تقف «الشعب ويكاند»، اليوم، مع الدكتور سمير محرز، عند مشكلة الأمن الغذائي التي باتت تشغل بال المجموعة الدولية قاطبة، وتثير مخاوفها خاصة مع الانعكاسات الخطيرة للأزمة الصحية التي ضربت الاقتصاد العالمي في مفصل، والحرب الأوكرانية التي فجّرت أزمة غذاء عالمية غير مسبوقة.الدكتور محرز، تطرّق إلى مختلف جوانب أزمة الأمن الغذائي، فغاص في أسبابها وتداعياتها وخلص إلى الحلول والإستراتيجيات التي يراها ضرورية لتمكين الدول من توفير الغذاء لشعوبها، وبالتالي من حماية أمنها القومي. - الشعب ويكاند: بعد عامين من الإغلاق بسبب وباء كورونا الذي ضرب الاقتصاد العالمي في مفصل، جاءت الحرب الأوكرانية لتفجّر واحدة من أخطر الأزمات التي أصبحت تهدد البشرية، ألا وهي مشكلة الأمن الغذائي التي تتجلى ملامحها في نقص الغذاء وارتفاع أسعاره. ما تعليقكم على هذه المشكلة؟ وما المقصود بالأمن الغذائي؟ الدكتور سمير محرز: صحيح، كل التحولات التي حدثت في المشهد الدولي في السنوات الأخيرة، تؤكد بأن العالم أصبح ينظر للغذاء بمثابة معادلة ومعيار لقوة الدولة وتواجدها في العالم، وخاصة بعد الأزمة الصحية كوفيد-19 وبعدها الحرب الأوكرانية التي وضعت قضية الغذاء ضمن محور اهتمام الدول والمنظمات، ولهذا يعتبر الأمن الغذائي بمثابة سلاح أخضر مهم للدول، وصمّام أمان لحمايتها من أي تهديدات أو ابتزازات خارجية، كما أنّ مفهوم الأمن الغذائي، يُشير إلى ضرورة توفير ما يحتاجه الأفراد من منتجات غذائية وحماية لسلة الغذاء داخل الدولة. وبالتالي نستخلص أن الأمن الغذائي أصبح لا يقل أهمية عن الأمن القومي والطاقوي في السنوات الأخيرة، ولهذا أصبحت كل دولة تولي عناية كبيرة لهذا الجانب بما فيها الجزائر في السنتين الأخيرتين. - لماذا تمكّنت الجائحة والحرب الأوكرانية من ضرب أسس الاقتصاد العالمي بهذه السرعة، أين يكمن الخلل الذي جعل العالم غير قادر على الصمود، ودفع بالعديد من الدول للسقوط في دائرة العجز عن توفير القوت اليومي لشعوبها؟ في البداية، وجب التأكيد على أن الجائحة لم تضرب الاقتصاد العالمي في حركيته بل ضربت أسس الاقتصاد بشلّ كل النشاطات الاقتصادية داخل الدول وخارجها، ما جعلت الحركة التجارية عبر مطاراتها وموانئها وطرقها ومعابرها تتوقف، وكأنّ العالم عاد لنقطة الصفر، وتوجّهت عقول ومخابر العالم للبحث في كيفية الخروج من هذا المأزق الوبائي، وحين بدأت تنقص مخاطر الوباء وتعود الديناميكية والنشاط المعتاد في العالم، انفجرت عدة أزمات أبرزها الأزمة الروسية والأوكرانية، والتي بمجرد انطلاقها ظهرت انعكاسات اقتصادية أكثر منها أمنية وسياسية، حيث ارتفعت أسعار النفط والغاز ومعها أسعار القمح ومختلف السلع التجارية كمواد البناء، ما يجعلنا نجيب على تساؤلكم بأن الاقتصاد العالمي أصبح يتأثر لأقل الأسباب، ويتوجه نحو الاقتصاد الرقمي واقتصاد المعرفة والاعتماد الذاتي للدول على قدراتها تحسبا لأي طارئ اقتصادي، وبالتالي الخلل الحقيقي