون أدنى شك، لم تكن تداعياتها على سير المعارك هيّنة، بل وصلت إلى حد أن المقاتلين الجزائريين، بشكلٍ خاص مَن وصلوا منهم إلى أرض المعركة من «القبايل»، «كانوا يعودون من حيث أتوا»، أو إلى مكان تجمع القوات الجزائرية في الحرّاش قبل العودة كل صباح إلى ميدان المعركة، لعدم حصولهم «لا على الذخيرة ولا المؤونة» ولو بمالهم الخاص.
حمدان خوجة، في ليلة معركة أسطه والي، سمع بنفسه مصدومًا من الآغا ذاته أنه قرر أن يعطي كل مقاتل 10 خرطوشات فقط معتبرا إياها كافية لقتل نصف القوات الفرنسية. كما لم يوزّع الآغا الأموال الكثيرة التي أقرها الباشا حسين، حسب حمدان، على المقاتلين لتحفيزهم. ويقول متسائلا: «أجهل جهلا كاملا إلى ماذا آلت الكميات الضخمة من الأموال التي كانت بحوزة الآغا»، والتي خصّصها الداي للمقاتلين.
على كل، حتى المؤرخ أبو القاسم سعد الله لم يكن رأيه في صهر الباشا مخالفا للزهار وحمدان خوجة. وقال في كتابه «رائد التجديد الإسلامي محمد بن العنابي» إن «الآغا إبراهيم (...) أثبتت كل المصادر عدم كفاءته العسكرية وكان مؤهله الوحيد هو مصاهرة الباشا...»
في نهاية المطاف، خاب ظن الداي حسين في صهره الذي كان حمدان خوجة قد أخبره بصراحة بعدم أهليته لقيادة القوات الجزائرية في مقاومة المحتلين، وبالأخطاء الكثيرة التي ارتكبها. بل وَصَفَ حمدان للداي كيف وجد الآغا إبراهيم مختبئا مرعوبًا ومرتبكا، على حد قوله في كتابه Le Miroir (المرآة)، برفقة بعض أعوانه في نواحي أسطه والي بعيدا عن جنوده والفوضى قد نالت من القوات الجزائرية في الميدان.
إقالة قائد القوّات الجزائرية واستبداله ب «شيخ الإسلام» ثم بباي التيطري
أراد الباشا تدارك الوضع، فأقال صهره بعد هزائم سيدي فرج وأسطه والي وعوّضه بالمفتي الحنفي «شيخ الإسلام» محمد بن العنابي لتحريك الهِمم والمشاعر الدينية الجهادية ك «...رئيس لعساكر الجزائر…»، والذي بمجرد تعيينه «...غزا (...) في الفرنسيين أياما...»، على حد قول المؤرخ أبي القاسم سعد الله في «رائد التجديد الإسلامي محمد بن العنابي». وإذا كانت لابن العنابي شخصية قوية وكان محترَما لدى الجزائريين وقادرا على تعبئة الجماهير، فضلا عن كونه ألَّف سنة 1826م كتابا هاما في الفكر العسكري وتطوير الجيوش عنوانه «السعي المحمود في نظام الجنود»، إلا أنه كان رجل علم وفكر وثقافة قبل كل شيء يفتقد إلى الخبرة العسكرية وإدارة المقاتلين في الميدان. وقد نفاه الفرنسيون بعد الاحتلال إلى مدينة الإسكندرية بمصر حيث استقر نهائيا ضيفا عند محمد علي باشا، حاكم مصر، مفتيا للديار المصرية على المذهب الحنفي.
بعد تجربة أيام مع ابن العنابي على رأس الجيش الجزائري، انتهى الباشا إلى تكليف باي التيطري الباي بومزراق بقيادة المقاومة والذي تسلم قيادة المؤسسة العسكرية في ظرف شديد الصعوبة حيث «كان الوضع حينها رهيبا ويتدهور ساعة بعد أخرى» على حد تعبير الكاتب الفرنسي بول أوديل (Paul Eudèl) في كتابه L'orfèvrerie algérienne et tunisienne.
