لم يتوقفوا يوماً عن اغتياله، فقد كانوا يشيّدون له منذ ما قبل الولادة كلَّ مراسيم الجنازة، وأعدّوا المسرح الكونيَّ وشيدوا الستائر والمقاعد والجمهور، وكتبوا البيان الأوّل، وحيثيات الدفن، وأعلنوا عام ثمان وأربعين افتتاح الرواية، ولم يتوقفوا بعدَها عن تأكيد وفاته، وتمزيق جسده وتبديد أشلائه، ولاحقوه، في منافيه ومخيماته، وأمعنوا في التمثيل به وامتهانه، وصادروا ماضيه واحتلوا ذكرياته، وسكنوا بيته واستدفأوا بفِراشه، وربَّوا أوهامهم في حديقته، وبنوا جدراناً لعيونه، لكي يساعدوه على نسيان عذابه في مدى بصره، فلعله عندما يحتجب عن مسقط روحه يساعدهم على نسيانه.. وحين يسترق الحلمَ قليلاً إليه يقصفونه من كوابيسهم ويريحونهم من عذابه، مذابحَ ومنافيَ جديدةً تنسيه منافيَه الأولى، ويتيه حنيناً إلى منفى أقلَّ قسوةً وغربةً وحبّاً، فالحبُّ كان أيضاً قاسياً وجارفاً وساحقاً وحزينا، وكانوا يبحثون في أحشائه عنهم، يفتشون بيته وحقله، أعضاءه عضواً فعضواً، أحزانه حزناً حزناً.. أرضَه شبراً وشبراً.. يسرقونه شيئاً فشيئاً، يمحونه كما يريدون سطراً فسطراً.. يبعدونه حلماً فحلماً.. يشكلونه حجراً وحجراً.. يقطعونه غصناً فغصناً، ثمَّ ما ناموا ولا راحوا، ولكن صارت الأغصان غابة والأحجار أحزاناً وأحلاماً، وعلى عتبات قديم ذكرياته نمَتْ أعشابُه وامتدّت الطرقاتُ من بابه، كانوا يبحثون في أحشائه عنهم، ينبشون تاريخه وجغرافيته ويضربون الرمل فيه، ويَقصّون أثرَه وزيَّه ولسانَه، ولونَ عينيه وهندامه، يعيدون تحليل ذائقته وأطباقه، يتحسسون هيكله، يدسّون أنفهم ورواياتهم في مزاجِه وأشعاره وإلفِ ليلِه، وفي ليلاه وفي عنترة، يعيدون رسم الخارطة، وكانوا يبحثون في أحشائهم عنه، يستخلصونه منهم، يُسكتون صوته فيهم ويكبتون حزنه، ويثملون حين يفيض الوجدُ من أنّاته بكأسٍ من موسيقى الطائرات، أو سوناتا من صبرا وشاتيلا، ولوحة من عناقيد فوسفوريّة تخلط التراب بالسماء، وحين يعودون إلى بيته الذي يسكنون يتذكرونه فيهم فيقصفونهم فيه، لعلّهم يتحررون منه، كان هاجسَهم، وكان يكبر فيهم إلى أن يتفجّروا في مقولاتهم ولا يجدون إلا الجدران تفصلهم عنهم، كانوا وقد سجنوه فيهم لا يجدون مناصاً منه، وكان لابد أن يسفكوا دمهم لكي يخرجوه منهم، ويتحرروا من هاجسهم، كان لابد كي يتحرروا منه أن يموتوا لكي يستخلصوه، ليقبضوا عليه أو يقتلوه، وكان لابد أن يتحرّرَ هو لكي لا يجدَه فيهم أو يجدَهم فيه.