من البديهيات المتفق عليها والاستنتاجات المسلم بها أن التاريخ هو ذلك العلم الذي يحيط إحاطة شاملة بحياة الإنسان في كل أبعادها الزمنية، وعليه فهو يتغذى بالأهواء والذاتيات ويرفض الحياد على الإطلاق كما أنه يرفض أن يكون مجرد سرد لأحداث وقعت بالفعل لكنها لا تروى إلا على نحو واحد.وإذا كان التاريخ علما في تحريه الحقيقية والعمل على تسليط الأضواء عليها وتقديمها كما هي ، فإن الباحث في هذا العلم مطالب، إضافة إلى تمكنه من العلوم الموصلة، بإعطاء قيمة بالغة الأهمية للأصول التي هي صلته الوحيدة بالموضوع المزمع دراسته والتي هي جميع الآثار التي خلفتها عقول السلف أو أيديهم ، وإذا ضاعت ضاع التاريخ معها وفقا لنص القاعدة العامة . ولأن التاريخ هو المعبر الوحيد الذي يصل الماضي بالحاضر والمستقبل، فإنه قد حظي، منذ القدم، بعناية المفكرين الذين توقفوا، مليا، عنده باعتباره مجموع المعارف المصاغة علميا عن الماضي الإنساني الذي يتطلب تفسيره منهجية خاصة كان العلامة ابن خلدون هو أول من عني بها عندما أخضع الكتابة وإعادة الكتابة إلى عدد من المقاييس والمعايير التي لابد من الرجوع إليها في التعامل مع الخبر واستنطاق النص والغوص في كنه الحدث بحثا عن أسبابه العميقة وكيفية وقوعه ، قبل الاستنتاج وإصدار الحكام . فالماضي الإنساني على هذا الأساس يولد في وعي المؤرخ الذي يخضعه لسلسة من الإجراءات التي تخلصه مما قد يكون علق به من التشويه والتحريف والمبالغات وذلك قبل تحويله إلى مادة سهلة الاستيعاب قابلة للتوظيف من أجل فهم الحاضر، لأن الحدث إنما يلد الحدث والدارس الجاد لا يستطيع الاحاطة بأي حدث ما لم يهتد إلى السبب أو الأسباب التي كانت في أساسه والتي انطلقت منها بوادره. والحدث التاريخي المعزول عن غيره لا وجود له في تاريخ الإنسانية جمعاء. التاريخ هو الإسمنت الذي يدعم وحدة الأمة و فوق كل هذه الاعتبارات، فإن التاريخ وسيلة لغرس حب الوطن في نفوس الأجيال المتلاحقة، و هو الاسمنت الذي يدعم وحدة الأمة و يعزز تماسكها و يوطد أركانها مما يعطيها في الداخل تصورا واحدا للحياة، ويبرزها، للخارج، إرادة قوية وعزما صارما. إن تاريخ الجزائر، في جميع حقبه، لم يعالج وفقا لهذه المنهجية العلمية، بل إن مدرسة التاريخ الاستعمارية قد لجأت إلى جميع الحيل لإفراغه من محتواه حتى يتسنى تقديم الإنسان الجزائري في صورة العاجز عن الإسهام في تطوير الحضارة الإنسانية وإرساء قواعد النمو والتقدم، ولكي يتم، بكل سهولة، تصوير بلاده بأقبح الصور التي تحمل في طياتها مبررات الاحتلال والاستبداد والتي تفتح أبواب الشلل الذهني واسعة على جميع المستويات. في هذا السياق، فإن كبار أساتذة المدرسة المذكورة لم يخجلوا من نشر معلومات لا علاقة لها بالمنطق، بل فعلوا ذلك فقط لإيهام القراء بان العجز الفطري الناتج عن الموقع الجغرافي هو الذي يمنع بلاد المغرب، صدرا وأجنحة، من أن تكون دولة تستحق الوجود أو كيانا لا يستحق الاحتلال. فالسيد ''غوتي ''، على سبيل المثال، يعتبر تاريخ شمال إفريقيا قبل العدوان الفرنسي قرونا مظلمة وأن ''التركيبة الجغرافية لها دخل في توجيه التاريخ وإليها ينسب عجز المغرب عن تكوين دولة دائمة'' بل إنه لم يتوصل أبدا إلى تحقيق وحدة سياسة. وشقت هذه الفكرة طريقها لتترسخ في ذهن المؤرخ الفرنسي الكبير: شارل اندري جوليان فكتب في نفس الإطار '' أن إفريقيا الشمالية الفرنسية التي تشمل المغرب الأقصى والجزائر وتونس ليست لها حالة مدنية دقيقة.'' وتدرجت ذات الفكرة إلى قناعات معظم الشخصيات الثقافية والسياسية الفرنسية الذين صاروا ينكرون على الجزائر وجودها كأمة وماضيها كدولة على مر التاريخ. فالسيد موريس توريز أمين عام الحزب الشيوعي الفرنسي صرح أثناء زيارته