تكريس أنظمة التأمين الاجتماعي ومعاشات المتقاعدين كفل الدستور الجزائري أسسا عملية وقانونية تبنت العدالة الاجتماعية، خاصة من منظورها الاقتصادي لتحقيق تطلعات الشعب الجزائري. كما أن جميع المواثيق التي عرفتها الجزائر المستقلة لا تكاد تخلو من مصطلح العدالة الاجتماعية التي كفلها بيان أول نوفمبر الخالد، الذي يعتبر المرجعية الأساسية لجميع الدساتير التي عرفتها الجزائر، بما فيها دستور 2020 الذي تضمن عدة أحكام نصت على مبدإ العدالة الاجتماعية، والتي تعززّت هذا العام من خلال أضخم ميزانية للتسيير في تاريخ الجزائر المستقلة حملها قانون المالية لسنة 2023.
لا ينكر أحد، برأي مراقبين، أن العلاقة التي تشكلت بين الدولة والمجتمع تأثرت بماضيها التاريخي المبني على أعظم ثورات التاريخ الحديث، حيث أن الاضطهاد الذي تعرض له الشعب الجزائري من قبل الاستدمار الفرنسي وعدم المساواة في توزيع ثروات البلد الذي كان شعبه الثائر يجوّع من طرف المستعمر شكّل عقب الاستقلال نوعا من خلفيات وضع استراتيجية تتبنى فيها الدولة شكلا من الرعاية لشعبها، فكانت الحامية له من كل الأزمات الاقتصادية والهزّات الاجتماعية رغم تعاقب السنين التي حملت من الأزمات الاقتصادية والأمنية والصحية ما حملت، فكانت آخرها أزمة كوفيد-19 والتي أبانت عن الوجه الاجتماعي الحقيقي للدولة الجزائرية التي لا تفرط في وصية الشهداء وأبناء نوفمبر. قال الرئيس الأول للمحكمة العليا ماموني الطاهر في كلمة له خلال الاجتماع السادس رفيع المستوى لرؤساء المحاكم الدستورية والمحاكم العليا والمجالس الدستورية الإفريقية بالقاهرة، نهاية العام الماضي، إنّ «مبدأ العدالة الاجتماعية حظي باهتمام خاص منذ اندلاع الثورة الجزائرية بموجب بيان أول نوفمبر 1954 الذي يعتبر المرجعية الأساسية لجميع الدساتير التي عرفتها الجزائر»، مذكرا بأن الجزائر عرفت «أربعة دساتير هامة هي: دستور 1963، دستور 1976، دستور 1989، دستور 2020، وتضمنت كلها ما يفيد اعتماد المؤسس الدستوري على مبدإ العدالة الاجتماعية.» أشار ماموني الطاهر، أن مبدأ العدالة الاجتماعية برز بشكل واضح و»تأكد بالدّلالة في دستور أول نوفمبر 2020 الذي جاء عقب الحراك المبارك، باقتراح وتعهد من طرف رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون وأقر هذا الدستور عدة أحكام نصت على مبدإ العدالة الاجتماعية». وذكر المتهم آنذاك، بأهم الأحكام والآليات التي نصت على مبدإ العدالة الاجتماعية كمشاركة كل المواطنين في تسيير الشؤون العمومية والقدرة على تحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة، وبناء اقتصاد منتج وتنافسي في إطار التنمية المستدامة، بالإضافة الى قيام الدولة على ضمان الحماية الاجتماعية، واختيار الشعب لنفسه مؤسسات، من بين مهامها حماية الازدهار الاجتماعي وترقية العدالة الاجتماعية، والقضاء على التفاوت الجهوي في التنمية. وأضاف السيد ماموني الطّاهر، أن هناك آليات عديدة اعتمدتها الدولة الجزائرية لتطبيق العدالة الاجتماعية من منظورها الاقتصادي في مجال التنمية في الجزائر، من بينها قاعدة تكريس أنظمة التأمين الاجتماعي ومعاشات التقاعد، بالإضافة الى دعم سياسة التشغيل وذلك عن طريق الوكالة الوطنية للتشغيل وقيام الدولة بمساعدة الشباب أصحاب المشاريع الاستثمارية. وأضاف ماموني في كلمته، أن من بين الآليات أيضا اعتماد الدولة على «توفير التغطية الصحية والعلاج المجاني، لاسيما للمحتاجين، وتوفير خدمات عمومية بالمجان في القطاع العمومي، مثل التعليم مع جعله إجباريا في المستويين الابتدائي والمتوسط. وذكر