حسب تصوّرنا الجيوسياسي والسوسيو اقتصادي، قائم في التشابك والتعقد الذي وصله الاقتصاد وترابطه بكل التحولات السياسية، بمعنى أن الاقتصاد أصبح مترابطا ومتشابكا كثيرا مع الظواهر السياسية والتحديات والمخاطر الأمنية، ولهذا الحل الأقوى والأبرز في هذه المرحلة، هو ضرورة أن تفكر كلّ دولة في تعزيز بناها التحتية والاقتصادية ذاتيا، واستغلال بعض الفترات والظروف التي يمر عليها النظام الدولي كمحاولة شراء الأسهم والسندات في حالة نزولها كما هو حاصل اليوم مع نزول أسعار الذهب وإعادة بيعها في فترة ارتفاع أسعارها. - لطالما شغلت قضية الأمن الغذائي حكومات العالم لما له من تأثيرات مباشرة على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، إذ غالبا ما يؤدّي انعدامه إلى احتجاجات واضطرابات وهجرة، ما تعليقكم؟ يجب الإقرار بنقطة مهمة وأساسية، أن الاحتجاجات التي تنبع من الشعوب تقف وراءها عدة مسبّبات ودوافع خاصة وعامة، على رأسها انعدام الأمن الغذائي الذي يأتي أساسا انعكاسا للحروب والصراعات والأزمات التي تؤدي إلى قلّةُ الموارد الغذائيّة ومُقوّماتها بما فيها الماء والآلات الصناعيّة الإنتاجية، إضافة إلى تزايد النمو السّكاني الذي يفوق إمكانات الدولة في توفير الغذاء المناسب. نقص سلّة الغذاء، من الأسباب التي تؤدي للانفجار الاجتماعي، خاصة داخل الدول النامية كما يحدث في العديد من البلدان، لكن قد نشهد مستقبلا توسع الاحتجاجات حتى في الدول الغنية المتقدمة. ويحدث هذا الانفجار بسبب سوء توزيع الموارد بين أفراد المجتمع الواحد ممّا يؤدي لظهور الطبقية، وانتشار العصابات الإجرامية التي تنهب المنتجات من الدولة وتعيد بيعها، بالإضافة لتفشي الأمراض الناتجة عن نقص الغذاء والمجاعة، وظهور آفات اجتماعية مستعصية، من بينها الهجرة غير الشرعية. هذه أبرز المسبّبات والدوافع ردّا على السؤال الذي تفضلتم به، ما يجعل الكثير من الدول تنادي من أجل خلق حلول سياسية واقتصادية بالتنسيق مع منظمات الغذاء العالمي والصحة العالمية لمواجهة معضلة الأمن الغذائي. - نسجّل منذ فترة احتجاجات هنا ومظاهرات هناك، رؤساء يسقطون كما جرى في «سريلانكا» وحكومات تنهار «بريطانيا وإيطاليا» كردّ فعل مباشر على التردّي الاقتصادي والاجتماعي، فإلى أيّ مدى يمكن أن تصله هذه الاهتزازات؟ نعم، ما يحدث هذه الأيام في العديد من دول العالم، خاصة في ظل تزايد موجات الحر وغلاء الأسعار، وفي ظل انعدام الاستقرار السياسي والاجتماعي، جعل العديد من الدول ترفع منشفة الاستسلام أمام المجتمع الدولي كما يحدث الآن في سريلانكا، فاقتصاد هذه الأخيرة أصيب بالشلل التام، وسط احتجاجات قادت إلى هروب رئيس البلاد، ما يقودنا للحديث عن الشرعية السياسية وواقع الديمقراطية في بعض الدول، لأنه لو كانت هناك ديمقراطية حقيقية لما وصلت هذه الدول للأزمات السياسية والاقتصادية. وبريطانيا بالمقابل مهدّدة بصيف غاضب بسبب الغلاء، خاصة في ظل استمرار الحرب في