هذا سؤال كبير جدًّا، أكبر من حدود مقال في جريدة، بل أكبر من كتاب وسلسلة كتب، لكن هذه المعضلة لن تمنعنا من السعي لطرح أسئلة كبرى محورية عن واقعنا المزري، ومحاولة الإجابة عليها.. في سبيل تغيير واقعنا من حالٍ إلى حالٍ، وبهدف إيجاد حلول سريعة وناجعة لما نعانيه من مشكلات صغيرة وكبيرة تكدست في واقعنا، فحجبت عنّا الرؤية، رؤية ما سنستقبله من وقائع وأحداث في وسط عالم لا يعرف السكون، وبين أممٍ كلها حركية ونشاط، فهل عُدمت المحاولات التنظيرية للبحث عن مخرج من عنق الزجاجة لما تعانيه أمتنا الجزائرية من مشكلات جذرية على مختلف المستويات؟! سننطلق من حقيقة واقعة هي أن الحلول الجذرية للمشكلات الجذرية بات ضربا من المستحيل، وأي مساعٍ لتحقيق ذلك هو إهدار للأوقات والجهود؛ فدول اليوم هي دول مؤسسات، ومن البديهي أن يُبدأ في الإصلاح بهذه المؤسسات مؤسسة مؤسسة، حتى يعمَ النظام كل الربوع. فإصلاح الجزء أسهل وأجدى من إصلاح الكل، خاصة في غياب وعي كلي بجدوى هذا الإصلاح والإيمان بنجاعته، ولهذا الغياب دواعٍ نفسية واجتماعية يطول شرحها، وليست من موضوعنا في هذا المقال. ثم إن إصلاح الجزء مدعاة لإصلاح الكل، باقتداء الأجزاء الأخرى بمنجز ذلك الجزء واحتذاء تجربته الإصلاحية. عودة الجامعة إلى أداء وظيفتها «غنّ أخي الزارع! لكي تهدي بصوتك هذه الخطوات التي جاءت في عتمة الفجر، نحو الخطّ الذي يأتي من بعيد.. ولكن الشمس المثالية ستتابع سيرها دون تراجع، وستعلن قريبا انتصار الفكرة وانهيار الأصنام..» ]شروط النهضة، مالك بن نبي[ إن هذه البداية المنشودة تتطلب منا إعادة ترتيب أوراقنا التي تبعثرت مع مرور الأحقاب والعصور، وبلادنا -وأغلب البلاد العربية والإسلامية أيضا- قد عاشت فوضى خلّاقة على جميع القطاعات والميادين، ما جعلها لا تدرك معنى واضحا للترتيب أو النظام، وهذا النمط من الفوضى قد كبح تلك المحاولات في إرساء قواعد التنمية وربما قتلها في مهدها، وما يزال إلى اليوم تكرّر الممارسات نفسها بطرق أكثر تطوّرا، «ومن عادة التاريخ ألا يلتفت إلى الأمم التي تغطّ في نومها، وإنّما يتركها لأحلامها التي تطربها حينا، وتزعجها حينا آخر؛ تطربها إذ ترى في منامها أبطالها الخالدين وقد أدّوا رسالتهم، وتزعجها حينما تدخل صاغرة في سلطة جبّار عنيد»]شروط النهضة، ص22[. فإرساء النظام لا يكون بعصا سحرية، ولا بقمقم الجان محقّقِ الأمانيّ، بل يكون من خلال اتباع سنن معيّنة تمسّ الفرد والجماعة، «تتمثل في جهود الأجيال المتعاقبة في خطواتها المتّصلة في بسبيل الرقيّ والتقدم»]م.ن، ص.ن[. والثورة الحقيقية التي تروم التغيير، تنطلق في تحقيق مبادئها من الإنسان الذي هو الحجر الأساس لكل تنمية وغاية كل مشروع حضاري، ثمّ تنتقل إلى تحقيق الوسائل الضرورية والكمالية التي هي ثمرة تأهيل ذلك الإنسان، ف «المسألة هي أنّه يجب أولا أن نصنع رجالا يمشون في التاريخ، مستخدمين التراب والوقت والمواهب في بناء أهدافهم الكبرى»]م.ن، ص82[، وإن لم نفعل ذلك، فسنبقى عالة على إنسان الحضارة الغربية، نستهلك ما يورد لنا، ويا ويلنا من يوم يتوقف فيه الاستيراد! ..ومن أولى القطاعات التي يجب أن يولى لها اهتمام خاص «الجامعةُ» التي تمثل «الموضع الروحي النموذجي لاحتمال العالم بواسطة علم خاص بأنفسنا وطريقة خاصة في تعليم أنفسنا»]الهوية والزمان، فتحي المسكيني، ص157[، والتي من المفروض أن تكون الكيان الذي يخلق التنمية ويعيده إليها، بأن تُضخّ فيها الأفكار والجهود والأموال بطرق مدروسة مضبوطة عبر إصلاحات تهدف لرتق الصدوع على مستويات الإنسان والتسيير، والبرامج، والورشات، والآفاق، فإذا كان هنالك مؤسسات يجب أن تخضع للمساءلة الجذرية فإن الجامعة على رأس تلك المؤسسات، لأنّنا بعد أن حيّدنا دور الجامع في التثقيف والتنوير لم يبقَ لنا إلا الجامعة التي ننتظر منها أن تصبح مركز إشعاع الأمة حيث يصنع علمها الخاص. «فالجامعة لا تعني اليوم أكثر من جهاز شرعي لإنتاج موظفين نوعيين قابلين للاستعمال العمومي في فضاء دولة ما»]م.