أثار انتباهنا سؤال جيّد طرحه صديقنا الأستاذ يزيد أڨدال، الخبير في تكنولوجيا المعلومات، يتعلّق ب «صناعة المعرفة» في المستقبل، وجعله جدليّا بين «الجامعة» و»أنترنيت»، ليخلص به في الأخير إلى أنّ «معطيات الواقع الرقميّ المعيش، هي من ستفصل بين من يرون أنّ «الجامعة» ستحتفظ بمكانتها في صناعة المعرفة، ومن يرون أنّ الواقع الرّقمي سينسحب على مجمل الحياة، ما دام يوفّر المادة العلمية على النت، بل يقدّمها سهلة مبسّطة بروابط شارحة، أو فيديوهات قصيرة تختصر المفهوم العلمي في دقائق معدودة.. ولقد كان واضحا من منشور الأستاذ أڨدال، أنّه يعتبر فروض العصر ضرورة، وأنّ الإلمام بها، والتحكّم في أدواتها، يسمح لنا بترسيخ وجودنا في «عالم المعرفة»، وإنتاج ما يمكّننا من مسايرة الواقع الحضاري المعيش، بعيدا عن الكلاسيكيات التي لم تعد لها من ثمرات تتجاوز حدود محيطها الضيّق، ف «الجامعة» و»دكاترتها» «لن يسمع بهم أحد لو بقوا معزولين منطوين على أنفسهم»، بل لن يحتاج إليهم أحد ما دام طلاب العلم يجدون المادة التي يرغبون في الاشتغال عليها موفورة على أنترنيت، سهلة بسيطة، تقدم لهم نفسها مجّانا، فلا يبقى سوى جهد «الخوارزميات» التي تتولى العناية بوضع قائمة المراجع أمام الباحث، وتكفيه عناء التنقل إلى الدكتور المنطوي على نفسه. هذا هو الفخّ.. ولعلّ ما طرح صديقنا العزيز، يزيد أڨدال، يبدو منسجما مع روح العصر، متّسقا مع الواقع المعيش، وليس من ينكر فوائد إحكام مقاليد التكنولوجيات الحديثة، بل إنّ معظم الناس، على اختلاف مستوياتهم وحاجاتهم، عرفوا كيف يستغلون منصات التوصل الاجتماعي – على سبيل المثال – كي يحقّقوا غاياتهم منها، غير أنّ هذا الواقع المعيش نفسه، صنع مغالطة أوقع فيها كثيرين ممّن يعتقدون أن العالم ينتهي عند أنترنيت، لأنهم ابتلعوا طعم الاختلاط بين «الوسيلة» و»الغاية»، وهؤلاء لا يمتلكون أدنى إمكانات الصناعة بمفهومها العام، بله عن «صناعة المعرفة» بما هي صناعة الصناعة، وهذا ما يمكن أن نوضّحه بأبسط التكاليف.. لنقل إنّ «الدكاترة» انطووا على أنفسهم، ولم يقتحموا العالم الافتراضي، فهل يكون هذا العالم كافيا لمن يرغب في «صناعة المعرفة؟!..ما المقصود ب «الانطواء على النفس»؟! هل نتوقّف به عند حدود اكتساب مهارات التعامل مع الكمبيوتر، أم نذهب به إلى عدم تقديم عصارة الفكر على المنصات الرقمية؟! ..وهكذا نتجنّبه.. نتّفق في البداية أنّه لا ينبغي التفكير، مجرّد التفكير، في «أستاذ جامعي» لا يتقن التعامل مع أنترنيت، وهو إن وُجد، فالمشكلة ليست في»الأستاذ الجامعي» كما نعرفه بالمعنى المجرّد، وإنّما هي في الوثيقة الإدارية التي منحته «الرتبة»، وعلى هذا، ينبغي أن يكون واضحا بأنّنا حين نقول «الأستاذ»، إنّما نقصد صاحب المستوى العلمي الرّفيع، والحسّ المعرفي الموثوق، وهذا لا يفسد ل «صناعة المعرفة» قضية، إن سبقت به الأقدار عصر التكنولوجيات الحديثة. وقد يكون واضحا أنّ الأستاذ الذي يبلغ درجة من العلم مرموقة، لا ينشغل في حياته إلا بالبحث، وهو لا يهتمّ كثيرا بالشّهرة ولا يلهث وراء أضوائها، بل لا يحتاج إليها أصلا، ف «المعرفة» مقام