تحسين مناخ الأعمال ومواكبة المنظومة البنكية يُعتبر القطاع البنكي من أهم العوامل التي تحدد مستقبل العلاقات الاقتصادية لأي دولة مع شركائها الاقتصاديين، إذ لم تعد البنوك مجرد شبابيك تستقبل الودائع وتسيّر وسائل الدفع وتمنح القروض، بل أصبحت قطاعا يؤثر في مسار المؤسسات الاقتصادية وتسعى لتوفير الظروف الملائمة التي تسمح للاقتصاد بالنمو وسط جو من الاستقرار لإحداث التنمية الاقتصادية، وهو ما تسعى نحوه الجزائر اليوم. قطعت الجزائر أشواطا كبيرة في سبيل إصلاح المنظومة الاقتصادية إصلاحا جذريا ينطلق من النصوص التشريعية الممهدّة لتعزيز الاستثمار المحلي والأجنبي على حدّ سواء، ووضع قاعدة قانونية طويلة الأمد من أجل تدارك التأخر الكبير في مختلف مجالات الاقتصاد، فعقب إصدار قانون الاستثمار كأحد أهم النصوص القانونية التي تمت المصادقة عليها خلال العام الجاري، ينتظر متابعون للشأن الاقتصادي الوطني صدور قانون النقد والقرض المصرفي الجديد بعد أزيد من ثلاثين سنة عن آخر قانون للنقد والقرض عرفته الجزائر. وبالرغم من أن قانون النقد والقرض الصادر سنة 1990 يعدّ وثبة نوعية في عملية الإصلاحات الاقتصادية التي باشرتها الجزائر آنذاك، إلاّ أن ثلاثة عقود من الزمن كانت كفيلة بإبراز مدى قصور القانون في العديد من الجوانب، خاصة وأنّ المرحلة السابقة كشفت عن ثغرات حملها القانون واستغلها البعض لنهب الاقتصاد الوطني بدل تعزيزه والنهوض به. يرى الخبير الاقتصادي عبد الرحمن هادف في حديثه ل «الشعب»، أن مراجعة قانون النقد والقرض تعتبر خطوة كبيرة في التحول الاقتصادي وفي مسار تحسين مناخ الأعمال في الجزائر وهو ما سيسمح بمواكبة المنظومة البنكية بالجزائر لكل التحولات الداخلية والخارجية التي يعرفها الاقتصاد العالمي. وأضاف أن تحيين القانون سيسمح للجزائر بالاعتماد على منظومة عصرية وإطار محفز وفعّال ومساهم بنجاعة كبيرة في تحسين الأداء الاقتصادي بالجزائر، مستشرفا تطرق مراجعة قانون النقد والقرض لعدة أبعاد أولها البعد المؤسساتي من خلال تعزيز صلاحيات بنك الجزائر وتحسين أدائه وحوكمته. وأشار هادف أن قانون النقد والقرض المصرفي الجديد سيسمح بعصرنة المنظومة البنكية بصفة عامة وتسييرها وتحيين دور البنوك كفاعلين أساسيين في الشأن الاقتصادي، إضافة الى الهيئات المالية التي أصبح دورها مهما في المشهد الاقتصادي. ومن منظور آخر، أوضح الخبير الاقتصادي هادف أن الجزائر ووفق رؤيتها الجديدة للتحول الاقتصادي تحتاج الى منظومة منفتحة على العالم والمؤسسات والهيئات العالمية، لذا فعصرنة الخدمات البنكية تحتاج الى ثورة بكل إبعادها من منظومة التسيير والحوكمة إلى آليات التسيير والمورد البشري بالإضافة الى إدراج التكنولوجيات الرقمية التي صارت اليوم أولوية في مراجعة قانون النقد والقرض. ودعا محدثنا الى تأسيس ما يسمى بصناعة الدفع التي تحتاجها المنظومة البنكية خاصة وأنّ هناك تشجيع كل ما هو دفع إلكتروني ومالية إلكترونية، ناهيك عن تشجيع الاستثمار، شركات الخدمات المختصة في الدفع، وقال الأستاذ عبد الرحمن هادف إن هذا جزء من الخطوات التي تمكّن الجزائر من اكتساب منظومة مالية وبنكية فعّالة، فالتحديات الكبرى اليوم تتعلق باحتواء ظاهرة التضخم التي يوصي الخبراء بأن من أهم آليات التحكم فيها هي السياسات النقدية التي تتبعها الدول. وأفاد الخبير الاقتصادي أنه بمراجعة القانون سنمكّن المنظومة من اكتساب المرونة