للجزائر العاصمة يوم 11/02/1939 أن الأمة الجزائرية في طور التكوين وهي خليط من عشرين جنسا، وقال ''أدغار فور'' سنة 1955 إنها لم تكن أبدا أمة ولا دولة في التاريخ، أما الجنرال شارل ديغول فانه صرح يوم 16/09/1959 خلال ندوة صحفية أنه '' لم تكن هناك أبدا في أية واحدة من حقب التاريخ وبأي شكل كان دولة جزائرية'' . المدرسة الإستعمارية رسخت المفاهيم المزيفة لم تتوقف هذه الدعايات المضللة والأكاذيب الفاضحة عند المصادر الفرنسية التي ابتدعتها، بل إن أقلاما عربية مشهورة قد انقادت إلى اللعبة القذرة ومن ثمة كتب محمد حسنين هيكل سنة 1965 على أعمدة الأهرام'' : أن الجزائر لم تكن أبدا أمة في التاريخ. ثم كررها في لقاءات إعلامية متعددة قيل، يومها، إنه إنما يعبر عن المرارة التي أحس بها جراء الانقلاب العسكري الذي أطاح بصديقه الرئيس أحمد بن بله . كل هذه الترهات والقناعات الخاطئة هي التي جعلت الرئيس جيسكار ديستان يصرح بكل بساطة لجريدة المجاهد الصادرة بتاريخ الحادي عشر أفريل سنة 1975 '' أن الجزائر ولدت أخيرا'' ، وبعد ذلك بأربع سنوات نقلت ''جون أفريك'' عن السيد ميشال جوبير وزير خارجية فرنسا في عهد الرئيس '' بوميدو: ''أن الجزائر إنما ولدت يوم 19620705 '' . وذات هذه القناعات الخاطئة والترهات المخجلة هي التي ترسخت في أذهان أعداد كبيرة من الجزائريين الذين لم يستطيعوا التخلص من الغزو الثقافي ولم يجهدوا أنفسهم لإعمال العقل في البحث عن الحقيقة التي يمكن استخلاصها من تقرير الرائد المهندس العسكري بوتان الذي كان الإمبراطور نابليون بونبرت قد أرسله الى الجزائر سنة 1808 في إطار الإعداد لعدوان مسلح كان يخطط له بكل جدية رغم ما كان يحظى به وما حظيت به هيآت الثورة الفرنسية قبله، من مساعدات جزائرية غذائية ومالية. لقد جاء في التقرير المذكور '' فمنذ مدة طويلة والفلسفة والسياسة والإنسانية والدين، كل ذلك كان يتطلب منا إبادة دولة تمثل جميع مفاهيمها خرقا دائما لكل مبدأ أخلاقي وتشكل مساسا بالحضارة كلها .'' وتجاوزت آثار مدرسة التاريخ الاستعمارية حدود المناورات السياسية لتشمل المراجع العلمية الإنسانية والمصادر المعرفية في أغلبية أنحاء العالم. من ذلك ، على سبيل المثال ، أن الموسوعة العالمية أوردت أن الجزائر لم يكن لها وجود ذاتي وهي الآن ( أي سنة 1980) بقبضة جبهة التحرير الوطني في طور التشكل ''. ونسج على هذا المنوال أشقاؤنا في المغرب الأقصى، فنشرت مجلة '' الديمقراطي الحر'' في إحدى افتتاحياتها '' أن الجزائر تحاول الآن (سنة 1981) أن تنتقم من التاريخ الذي حرمها الشخصية المستقلة حيث كانت دائما تابعة وذيلا.'' المؤرخ الحقيقي هو من يبرز الخيط الرابط بين مختلف المحطات التاريخية وفي الجزائر نفسها، فإن تأثير مدرسة التاريخ الاستعمارية يتجلى في إقدام الباحثين والدارسين والسياسيين من أبنائها على تبني المفاهيم والمصطلحات المزيفة الموضوعة خصيصا لإبقاء الحقيقة مستورة بالأباطيل على حد تعبير الإمام الشيخ عبد الحميد ابن باديس'' وكأفضل دليل على قولنا هذا تجدر الإشارة إلى أن الدراسات العليا في بلادنا، مازالت لا تتحرج من قبول أطروحة عنوانها: ميلاد الدولة الجزائرية والاعتراف بها سنة 1962 '' . وفي الجامعات والمعاهد مازال التركيز على أن ظهور الحركة الوطنية الجزائرية لم يكن إلا بفعل تأثير الأحزاب اليسارية في فرنسا ونتيجة لاتصال الجزائريين بالثقافة الفرنسية أو في أحسن الأحوال أنها كانت رد فعل عن موقف الكولون والإدارة الكولونيالية من مطالب الجزائريين الاقتصادية والاجتماعية . من هذا المنطلق، فإن المؤرخ الحقيقي إنما هو ذلك الذي يهتدي إلى إبراز الخيط الرابط بين مختلف المحطات التاريخية المكونة للحركة الوطنية الجزائرية بمفهومها