اللّحظات الأخيرة من عمر «إيالة الجزائر»...قتال شرس واستماتة رغم اليأس
في المقابل، في خضم ذلك الغليان العسكري /السياسي، لم تنجح محاولات السفن الفرنسية، لثلاث مرات على التوالي، على الأقل، حسب الزهار، في اختراق الخطوط الدفاعية الجزائرية البحرية للوصول إلى المرسى قبالة المدينة بفضل قوة النار المسلطة عليهم من قبل رجال المدفعية (الطُّبْجِية) الصامدين في الأبراج والحصون وما تبقى من السفن...مثلما أفشَلتْ مدافع الأبراج الجنوبية للحاضرة في يوم 4 يوليو 1830م محاولة تسلُّل فرنسية من جهة باب عزون، بُعيْد سقوط برج مولاي حسن في حومة الثغريين، يقول Camille Rousset (كاميل روسي) (1821م-1892م) في كتابه La conquête d'Alger (غزو مدينة الجزائر) الصادر في باريس سنة 1879م. وكان الباشا حسين قد أمر رجال المدفعية والمقاتلين الصامدين بالاستماتة «طالما بقي قصري قائما»، حسب الكاتب الفرنسي، في إصرار على القتال حتى الشهادة «ولو استدعى ذلك خراب القصبة (أيْ «دار السلطان» Ndlr) وكل المدينة» بدلا من «الاستسلام»...
لكن عندما سقط برج مولاي حسن في يوم 4 يوليو 1830م، بعد قتال شرس وعنيف، دام نحو «5 ساعات»، حسب روسي، وخسائر كبيرة تكبدها الطرفان، اتّضح أن كل شيء قد انتهى وأن المعركة قد حُسِمت عسكريا لصالح المحتلين وإن كانوا قد خسروا نحو 3 آلاف من رجالهم، حسب ستيفن ديستري (Stephen d'Estry) في كتابه Histoire d'Alger, de son territoire et de ses habitants… (تاريخ مدينة الجزائر وأراضيها وسكانها...)، ورغم استمرار بعض الاشتباكات المتقطعة بالمدفعية.
غير أنّ الاستيلاء على برج مولاي حسن، أو حصن الإمبراطور، آخر الخطوط الدفاعية خارج أسوار المدينة، لم يتم «دون إطلاق رصاصة واحدة مثلما قيل خطأً» على حد تعبير بول أوديل.
بالعكس، يضيف الكاتب الفرنسي، «لقد دافع عنه الإنكشاريون بشراسة وقُتِلوا وهم يقاتلون بشجاعة كبيرة». بل باستماتتهم، يضيف كاميل روسي من جهته، «عرفوا كيف ينتزعون تقدير الجيش الفرنسي». وعندما اقتنع المجاهدون الجزائريون بأن الشجاعة لا تكفي في مواجهة القوة النارية الفرنسية وتقنياتها العسكرية الحديثة، اضطروا للانسحاب من برج مولاي حسن بعد تفجيره بإضرام النار في الكميات الهائلة من البارود التي كانت بداخله. وكان الانفجار قويا بشكل غير مسبوق حتى يُقال إن شظاياه وحجارته، التي ألحقت خسائر بكتائب الفرنسيين المحيطين بالبرج، الواقع في حومة الثغريين (Tagarins)، وصلت حتى أسوار المدينة من جهة حَوْمَات الباب الجديد، والسّور والسّتارة (سُوسْطَارَة اليوم)، وحومة السّْلاَوِي، وباب عزون...
هناك، في هذه المعركة الكبيرة الأخيرة، كان محمد أوجيل (Ogel) حاجِّي، الخزنجي، وهو الرجل الثاني في الدولة بعد الباشا، «قدوةً» لرجاله في الشجاعة، حسب كاميل روسي، و»أحد المدافعين الشرسين عن حصن الإمبراطور (برج مولاي حسن)»، يضيف بول أوديل، والذي بعد دخول القوات الفرنسية المدينة من الباب الجديد متوجهة إلى «دار السلطان» وشارع الباب الجديد (Rue Porte Neuve)، الموجود إلى اليوم، فإنه بعد وقف المعارك وتوقيع وثيقة الاستسلام و»...بعد تسليمه مفاتيح كنوز القصبة (عند دخول قادة المحتلين القلعة Ndlr)، ترك الجزائر بعد فترة قصيرة...» ليستقر في المدينة المنورة. وأضاف أوديل بأن خزنجي الداي حسين عُرف في منفاه بالمدينة المنورة بالعديد من الأعمال الخيرية صدقةً على الفقراء.