يتجرّد فيه الإنسان من صغائر الحياة ومغرياتها، بعد أن يقف على حقيقة لخّصها أبو حامد الغزالي بمنتهى الرّوعة حين قال: «كلما ازددت علما، ازددت علما بجهلي»، وهذه خلاصة يمكن أن نقطّر منها مقابلها الموضوعي: «كلما كان حظّ الإنسان من المعرفة ضئيلا، يزداد جرأة على الأمور العظيمة»، وهذا – في رأينا – يكفينا معالجة (تهمة) الانطواء، والبقاء بعيدا عن الأضواء.. الآن، هل يمكن أن نفرض على الأستاذ تقديم عصارة سنين من جهده على أنترنيت؟! قد تجد أعمالا علمية كثيرة على مختلف المنصّات الرقمية، لتقدّم خدماتها للباحثين، ولا تطلب أكثر من ذكر حسن في الهوامش، وعلى ثبت المراجع، كما هي مقتضيات البحث العلمي، وهذا جهد مشكور، غير أن هذه الأعمال – في معظمها – تقدّم «معارف»من الدّرجة الثانية، وإذا وجدتَ فيديو يتحدّث عن «كرنفال» ميخائيل باختين (1895 - 1975م)، على سبيل المثال، فلا تظنّ مطلقا بأنّك يمكن أن تستوعب عمق الفكرة، ما لم تسهر السّهر الطويل على قراءة كتاب «الجمالية ونظرية الرواية»، الذي لا يمكن تلخيصه في دقائق معدودة، وهذا كتاب لا أثر له على أنترنيت؛ لأنّه من أمهات الكتب، وليس يتاح إلاّ لمن يقتنيه، فقد استوعب الغرب، وهو صاحب الرّقمنة في ذاتها، أنّ «المعرفة» لا ينبغي أن تكون متاحة إلا للخاصة من يحسّون فعلا بالحاجة إليها، ويقدّرونها حقّ قدرها، فلا تختلف الحال مع جميع الكتب المؤسسة في حقولها المعرفية، ولك أن تبحث عن الكتب والمقالات المؤسسة، فإنّك لن تجد لها أثرا على الشبكة، ولا سبيل إليها إلا بدفع حقوقها، فهل يصحّ بعد هذا، أن نقول إن أصحاب النظريات الكبرى انطووا على أنفسهم؟! ليست مسألة «انطواء» إذن، وإنما هي مسألة جهد لا ينبغي أن يحظى به إلا من يحتاجه فعلا، ومن حسن الحظ أنّ جامعة الجزائر تخيّر صاحب العمل العلمي، بين نشره على النت، أو الاحتفاظ به في (الانطواء)، فيختار كل من يتوسّم في عمله أنّه يقدّم مادة قيّمة، تستحق أن تكون كتابا، أن يحتفظ بحقوق جامعته، وحقوق ناشره، وهذه أعمال تتوفر بالمكتبات عادة، وتقدّم نفسها للنقد دون وجل، بل تستغل الوسائط الرقمية كي تعلن عن نفسها، ورغبتها في التوسع من خلال النّقد ونقد النقد، ونعتقد أنّ هذا يدرأ أعمال الذين قد يرفضون النشر الافتراضي لأسباب أخرى لا نرى حاجة في التّعرض إليها.. هذا مثال عن «المعرفة» في الرّقمي.. على كلّ حال، تنبّه صديقنا الأستاذ أڨدال إلى «خطر الدّخلاء» الذين قد «يستغلون الواقع الرّقمي»، وإن كان بحسن نيّة، من أجل الإبهار أو تحقيق «اختراق» على منصّة من المنصّات، قد يجلب لهم شيئا من الفوائد، ولكننا لا نرى ما يدعو إلى القلق من هذا؛ ذلك أن واقع المعرفة يبقى متعاليا عن «الطّرح المسطّح»؛ لأن الباحث الورع يحرص على التّحصيل والإضافة، ويتخيّر ما ينفع مشروعه العلمي، لا ما يسهّله عليه، وهنا يمكن أن نتمثل بمفهوم بسيط، يتردّد كثيرا في الأوساط النّقدية العربية، دون أن تكون له أيّه إضافة فعلية للفعل النّقديّ، مع أنّه متوفر على النت، وهو مفهوم «التجريب في الرّواية»، وكنّا تناولناه في ملتقى عبد الحميد بن هدوقة ببرج بوعريريج قبل ستّ سنوات، تحت عنوان: «مأزق الحركة النقدية الأدبية العربية إشكالية التجريب الروائي نموذجا»، ثم عدنا إليه في مختلف المنتديات والمنصّات، وقدّمنا ما يوضّح المغالطة التي يتأسّس عليها المفهوم بحاضنتنا العربية، ثم طرحناه للنقاش غير مرة، فلم نجد من النقاد العرب جميعا، سوى الأستاذ واسيني الأعرج الذي اعترض على طرحنا، ولكن الوقت لم يسعفه كي يواصل تفكيك ما قدّمنا له من أدلّة تؤيد موقفنا من «المفهوم»، ثم طرحناه للنّقاش على جريدة «الشعب» في مقال نشرناه قبل أسبوع ونيّف، وسمناه بعنوان: «التجريب الروائي»..واقع معرفي أم بهتان نقدي؟!»، فكان النشر ورقيا وافتراضيا، ولكننا لم نجد واحدا من بين الآلاف الذين نشروا كتبا ومقالات تتأسس على هذه المغالطة المفهومية، يتصدّى للدفاع عمّا اشتغل عليه، بما في ذلك أطروحات الدكتوراه ورسائل الماجيستير ومذكرات الماستر، وها نحن ندعو من جديد إلى التخلص من المغالطات التي تعجّ بها أنترنيت، والعودة إلى أصول مفهوم التجريب بقصد التأصيل له من جديد، وسننتظر قراءة أيّ جديد في الموضوع.. الواقع والمواقع.. ولا ندّعي بأن نفع أنترنيت لم يكن جليلا، في مادة البحث العلمي، غير أنّنا أردنا التنبيه إلى أن هناك حظرا بالنت على جميع الكتب ذات القيمة العالية، فالناشر يدرك جيّدا أن الباحث سيضطر إلى الكتاب، ولهذا لا يجعله متاحا إلا إذا تمّ تجاوزه، ولدينا على هذا أمثلة كثيرة، آخرها ما تجشمنا من صعاب من أجل الحصول على كتاب لفلاديمير يانكيليفتش، ولو أنّنا اكتفينا بما توفر على الشبكة، لما توصلنا إلى شيء ينفع، وواضح أن عمل يانكيلفيتش الذي نقصده، محوري في مادتنا التي قصدنا إليها، ولم يتأثّر بغيابه عن الشّبكة التي توقف دورها عند حدود الإعلام بوجود الكتاب، أو تقديم ملخّصات لا تفي بالحاجة، فإذا قدّرنا أن هناك من يكتفي بالمعلومة المسطّحة، فإنّنا لا يمكن أن نصدّق مطلقا بأنه يمكن أن ينتج «معرفة» ما، لأن مهر «المعرفة» يتجاوز الملخّصات القصيرة، والفيديوهات الشّارحة، ولعل أبسط مثال عمّا نقصد إلى شرحه في مقامنا هذا، هو مسارعة الجامعات والأكاديميّين إلى استغلال ما تتيحه مواقع التواصل الاجتماعي في إقامة ملتقيات دولية، ولكنّها تجعل أشغالها حكرا على أسماء بعينها، لأنّ من ينشّطونها لا يرغبون في الظهور، قدر رغبتهم في المعرفة.. ولهذا كلّه، نعتقد أنّنا يجب أن نمنح الأولوية لاستيعاب الواقع الرقمي كما هو في ذاته، لا كما نتصوّره في مخيّلتنا، حتى نتمكّن من التعامل معه وفق ما هو عليه، لا وفق ما نظن أنه عليه؛ ذلك لأن الواقع الافتراضي يتقاطع مع الواقع المعيش، ويقاسمه كثيرا من سماته، وهو يمكن أن يخدم المبحر فيه، تماما مثلما يمكن أن يستخدمه، ما يعني أنّنا يجب أن نجعل من أنترنيت فضاء يخدم حاجاتنا كلها، وحاجتنا المعرفية بصفة خاصة، دون أن نغفل طبيعة تركيبة هذا العالم الموازي.. عودا على بدء، نرى أنّ سؤال صديقنا الأستاذ يزيد أڨدال، حصيف يستحق الاهتمام، والواجب يقتضي إعمال النظر في متطلبات التكنولوجيات الحديثة وفروضها وإكراهاتها، أمّا «المعرفة» فيصنّعها الانسان، مهما يكن موقعه، واقعيا أم افتراضيا..