الواسع والحقيقي فهو، بذلك ، يعيد الربط بين حلقات السلسلة الطويلة التي لا تنفصم و التي يؤدي تواصلها إلى تطهير تاريخ الجزائر في جميع حقبة وإعادة كتابته بالكيفية التي تمكن الأجيال الصاعدة من الاسترشاد بعبقرية الأمة دون الاعتماد المفرط على المصادر الاستعمارية التي تعمدت إهمال تفاعل العامل الزمني مع البعد الفلسفي للأحداث وهمشت العوامل الداخلية عند تفسير هذه الأخيرة. ومن ثمة حالت دون فهم التاريخ الوطني عبر تيار متناسق من التطور ومن خلال منطقية تجعل الوضع الاجتماعي والثقافي والاقتصادي هو المحرك للأحداث جميعها'' . إن الفترة العثمانية، على سبيل المثال، هي، في معظمها، من أزهى حقب التاريخ الجزائري العريق وهي، في ذات الوقت، أكثر الفترات التي تعرضت لمعاول مدرسة التاريخ الاستعمارية التي وظفت كل إمكانياتها لتشويهها وتقديمها سيطرة تركية وحكما أجنبيا يعود الفضل إلى فرنسا في إنهائة والقضاء عليه ؟ من هنا، كان لابد من تكثيف العمل لإرساء قواعد مدرسة التاريخ الوطنية وتوفير كل ما يلزمها من إمكانيات ضرورية للتصدي إلى كتابات أساتذة المدرسة المذكورة المليئة بالاستنتاجات الخاطئة والأحكام المتحيزة والنزعات المريضة . فعلوا كل ذلك ليبقى ماضي الجزائر مستعمرا. ومادام التاريخ مرآة للماضي ومنهاجا لاستخلاص التجارب، فرؤية الجزائريين إلى تاريخهم ستكون حتما مشوشة ولن يكون بإمكانهم التأكد من مقولة الفيلسوف الألماني فيخته التي جاء فيها: إن التاريخ كالإنجيل، يكتب ويقرأ ويدرس بنفس التقديس والإجلال'' . من واجب أساتذة التاريخ الوطني تبيان مظاهر الإستعمار وفي إطار التصدي لإنتاج مدرسة التاريخ الاستعمارية ، يتحتم على أساتذة مدرسة التاريخ الوطنية أن يقوموا بعرض دقيق لمظاهر الاستيطان والسيطرة الاستعمارية وما آلت إليه من اغتصاب الأراضي وتوزيعها على المهجرين الأوروبيين وعلى سائر الشركات الاستغلالية التي أنشئت خصيصا لخدمة الاقتصاد الفرنسي ودعم الرأسمال الاستعماري. ولم يكن الاستيلاء على الأرض كافيا، بل إن الإدارة الكولونيالية قد تجاوزت ذلك إلى وضع قوانين استثنائية لممارسة القمع وارتكاب الجرائم الإنسانية ومن أجل القضاء على مصادر الثقافة الوطنية ومضايقة رجال العلم والمعرفة قصد إرغامهم على الهجرة إلى سائر البلاد العربية والإسلامية ؟ وبالموازاة مع العرض يكون تشريح الوسائل التي لجأت إليها السلطات الاستعمارية لإنجاح عملية الهدم والإلغاء، وفي مقدمة تلك الوسائل يأتي التركيز على منع الإنسان الجزائري من التعرف على ماضيه الحقيقي فيضطر للاقتناع بأنه أقل من الآخر ويفقد الثقة في نفسه وفي رصيده الحضاري . عندها تتدخل المدرسة الكولونيالية لتزويده بطرق جديدة في التفكير وفي نمط الحياة لا علاقة لها بالإنية، بل، فقط للتمكن من تحويل الشعوب البدائية وجعلها، بقدر الإمكان أكثر إخلاصا للاستعمار وأكثر فائدة لمصالحه على حد تعبير منظر التعليم الكولونيالي الكبير السيد جورج هاردي الذين يضيف'':أن أفضل وسيلة لترسيخ الاستعمار هي أن يؤخذ الأهلي طفلا ويحمل على ملازمتنا باستمرار حتى يتأثر بتقاليدنا الثقافية لمدة سنوات عديدة متتالية ويتكون عقله حسب ما نريده منه '' . وعندما ينتهي الدارس بنجاح من المرحلتين المشار إليهما، ، فإنه يكون قد اكتسب الآليات التي تمكنه من معالجة مسألة المقاومة السياسية والمسلحة من بدايتها إلى غاية وقف إطلاق النار واسترجاع الاستقلال وفقا للمنهج العلمي التحليلي الذي لا يكتفي بجمع المادة وترتيبها وصياغتها وعرضها عرضا بسيطا للقراء'' لقد تضمنت هذه الفقرات، على قلتها، مجموعة من الحروف التي تحتاج إلى أن نضع عليها النقاط اللازمة كي تستقيم المعاني وهو ما سوف نحاول القيام به في هذا الركن إن شاء اللّه .