في تلك الأجواء المتوتّرة والغامضة وتبادُل القصف بين ما تبقى من برج مولاي حسن الذي أصبح بيد القوات الفرنسية وأبراج المدينة التي بقيت صامدة، انتشرت إشاعات بأن الباشا طلب من المحتلين الأمان لنفسه وأهله وماله، مثلما اتصل عدد من الشخصيات المدنية بهم لعرض خدماتهم والتعاون معهم، بما في ذلك تسليم المدينة وإتيانهم برأس الداي حسين مقابل عدم المساس بالمدينة وأهلها وانتزاع امتيازات شخصية لهم. ونُسِبتْ هذه المؤامرة والتضحية بالداي وتقديم رأسه قربانا لإرضاء الجنرال دوبورمون، الذي رفضها، إلى الخزنجي سابق الذِّكْر محمد أوجيل (Ogel) حاجِّي. ويصعب التحقق من هذه الاتهامات بشكل دقيق ومعرفة إن كانت صحيحة أو أنها مناورة من الداي ذاته ومساعده، على غرار المناورات الاستخباراتية التي سبقتها في سيدي فرج، مثلما قد تكون مجرد كذبة فرنسية يَظهر فيها القائد الفرنسي رجلا نبيلا حيث نُسب له في المصادر الفرنسية أنه ردَّ على هذا العرض التآمري بالقول إنه ما جاء إلى الجزائر ل «الاغتيال» وإنما ل «الحرب»...
«المحروسة» تستسلم حقنا للدّماء...
على كلٍّ، في نهاية المطاف، خلال تلك الأيام والساعات الأخيرة من عُمر الدولة الجزائرية /العثمانية، وبعد عدة عروض فاشلة من الباشا للتفاوض على قاعدة صلح يرضي الفرنسيين ويقنعهم بالانسحاب إلى بلادهم ويسمح بإنقاذ المدينة والبلاد والعباد، انتهى الأمر باتفاقية التسليم دون قتال كما حدث في غرناطة سنة 1492م مع أبي عبد الله النصري مقابل احترام الفرنسيين لأهل المدينة وممتلكاتهم ومعتقداتهم وحرياتهم...إلخ. وهو ما تمّ نكثه بعد ساعات قليلة من دخول المحتلين المدينة حيث بدأ النهب والسلب والخراب بلا حدود والقائد «النبيل» دوبورمون ورجاله يغضون الطرف، بل شاركوا هم ذاتهم في سرقة الممتلكات وعلى رأسها كنوز الدولة الجزائرية أو ما كانوا يسمونه «كنوز القصبة» التي كانت محفوظة في «دار السلطان»...أما ما تلا الاعتداء على الممتلكات والاستيلاء عليها بالقوة خلال الساعات والأيام الأولى للاحتلال فتلك قصة أخرى أكثر تراجيدية ستدوم 132 عاما حتى يوم تحرير البلاد في يوم 5 يوليو من سنة 1962م...
هل صحيح أنّ الداي حسين بن علي هو من اتخذ قرار التسليم و»باع» البلاد مثلما يُشاع في بعض الأوساط في الجزائر منذ بضع سنوات؟ المصادر الجزائرية والفرنسية لا تقول بذلك، وإنما يبدو من معطياتها أن القرار تم اتخاذه بالتشاور بين الباشا وقادة الجيش والعلماء والأعيان وممثلي سكان المدينة ب «دار السلطان» في ليل الرابع إلى الخامس من يوليو 1830م. وبعد نقاش حاد وعنيف فيما بينهم، نظرا لانقسامهم بين من يريد الاستسلام حقنا للدماء وتجنبا للخراب بعد فشل المقاومة من جهة ومَن يرفضه، وغالبيتهم من قادة الجيش، ويدعو إلى القتال حتى الشهادة من جهة أخرى.
في نهاية المطاف، مالت الكفة لموقف الأعيان والعلماء، فتفاوض الباشا حسين على شروط الاستسلام، ووقَّع بمرارة على الوثيقة التي رَسَّمتْ نهاية «الإيالة» بعد اكتمال صياغتها...
حسين بن علي يغادر «دار السلطان» إلى «الدار الحمراء» قبل الرّحيل
منذ لحظة التوقيع هذه، لم يعد حسين بن علي، كما كان طيلة 13 عاما، باشا الجزائر. لذلك، تنفيذًا للمهلة التي أُعطيتْ له لإخلاء «دار السلطان» والتي لا تتجاوز ساعات، نَقَلَ بواسطة خدَمه ما أمكن من أغراضه الشخصية وأمتعته إلى قصره المعروف ب «الدار الحمراء»، الموجودة إلى اليوم قبالة مدرسة مالك بن نبي وجامع علي بتشين في حومة ال «زوج عيون» في الجهة السفلى من المدينة.