والآليات اللازمة في احتواء ظاهرة التضخم وغيرها من الظواهر المتعلقة بالسياسات النقدية، وأوضح محدثنا أن مصطلح «المرونة» يعني تقليص المسار في اتخاذ القرارات وكبح آثار البيروقراطية على المنظومة المالية والبنكية بصفة عامة. ومن جهة أخرى، أكدّ رئيس منتدى الاستثمار وتطوير المؤسسات، يوسف ميلي في تصريحات ل «الشعب»، أن قانون النقد والقرض هو مفتاح التعامل والاندماج مع السوق الدولية، مشيرا إلى انه كلما كانت هذه القوانين مرنة كلما كانت علاقتنا مع الاقتصاد العالمي جيدة. وأضاف الخبير الاقتصادي يوسف ميلي، بأنه لا يخفى على أحد أن قانون النقد والقرض الجزائري لم يتغير منذ ثلاثين سنة، وبالتالي «إذا أردنا اليوم الالتحاق بمجموعة «بريكس» والرهان على دفع الصادرات، علينا إعادة تكييف قوانين النقد والقرض مع السرعة والتطور الذي عرفته هذه القوانين في العالم». وأشار ميلي إلى أن أهم شيء في هذا القانون هو حرية وسرعة تحويل الأموال، وهو أمر أساسي ومهم بالنسبة للعديد من المستثمرين أو أصحاب المؤسسات، وأضاف بأنه بالرغم من أن قانون الاستثمار الجزائري الجديد قانون جيد وممتاز، لكنه يبقى بدون فعالية إذا لم يُدعم بقانون نقد وقرض فعّال. وقال محدثنا «اليوم الاقتصاد الوطني يعاني من تكلّس وقيود من بين أسبابها قانون النقد والقرض وعليه نعتقد انه يجب أن يحمل القانون الجديد إجراءات فعّالة في تسهيل وسرعة التحويلات المالية». وحول فكرة استقلالية محافظ بنك الجزائر قال ميلي « لا اعتقد أنها تتناسب مع روح ومقومات الدولة الجزائرية، وعليه نعتقد أن إشراف رئاسي على البنك المركزي شيء طبيعي، لأن البنك المركزي ملك للدولة الجزائرية بشكل كامل وليس مثل بنك الاحتياط الأمريكي أو التركي، وعليه طالما أن منصب محافظ البنك هو منصب إداري تعييني، فلا يمكن أبدا إعطاءه صلاحيات مطلقة بشكل كامل». ودعا ميلي الى سنّ قانون يتماشى مع تطورات الأسواق العالمية، منوّها إلى حتمية إعادة النظر في قانون النقد والقرض بنظرة اقتصادية بحتة بعيدا على التفكير البيروقراطي الإداري. من جهته، يرى الخبير الاقتصادي مراد كواشي أنّ سلسلة الإصلاحات الاقتصادية التي باشرتها الجزائر هذه السنة وعلى جميع الأصعدة خاصة من الجانب التشريعي، وبعد صدور قانون الاستثمار الجديد، أصبح من الضروري إعادة النظر في جملة من الآليات القانونية التي تكمّل هذا القانون ومن بينها قانون النقد والقرض الذي أصبح لا يتواءم مع بيئة الاستثمار الحالية. وأشار محدثنا الى أن قانون النقد والقرض الحالي صار منفرّا للاستثمارات المحلية والأجنبية، مشيرا إلى أن الدولة الجزائرية استبقت إعادة قانون النقد والقرض بجملة من الإصلاحات البنكية من بينها فتح فروع لبنوك جزائرية عمومية بالخارج، سواء في فرنسا أو بعض العواصم الإفريقية وهو الشيء المحفز للتبادلات الاقتصادية بين الجزائر والدول الأجنبية. وفي ذات السياق، أفاد كواشي أنّ فتح فروع بنكية بالبلدان الأوروبية أو الإفريقية سيشجع على التحويلات المالية، لذا فإعادة النظر في قانون النقد والقرض ضرورة تفرضها المستجدات السالفة الذكر من أجل إصلاح آليات التعامل داخل البنوك الجزائرية، والمساهمة في التقليص من حجم السوق السوداء خاصة مع تواجد كتلة نقدية كبيرة خارج القنوات البنكية الرسمية، وفي حال تعديل القانون محلّ الموضوع فبالإمكان استقطاب جزء من هذه الكتلة النقدية التي تعد مهمّة جدّا لتحفيز الاستثمار.