أوكرانيا التي أثّرت بشكل مباشر على الأمن الاقتصادي البريطاني، وتسبّبت بأكبر زيادة عالمية في الأسعار خلال الخمسين سنة المنصرمة، حيث بات التضخم المتعاظم عالميا يهدد بتفاقم الفجوة بين الفقراء، الذين يشكلون 84 % من سكان المعمورة الذين يكافحون لتغطية تكاليف معيشتهم اليومية، وأولئك القادرين على الاستمرار في الإنفاق، ما يهدّد بموجات من الاحتجاجات والإضرابات حول العالم. ولهذا أصبح ضروريا تقديم حلول واقعية من خلال ضبط أسعار مرجعية للنفط والغذاء والمياه والسلع الكبرى حفاظا على قدرة الدول المتوسطة والضعيفة في العيش دون اللجوء للحروب والعنف والصّراعات. - لا يمكننا الحديث عن الأمن الغذائي دون الحديث عن الأمن القومي، فما هي العلاقة القائمة بينهما؟ طبيعي جدا، لا يمكن الحديث عن الأمن الغذائي قبل الحديث عن الأمن القومي، والذي يتمثل في قدرة الدولة على حماية شعبها بالدرجة الأولى وأراضيها، ومواردها المادية واللامادية ومصالحها من المخاطر الداخلية والتهديدات الخارجية، ومن الأزمات الصحية والأمنية والمائية والإنسانية وأزمات الغذاء العالمية وانعكاسها. وما يثير قلق زعماء الدول والحكومات هو سعيها لإيجاد حلول حقيقية لمشكل الغذاء، وكيفية تحقيق أمن غذائي يرتبط مع الأمن القومي. فكلما تم تحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء، كلما حققت الدولة استقلاليتها وسيادتها. - ألا يمكننا أن نربط مشكلة الأمن الغذائي بفشل السياسات الاقتصادية التنموية للدول؟ نعم هناك ارتباط وثيق بين السياسات العامة التي تنتهجها الدولة مع السياسات التنموية، فكل دولة لها فلسفة تقوم عليها في نهوضها الاقتصادي ورفاهيتها الاجتماعية. إن الدول التي تعاني من أزمات غذائية لها مشكلة في بناها التحتية، بمعنى أنها أهملت الجانب التحتي والمادي ما جعلها تابعة غير مستقلة، ولهذا أقول بأن أهم قاعدة في قوة الدولة وتطورها هو في مدى اهتمام النخب وصناع القرار السياسي بتعزيز البنى التحتية، والاهتمام بالزراعة والصناعات الغذائية والفلاحة المتعددة بتعدد المناخات الموجودة داخل الدولة، فالجزائر مثلا تمتلك الفلاحة التلية البحرية والفلاحة في مناطق الهضاب والجبلية والفلاحة الصحراوية، ونعلم جيدا بأن التطورات الكبيرة في مجال الصناعة الفلاحية جعلت الدول تكتفي من الاستيراد، وكلما توصلت الدولة إلى الاكتفاء، واستطاعت أن تحقق أمنها الغذائي، كلما تحررت من تبعية للدول الكبرى والغنية. - كيف لدولة ما أن تتخلّص من التبعية الغذائية للدول المتحكّمة بالاقتصاد العالمي؟ كما أشرت في الجواب السابق، فإن التخلص من التبعية الغذائية قائم على استغلال كل الظروف المادية والمعنوية والبشرية، والحفاظ على المكتسبات الاقتصادية والتنموية، والاهتمام بالعنصر البشري في التكوين والتعليم، إضافة إلى تطوير المنشآت والاهتمام بالقدرات الذاتية، ومحاولة تقديم إصلاحات اقتصادية وسياسية في ما يخص تعزيز قدرات الدولة في التنمية المستدامة، إضافة إلى الاهتمام باقتصاد المعرفة وتطويره داخل الجامعات ومراكز البحث من أجل تمكين أكبر فرص للتنمية الاجتماعية والاقتصادية داخل الدولة، وعقد شراكات مع دول لها اهتمام بتطوير سلتها الغذائية وفق معادلة اقتصادية «رابح رابح» لكلا الطرفين. - يعاني المغرب كثيرا هذه الأيام بسبب تداعي أمنه الغذائي، فإلى أيّ مدى يمكن أن يصمد في وجه الثورة الشعبية الغاضبة؟ صحيح، المملكة المغربية في السنوات الأخيرة لم تعد سيّدة في أفعالها وقراراتها السياسية، ولم تعد قادرة على استصدار حتى قرارات اقتصادية تمكّنها من تنمية دولتها وشعبها، فالاحتجاجات المتتالية في العديد من المدن والأرياف بالمملكة تنم عن غضب شعبي كبير بسبب نقص الغذاء وغلاء الأسعار، وشحّ الموارد وارتفاع نسبة البطالة وتنامي الآفات والمخاطر الاجتماعية، إضافة للقرارات السياسية التي يتخذها المخزن في الشأن الداخلي وعلاقاته المشبوهة مع الكيان الصهيوني، والتي بدورها جعلت المملكة غير سيدة في بلدها، وكل القرارات الكبرى التي تهم البلد تصدر من تل أبيب، إضافة لغياب الملك عن إدارة العرش منذ ما يقارب أربعه أشهر، وهو ما يجعل المغاربة في حيرة من أمرهم ومن مستقبل بلدهم، وبالتالي الحل الوحيد من أجل عودة الاستقرار داخل المغرب قائم على مراجعة المخزن قراراته ومواقفه السياسية والاقتصادية، والعودة لحضن العمل العربي وبالخصوص مع دول الجوار لأن ما يقوم به سيسيء إلى المملكة كثيرا، وسيضعفها خاصة في ظل تزايد التهديدات الإقليمية والدولية والاحتجاجات الداخلية ضد القرارات الخاطئة للديوان الملكي المغربي. - بنظركم، ما هي الإستراتيجيات التي تسمح بالحفاظ على الأمن الغذائي للدول؟ ما يمكن أن نؤكّده في هذا السياق، أنه في السنوات القادمة والمحطات المقبلة سيكون الأمن الغذائي عنصرا مهما في الخطاب الرسمي والشعبي للدول مع الأمن المائي والطاقوي، وستصبح سبل تمكين الغذاء بمثابة تمكين السلاح بأحدث تطوراته. وسُبُل تحقيق الغذاء وأمنه هو الهدف الأول لجميع الدول، بحيث تصبح قوة الدولة تُقاس بأمنها الغذائي. لذلك على كل دولة في العالم أن ترسم سياسات واستراتيجيات، وتنفيذ الخطط التي تساهم في تحقيق أمنها الغذائي لعقود من الزمن، إضافة لوجود خطط ممنهجة للوصول إلى اكتفاء ذاتي مع المحافظة على الموارد الطبيعية وحمايتها من الاستنزاف، إضافة لزيادة القدرة الإنتاجية من خلال ربطها بالوسائل التكنولوجية الحديثة. ومن الاستراتيجيات الأساسية للمحافظة على أمن الدولة الغذائي، هو تفعيل وتطبيق الأبحاث والدراسات التي تساهم في رفع القدرة الإنتاجية الزراعية دون استنزافها، والتوسع في الزراعة عبر الفصول الأربعة لتقليل كميات الغذاء المستورد، والتركيز على المحاصيل طويلة الأمد في عملية التخزين، إضافة للمحافظة على الموارد المائية من خلال إنشاء السدود، واستصلاح اكبر قدر ممكن من الأراضي الصّحراوية. هذه أهم الاستراتيجيات الكفيلة بحفاظ الدولة على أمنها الغذائي.