ممثل الجزائر في نفس الاجتماع بتقنين أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية، مثل الخبز والحليب والزيت والسكر والسميد بمختلف أنواعه، وبعض الخدمات كنقل المسافرين عبر السكك الحديدية والنقل البري والإيجار المطبق على السكنات الاجتماعية، بالإضافة الى اعتماد برامج السكن الاجتماعي التي توزع على محدودي ومتوسطي الدخل، وصيغ أخرى للاستفادة من السكن بالنسبة لباقي فئات المجتمع. ومن بين أهم أوجه تطبيق توجه العدالة الاجتماعية، والذي برز بشكل لافت خلال عهد الرئيس تبّون، نجد أن قانون المالية للسنة الجارية بمثابة الواجهة الكبرى لموضوع العدالة الاجتماعية، فمن جهته يرى النائب بالمجلس الشعبي الوطني، عضو لجنة المالية والميزانية بالمجلس، نبيل قند، أنّ قانون المالية لسنة 2023 هو بمثابة العنوان البارز لمبدإ التكافل الاجتماعي والعدالة الاجتماعية، إذ تعمد الجزائر على تكريس بعدها الاجتماعي منذ الاستقلال. وأضاف قند، أنهم كنواب لاحظوا أن الدولة استمرت في نهجها من خلال قانون المالية 2023 كدولة ذات طابع اجتماعي تحمي القدرة الشرائية للمواطن، خاصة في ظل ارتفاع مستويات التضخم على صعيد جل دول العالم بما فيها الجزائر، نتيجة عدة عوامل من بينها جائحة كوفيد-19، والتوترات الأمنية على العديد من مناطق العالم أبرزها الأزمة الروسية - الأوكرانية. وتابع محدثنا قائلا، إن الحكومة تداركت الموقف من خلال حرصها على مبدإ العدالة الاجتماعية في أكثر من موقف ومناسبة، أهمها قانون المالية لسنة 2023 والذي تميز بكونه أكبر ميزانية في تاريخ الجزائر المستقلّة والذي حملت أرقاما وبيانات تهدف للحفاظ على القدرة الشرائية للمواطن وعلى دعم المواد ذات الاستهلاك الواسع، مع رفع الأجور ومحاربة المضاربة لاحتواء الأسعار، دون إدراج ضرائب جديدة، الى جانب تعزيز الاستثمار المحلي ضمانا للتوازن الجهوي. وتعتبر ميزانية الدولة لسنة 2023 حسب قانون المالية لنفس السنة، أضخم ميزانية عرفتها الجزائر منذ الاستقلال، إذ قاربت 13800 مليار دينار جزائري، خُصّص أكثر من 9700 مليار دينار لنفقات التسيير، نصفها تقريبا يصب في الرواتب التي عرفت زيادة معتبرة لسنتي 2023 و2024، حسب عضو لجنة المالية والميزانية بالمجلس الشعبي الوطني نبيل قند. وأفاد النائب البرلماني أنه يرتقب أن تدخل الزيادات التي أقرها رئيس الجمهورية للسنة الثانية على التوالي، حيز التنفيذ شهر مارس المقبل وبأثر رجعي منذ شهر جانفي المنصرم، وهي الزيادات التي خصص لها ما يقارب 600 مليار دينار جزائري في قانون المالية 2023، كما انه ينتظر أن تكون لهذه العملية مرحلة ثانية خلال العام المقبل 2024. وأضاف النائب بالغرفة السفلى لمبنى زيغود يوسف، أن القانون حمل استمرار عملية إدماج المستفيدين من جهاز المساعدة على الإدماج المهني «DAIP» وتحويل عقود نشاطات الاجتماعي «DAIS» الى عقود غير محددة المدة، كما أن عدد المستفيدين من منحة البطالة قد تجاوز 02 مليونين و100 ألف مستفيد وهي الخطوة الأولى من نوعها على مستوى دول المنطقة، أين تخصص الدولة منحا للعاطلين عن العمل وفق شروط محدّدة، كما أن المنحة عرفت زيادة هي الأخرى هذه السنة ابتداء من شهر جانفي المنصرم. وذكر محدثنا بأن الدولة تخصص مبالغ ضخمة للإعانات المباشرة أو الصريحة، الممّولة من ميزانية الدولة والموجهة لدعم السلع واسعة الاستهلاك وتقنين أسعارها، بالإضافة الى الإعانات غير المباشرة أو الضمنية والمتمثلة في الإيرادات غير المحصلة التي تتخلى عنها الدولة على شكل حوافز جبائية، ومزايا تجارية ودعم أسعار المنتجات الطاقوية المسوّقة.