الساعة الثالثة والنصف فجراً من يوم 20/12/2022 مسكت القلم وبدأت أكتب نداءً ودعاءً إلى الله سبحانه وتعالى بعد أن تواردت الأخبار أنّ الأسير ناصر أبو حميد في غيبوبة وبوضع صحي خطير، قلت: يا الله، إنّ سكان الأرض لم يستجيبوا لاستغاثتنا، ولم يهبّوا لنجدتنا، عاجزون عاجزون عن التدخل لإنقاذ حياة الأسير المناضل ناصر أبو حميد الذي استفحل مرض السرطان في جسده، لم يفعل أهل الأرض شيئاً، لا باسم الدين وتعاليم السماء والأنبياء، ولا باسم المبادئ الإنسانية ومواثيق حقوق الإنسان، عاجزون عاجزون، تركونا لوحدنا على أرض فلسطين نواجه الطغاة الصهاينة دون حماية، منكوبين مقتولين وما أكثر الجدران التي ترتطم رؤوسنا بها. يا الله: لم يعد سواك لتفعل شيئاً وأنت على كلّ شيء قدير، أعط ناصر أبو حميد ابنك المأسور روحاً ثانية وحياة جديدة، أنزله عن الصليب ليستقبل مع أهله وشعبه ووالدته العظيمة عاماً فلسطينياً آخر ليس فيه موت ولا انتظار، لا تجعل الأعداء يفترسون روحه في هذا الصمت الرهيب، إنه يحتاج إلى الحياة الآن أكثر من الآخرة. وقلت: يا الله حطّم القيد عن يدي ناصر وانفخ الهواء في رئتيه ليكون معنا في رأس السنة الميلادية، لا تفجعنا وتطفئ شموع الميلاد، هنا شعبك، شعب أرض الرباط والمقدسات، أرض الإسراء والمعراج، أرض اليسوع عليه السلام، هنا شعبك المؤمن الذي يقاوم أعداءك بالحجارة والرصاص وبالصمود وبالصبر والعبادة وبالصلاة، ارفع يا الله عنه وعن شعب فلسطين هذا البلاء وأنت السميع البصير. يا الله ماذا تريد أكثر ممّا قدمناه من قرابين وضحايا في سبيل الحق والعدالة والصراط المستقيم، مليون أسير فلسطيني وأكثر، الآلاف المؤلفة من الشهداء والأرواح والجرحى والمبعدين والمنكوبين والمشردين والمفقودين، اجترحنا المعجزات والإبداعات، قمنا بكل الفروض والواجبات والمناسك لحماية أرضك المباركة من الغزاة والشياطين وأعداء الآلهة، لم نترك القدس عاصمة السماء لسياسات التهويد والعزل والضم والاستيطان، ظل صوت الله أكبر وقرع الأجراس تصدح في المدينة حتى آخر قطرة دم، فافعل شيئاً يا الله، كلّ شيء رهن إرادتك وأنت الذي تحيي العظام وهي رميم. لم يكتمل ندائي إلى الله سبحانه وتعالى، ففي الساعة السادسة صباحاً من يوم 20/12/2022، أعلن عن استشهاد الأسير المناضل الصديق ناصر أبو حميد، توقفت الساعة فتوقفت عن الكتابة، وقلت: ربّما الله سبحانه أراد إنقاذ ناصر أبو حميد من عذاب السجن والمرض وتقاعس المجتمع الدولي، حرره من المؤبدات القاسيات ومن الظلمة الباردة، وعندما تأخر خلفاء الله على الأرض رفعه الله حراً إلى ملكوته الأعلى، نزع عن وجهه الأجهزة الطبية والكوابيس المرعبة، لقد ضاقت الأرض وانفتحت أبواب السماء. حرّر الله ناصر أبو حميد ولم يحرّره أحد، ودّع أشقاءه الأسرى الأربعة، ودّع أمه الصابرة، ذهب جسده إلى المشرحة أو الثلاجة الباردة، الجريمة متكاملة، المحكمة الجنائية الدولية متقاعسة، الأممالمتحدة ومؤسساتها متخاذلة، القرارات الدولية لم تنقذ أسيراً مريضاً، ولم تمنع إعدام الفلسطينيين في الشوارع والساحات والأرصفة، ولم يكن ناصر خائفاً من الموت، كان خائفاً من هذه الشعارات الجوفاء الغامضة، خنقته وحبست الصوت في الحنجرة. حرّر الله ناصر أبو حميد ولم يحرّره أحد، لم يكن يخشى الموت وهو كما قالت والدته: منذ صغره كان مشروع شهادة، كان خائفاً على من بقي وراءه في السجون، الأسرى الذين يقضون عشرات السنين، المرضى المحطمة والمدمرة أجسادهم، لا أحد قرع الباب، لا طارق ولا هواء ولا دواء، من يزرع الأمل ويهدم الحائط السياسي والمادي؟ من يحمل مطرقة وفأساً ويحطم الهيكل المزعوم؟ ناصر أبو حميد رفض التكرار والخمود في زمن السجن، كان إنساناً عاشقاً وصاعقاً بشرياً يتحرك في قنبلة. الشهيد الأسير ناصر أبو حميد لم يمت، لقد أكمل دورة الحياة حتى اللحظة الأخيرة، اكتمل مع حياته الأولى وحياته الثانية وظل طليقاً يقاوم الموت بروحه العنيدة، قضى حياته يقاتل من أجل الحرية والكرامة والشرف والكبرياء، ظل مشتبكاً جسداً وروحاً مع المحتلين والسجانين والنازيين والعنصريين والدخلاء، ظلّ حيّاً واقفاً على قدميه، لم يركع إلا لله، لم يتلاشى ناصر أبو حميد في عتمة السجن والرطوبة والحديد والوقت الثقيل، كان الأقرب إلى الحاضر من الحاضرين، وكان الأكثر حياة من الأحياء خارج السجون، فأيّ أسير هذا حرك الأرض والسماء بشهقة واحدة؟ دم رام الله رأيته يسيل، مغمور بدموع الشمس الباكية، وبين الزفة والوجع رأيت مخيم الأمعري مسقط رأس الشهيد ينظر إلى الأفق، هناك طير يشبه المفتاح يحرث الغيوم، لهذا تأخر الشتاء قليلاً هذه السنة، الأمطار توشوش الشجر والطبيعة، هناك ترنيمة سماوية، ملائكة يهبطون ويصعدون، صارت رام الله القصيدة والشهيدة والأغنية. دماء فلسطين تسيل، دماء المئات من الأسرى والمعاقين والجرحى والغائبين خلف الجدران، دماء الحالمين، دماء الشهداء التي طفحت وغمرت الأرض هذا العام، وعندما قرأت وصية ناصر أبو حميد التي قال فيها: أصغوا جيداً، هذا الاحتلال يحتاج إلى مخالب وأظافر طويلة، لا دليل على الصيف الحار إلا الزلازل التي تجري في شرايين أجسادكم، عليكم أن تتحسسوها، النار والنور والدماء في أنفاسكم اللاهبة. رحل الشهيد ناصر أبو حميد، كان يوماً فلسطينياً صعباً وحزيناً وغاضباً، رحل الرجل الذي لم يكن يؤمن يوماً بالنصوص الناعمة، رفض أن يمتلكه السجن ويتغلغل إلى روحه وعقله وأحلامه القادمة، تمرد ناصر جوعاً وإرادة على السجن والسلاسل ولم يساوم حتى امتلك كل أسباب الموت وأسباب الحياة، اسمعوه يقول: أفضل أن أتوجع حتى أظل صاحياً يقظاً فلا تطبق على روحي أسنان الدائرة. لم نستقبله حياً ولم نستقبله ميتاً، الفاشية الصهيونية تخشى السجناء، لم يستطع السجن أن يبتلعه في ظلامه وقبوره العتيقة، لم يستطع السجن أن يطحنه في الاسمنت والجدار والنسيان، الأسرى ليسوا أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون، لهذا أبشركم هذه السنة بالمطر الغزير والثلج الأبيض الكثير وبالطوفان والعاصفة. رحل الأسير ناصر أبو حميد تاركاً وجعه في قلوبنا والأسئلة، من يعلق دولة الاحتلال على مشنقة الأممالمتحدة؟ دولة إرهابية بوليسية تمارس الجريمة المنظمة، من يضعها على القائمة السوداء ويلاحق المجرمين القتلة؟ لا تنتظروا قانون بن غفير والنشوة المتطرفة المجرمة، فالرصاصة في اللحم والعظم والعقل والرأس والذاكرة. احتجزوا جسد ناصر لكن جسمه موزع في جسوم كثيرة انظروا إليه: في وجهه وجوه عديدة الضوء الذي لا يجيء من الأرض تنيره السماء في هذي الجموع الغفيرة