حسب بول أوديل، توقّفَ ترحيل الأمتعة فجأة في آخر مراحله عندما شاهد الخدَم حوالي العاشرة صباحا دخول القوات الفرنسية إلى «دار السلطان»، أو «كْرِيمْلِينْ مدينة الجزائر(Krémlin d'Alger)» على حد تعبيره، فتركوا ما كان بأياديهم من أحمال خوفا على حياتهم وفرّوا إلى أسفل المدينة. ومن بين ما وجده الفرنسيون في هذه الأحمال من أمتعة الداي الشخصية، يضيف أوديل، زرابي ومجوهرات وحِيّاك وفساتين ومسدّسات ثمينة وأواني صينية...فيما تجمهر السكان ومعهم جنودٌ جزائريون في حومة الباب الجديد عند أسوار وباب القلعة يتابعون مذهولين ما كان يحدث أمام أعينهم، ويصعب عليهم تصديقه لهول ما حدث ولعلهم يستشفون مما كانوا يرونه بعض ما سيفعله بهم المنتصِرون...
في «الدار الحمراء»، أقام حسين بن علي لمدة 5 أيام، استقبل خلالها مرةً الجنرال دوبورمون في زيارة بروتوكولية لهذا الأخير، تبادل خلالها الطرفان التعازي، كل في مصيبته، تقول مصادر فرنسية، بالنسبة للقائد الفرنسي في مقتل ابنه آميدي (Amédée) في معارك شاطئ سيدي فرج والداي في ما حدث له ولبلاده وأيضا لأحد أفراد عائلته، ابن أخيه أو أخته...
بعدها، في يوم 10 يوليو 1830م، جرت ترتيبات ووقائع رحيل آخر دايات الجزائر وأهله عن البلاد في أمسية حزينة. وكانت تلك الساعات، دون شك، أشدَّ أيام الباشا السابق حزنا وألمًا، مثلما كانت أكثرها تراجيديةً بالنسبة لأهل المدينة والمجاهدين الذين حموها بصدورهم منذ بداية القرن 16م وبداية التحالف الثمين مع العثمانيين. وشوهد حسين بن علي في تلك اللحظات في المرسى، الذي وضع أُسُسَه سيد البحار خير الدين بربروس في 1529م، يستعد لركوب البحر على متن السفينة الفرنسية «جان دارك» التي نقلته وحوالي 118 شخصا من أفراد أسرته وخدمه إلى نابولي ثم إلى ليفورن في إيطاليا...
كان مشهد رحيله، الذي خلدتْه لوحة فنية لأحد الرسامين الفرنسيين، دراميًا ومثيرا للشفقة وهو واقف على الرصيف في لحظاته الأخيرة في الجزائر برفقة ضباط فرنسيين. كان مقابلا البحر المتلألئة مياهه بضوء القمر، متأملا شاطئ «قاع السور» وبرج الفنار وبرج القومان وضريح سيدي إبراهيم البحري ومسترجعًا، دون شك، بأسى ذكريات خروج العظيم الرايس حميدو بن علي غازيًا في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي على متن سفينته «المسعودة»، بعد تحيته ضريحيْ سيدي عبد الرحمن الثعالبي وسيدي بتقة (أبو التقى) بطلقات مدفعية، وأيضا الرايس أحمد الإزميرلي والرايس عَلْوَاشْ والرايس تَتَارْ والرايس نعمان والرايس الحاج يعقوب والرايس محمد وَعْلي (أيْ محمد علي)، وقبلهم مراد رايس وعلي بتشين ومامي أرناؤوط، وعودتهم جميعا غانمين سالمين حامدين، مبتهجين ومبهِجين المدينة «البهجة» وأهلها.
بعد الرّحيل، زار حسين بن علي الإزميرلي العاصمة الفرنسية باريس، ومنها عاد إلى مدينة ليفورن الإيطالية قبل رحيله إلى مدينة الإسكندرية، التي كانت تحتضن جالية هامة من العلماء والطلبة والحجاج والتجار واللاجئين السياسيين الجزائريين، واستقرّ بها برفقة أسرته إلى غاية وفاته سنة 1838م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.