ن، ص159[، إذ لم يتوقف الأمر على كونها مكانًا لحقن المعارف، وضخ المعلومات التي تحوز محركات البحث أضعاف أضعافها، وليس مؤسسة تمنح الشهادات على أساس الاستحقاقات النظرية، و«ليست مخزنا للبحوث لا يقرؤها أحد، بل هي مقام روحي لاتّخاذ قرارات جذرية لم تُتّخذ منذ ابن رشد»]م.ن، ص159[. إعادة تشييد الجسور بين الجامعات والمؤسسات وأهم جزئية –في نظرنا- لتفعيل دور الجامعة هو من خلال إسهامها في إنعاش الاقتصاد، بإعادة ربط الجسور بين المؤسسة الاقتصادية والجامعة، ولا يكون ذلك كذلك إلا بإدراك الجامعة لاحتياجات المؤسسة الاقتصادية في تخصصات بعينها، وعلى ذلك الأساس تُضبط التخصصات وعدد المتخرجين فيها، وبهذا ستتراجع الأرقام المهولة لقوافل البطالين، ويتحقق بالمقابل الاكتفاء الذاتي فيما يتعلّق بالتخصّص. فتنصيب أهل التخصص في مختلف شرايين الحياة (والقطاعات الاقتصادية واحدة منها)، سيخلق فعالية هي نتيجة حتمية للاستحقاق المعرفي والكفاءة المهنية، إذ معظم مشكلاتنا اليومية هي نتائج مباشرة لجهلة يقودون متعلمين، فقائد الجوق إذا كان جاهلا بالتخصص الذي يزاول النشاط فيه، يفسد جهود الجماعة وإن حسنت نيته وأخلص؛ فالأمانة في أي مشروع مطلوبة، لكنها لن تؤتي أُكلها ما لم تتبعها القوة (أي المعرفة العميقة بالتخصص المزاوَل) وهذا ما عنته ابنة النبي شعيب -عليه السلام- بقولها: «إن خير من استأجرت القوي الأمين». فإذا «ظهور الجامعة لدينا ما يزال حدثًا عنيفا وإداريا، ولم يصبح بعدُ تقليدا داخليا لإنتاج الحقيقة»]م.ن، ص159[، فعلى الأقل لنجعلها تقليدا داخليا يتخرج فيه المتخصصون الذين يعرفون من أين تؤكل الكتف، وإن لم يرتقوا ليكونوا مثقفين يجمعون بين الثقافتين الأفقية والعمودية معا! التربص داخل المؤسسة.. ضرورة وليس ترفا ويجب على الجامعة والمؤسسة أن تعيد الاعتبار إلى المرحلة البينية التي تتمثل في تكوين الطلبة في السنة الأخيرة من التخرج الخاضعين لتربص قصير أو طويل المدى المتزامن مع التحضير للتخرّج داخل المؤسسات، لتسهيل الانتقال من عالم التلقين الجامعي إلى عالم الشغل. هذه الخطوة المهمّة ستمنحنا متخرجين لديهم خبرة مبدئية بالتخصصات التي سيزاولونها مستقبلا، ورؤية –على بساطتها- تمكنهم من الاندماج في عالم الشغل بكل أريحية. وأحسب أنّ للجامعة دورا مهمّا في تأهيل الطلبة وتأهيلهم ليكونوا جاهزين لدخول عالم الشغل بمنحهم أكبر قدر من المعلومات المتعلقة بالتخصص، وكذلك مجموعة المهارات المطلوبة على رأسها حذق اللغات الأجنبية إلى جانب اللغة الأم، وإتقان مختلف البرامج المكتبية وغير المكتبية. فتأخر عمليات الرقمنة في هذه القطاعات سبب غياب التأطير اللازم في مرحلة الطلب الجامعي وفي مرحلة الشغل، حيث يقع تكوين الأفراد في قاع الاهتمامات! نحن نؤمن أنّ في الزوايا مشاريع قد سبقت إلى تبني هذه الأفكار، وتحقيقها ميدانيا، لكنّ هذه الأفكار ما لم تطبّق على نطاقات واسعة فلن تتحقق الفعالية المنتظرة من ورائها، لذا وجب العمل على نشر التوعية بضرورة الإسراع إلى تطبيق هذه الإصلاحات ما دامت هنالك نية سياسية حقيقية في تغيير الأوضاع إلى الأفضل بوجود خطة طريق مبدئية تمثلت أولا في خلق وزارة خاصة بالمؤسسات المصغّرة، وثانيا بتنصيب وزير للتعليم العالي والبحث العلمي ذي نزعة ميدانية، أبان عن نيته منذ الوهلة الأولى بربط الجامعة بالمؤسسة الاقتصادية، وهدفه إلى جعل الطالب قادرا على خلق مناصب شغل لا الاكتفاء بالبحث عنها!