يبدو بهذا التتويج لأحد أعمدة الأدب الروائي العربي، وباختيارها لثلاثيته (بين القصرين، وقصر الشوق، والسكرية) وروايته «ثرثرة فوثق النيل»، تكون لجنة نوبل قد خرجت مما كانت تعانيه من انتقادات كونها جائزة أورومركزية بالأساس، وأنها اعترفت بالقيمة الجمالية والفنية والموضوعاتية لهذا الأديب العربي، لكنها توقفت عند هذا الحد، مما يطرح العديد من الأسئلة عن سبب عدم مواصلتها في تتويج الأدباء العرب؟ وهل للأسباب السياسية دخل في اختيارات نوبل (الموافقة على توقيع اتفاقيات السلام مع الكيان الصهيوني) أو بسبب روايته المثيرة للجدل «أولاد حارتنا» أو كما قال فإن روايته «أولاد حارتنا» هي آخر رواية تُرجمت إلى اللغة الانجليزية، وقد كان «تركيز اللجنة على ما أنجزته في تطوير اللغة العربية في الفن الروائي». قصة الجائزة.. ولم يذكر تقرير لجنة نوبل رواية «أولاد حارتنا» لا من قريب ولا من بعيد، كما لم يشر إلى مواقف نجيب محفوظ السياسية، وخاصة دعمه لاتفاقية السلام مع الكيان الصهيوني، سنة 1978 والتي أعقبتها معاهدة السلام المصرية الصهيونية في واشنطن العاصمة بالولايات المتحدة في 26 مارس 1979. وقد تسببت تلك المعاهدة في جدل واسع داخل وخارج مصر؛ لأنها جعلت مصر تخرج من الصف العربي المناهض للكيان الصهيوني.. الجدير بالذكر، أن نجيب محفوظ لم يخف منذ بداية السبعينيات موقفه بضرورة التفاوض حول السلام مع الكيان الصهيوني، وكان ذلك في ندوة نظمتها جريدة الأهرام مع الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي قبل حرب 1973، وكان أول المؤيدين لاتفاقية «كامب ديفد» والمنظرين لها قبل أن تكون واقعا ملموسا. ويرى الكاتب الصحفي خالد السرجاني أن نجيب محفوظ لم يُدن بسبب تأييده لاتفاقية كامب ديفد، ولكن بسبب تنفيذ ما جاء في الاتفاقية فيما يتعلق بالتطبيع الثقافي ولقائه نخبا صهيونية ونقادا صهاينة ووفودا من الكيان الصهيوني، لكن هل لفوزه بالجائزة علاقة بما عبر عنه من مواقف سياسية إزاء الكيان؟ وللعلم أن تتويج نجيب محفوظ جاء سنة 1988، أي تسع أو عشر سنوات بعد توقيع تلك المعاهدة، مما يجعل الاعتماد على ذلك بوصفها سببا من الأسباب السياسية التي شجعت لجنة نوبل لمنح هذا الروائي العربي الجائزة. وورد في البيان الصادر عن مكتب أمين السر الدائم للأكاديمية السويدية يوم الثالث عشر من أكتوبر عام 1988 والذي يعلن فيه عن حيازة نجيب محفوظ لجائزة نوبل للآداب ما يلي: بموجب قرار الأكاديمية السويدية هذا العام منحت جائزة نوبل للأدب لأول مرة إلى مواطن مصري هو نجيب محفوظ المولود في القاهرة، وهو أيضا أول فائز بالجائزة تكون لغته الأدبية الأم هي اللغة العربية، وشدّدت الأكاديمية في حيثياتها على أن محفوظ ثابر على الكتابة طوال نصف قرن ومازال وهو في السابعة والسبعين من عمره ناشطا لا يكل ولا يمل.. وأضاف البيان أن إنجاز نجيب محفوظ العظيم والحاسم يكمن في إبداعه على مضمار الروايات والقصص القصيرة وكان إنتاجه يعنى ازدهارا قويا للرواية كنوع أدبي كما أسهم في تطوّر اللغة الأدبية في الأوساط الثقافية على امتداد العالم الناطق بالعربية . وتقول بعض التقارير التي أعدتها موقع قناة «الجزيرة الوثائقية» أن المترجم «ديفِنز جونسون» هو الذي اقترح نجيب محفوظ للحصول على نوبل في الأدب التتويج بنوبل، أي في سبتمبر/أيلول 1988، أي في الفترة التي غادرت زوجة سفير السويد في الخضراء نحو مصر، والتقت بالمترجم «ديفِنز جونسون»، وأخبرته عن رغبة أعضاء نوبل للآداب بإعطاء الجائزة في ذلك العام لأحد الشخصيات العربية. فاقترح «جونسون» على زوجة السفير عدة شخصيات كان من ضمنها نجيب محفوظ، وعندما أعلن عن الفائزين كان نجيب هو الحاصل على الجائزة. الترجمة باب نوبل؟! كما يعتبر الكثير من المتخصصين في الأدب المقارن أن الترجمة هي باب من أبواب الوصول إلى العالمية، ويرى الناشر بالجامعة الأمريكيةبالقاهرة «نيل هيوسن» أن السر وراء تميز نجيب محفوظ هو كتابته عن شخصيات محلية بصورة أوصلتها للعالمية، حيث لم تعد شخوص رواياته مقصورة على المصريين الذين باستطاعتهم قراءة أعماله بسهولة، وإنما كتب عن شخصيات واقعية ومشكلات حقيقية ذات علاقات وثيقة بين البشر، ولم يكن لكتّاب ذلك الوقت قدرة على معالجة تلك الظواهر بنفس الأسلوب الذي كان يستخدمه. ولعلّ البداية كانت حين تُرجمت ثلاثيته «السكرية «و»قصر الشوق» و»بين القصرين» إلى الفرنسية، فلما نالت حظوتها من الشهرة تابعته لجنة نوبل لتختار ستّ روايات له لمراجعتها، منها «أولاد حارتنا» و»ثرثرة فوق النيل» و»الثلاثية»، لكن «يخطئ الكثير إذْ يظنون أن نجيب حاز على نوبل بفضل روايته: «أولاد حارتنا»، والحقيقة أنه نالها بفضل أعماله الخمسة التي تُرجمت إلى خمس لغات، وهذا الذي صرَّحت به ابنته أم كلثوم التي تسلمت الجائزة عوضا عن أبيها، وقد كانت رفقة أختها الصغرى والكاتب محمد سلماوي الذي ألقى خطابا باللغة العربية في الحفل التي أقيم بالأكاديمية السويدية بتكليف من الروائي نجيب محفوظ. ويظهر من خلال الكلمة التي ألقاها محمد سلماوي بالنيابة عنه في حفل توزيع جائزة نوبل أن نجيب محفوظ لم يتخل عن القضية الفلسطينية، حيث أشار بشكل واضح إلى مقاومة الشعب الفلسطيني حيث قال: «في الضفة وغزة أقوام ضائعون رغم أنهم يعيشون فوق أرضهم وأرض آبائهم وأجدادهم وأجداد أجدادهم، هبوا يطالبون بأول مطلب حققه الإنسان البدائي، وهو أن يكون لهم موضع مناسب يعترف لهم به، فكان جزاء هبتهم الباسلة النبيلة - رجالاً ونساءً وشبابًا وأطفالاً - تكسيرا للعظام وقتلا بالرصاص وهدما للمنازل وتعذيبًا في السجون والمعتقلات، ومن حولهم مائة وخمسون مليونا من العرب يتابعون ما يحدث بغضب وأسى، مما يهدّد المنطقة بكارثة إن لم تتداركها حكمة الراغبين في السلام الشامل العادل». وأحيانا قد تلعب الغيرة والحسد بين الأدباء في نشر الاتهامات والإشاعات حول بعضهم بعض ومنها ما يقال عن يوسف إدريس في نيل نجيب محفوظ الجائزة: «ولعل من بين الأدباء الذين اتهموا نجيب محفوظ بمواقفه السياسية نجد يوسف إدريس الذي كان يرى في نفسه أحق من نجيب محفوظ لنيل الجائزة وقد شعر بصدمة وإحباط كبير لدى سماعه بفوز نجيب محفوظ بالجائزة». وعلى الرغم من مرور حوالي خمسة وثلاثين سنة على تاريخ نيل نجيب محفوظ الجائزة لا تزال التهم والنعوت المسيئة تلاحقه، والجدل مستمر حول أحقيته في تلك الجائزة واستصغار قدراته وإمكانياته الفنية والجمالية والإبداعية في الكتابة الروائية، ولعلّ آخر ما دار حول الموضوع ما نشره أحد المهتمين بالكتابة الأدبية وهو الدكتور جمال علي درغام على صفحته بالموقع الاجتماعي فيسبوك حول اتصال المسؤولين اليهود لتهنئة نجيب محفوظ بفوزه بالجائزة وهو ما كذبه الكثير من الأدباء المصريين أنفسهم، ومنهم الروائي يوسف القعيد. أسئلة ملزمة.. وفي الخلاصة، يمكن طرح أسئلة عديدة تتعلق بتقاليد الهيئة السويدية للجوائز ومنها جائزة نوبل للأدب: هل تملك الهيئات الثقافية في العالم العربي عموما وفي الجزائر خصوصا (وزارة الثقافة والفن، اتحادات الكتب والمؤسسات الأكاديمية والشخصيات الثقافية المعروفة وغيرها من الفعاليات ذات الوزن في مجال الكتابة الأدبية والنقدية) اتصالا مع الأكاديمية السويدية؟ وهل قامت هذه الأكاديمية السويدية بالاتصال بها لترشيح أسماء أدبية؟ ثم ماذا فعلنا في مجال الترجمة والترويج للآداب المكتوبة العربي عموما والأدب الجزائري خصوصا؟ إن بلوغ العالمية ونيل الجوائز الدولية لا يمكن أن يتم إلا بالإجابة وبكل وضوح عن هذه الأسئلة، والعمل على تجاوز النقائص المذكورة، بما يعود بالخير والفائدة على الأدب العربي ويقدم صورة مغايرة وإيجابية لما هو متداول عن المجتمعات العربية. وعلى جمهور القراء والمهتمين انتظار سنة 2038، أي انتظار ما يقارب 16 سنة لكي تنشر الأكاديمية السويدية التقرير المتعلق بفوز نجيب محفوظ بالجائزة الأدبية وهكذا يقطع الشكّ باليقين وتتم معرفة الخلفيات الحقيقية المتعلقة بهذا الفوز. (للموضوع مراجع)