يهدف الاحتلال من السجن لإعادة صياغة الأسير، فحياته في هذا المكان تقوم على المغترب والغريب في الزمان والمكان، فيقول الكاتب شاكر النابلسي في كتابه جمالية المكان "إنّ الإنسان بفعله ومشاعره هو الذي يبني ويشكل المكان ما عدا السجن، الذي يعيد بناء الإنسان ويصيغه من جديد، حسب قوانينه وأنظمته، فالسجن تجربة خارج المعتاد، خرقا للمألوف الناظم لسلوك الإنسان، والمحدد لعلاقاته ورغباته، وتقيدا لمشيئته وحركته وفعله اللذان يمثلان مفهوم الحرية، لكن في السجن قد تعانقك الحرية، وبالسجن تمتليء بالوطن أيضاً، والسجن هو ذروة الصراع، وإذا صارعت انتميت والوطن هو الصراع." يقول الشاعر محمود درويش، لقد عايشنا تجربة المعتقل، إشكاليا يوفيه الوطن أو ضد الوطن، هو الخروج من الوطن ولكن الدخول في عمقه، هو التوقف عن الفعل، لكنه مكان الفعل" ورغم تصاعد الإحساس بثقل الزمن عند الأسير المؤبد، يدعمه وقائع الخارج، سواء التي تخصه بشكل مباشر أو تخص محيطه الذي بالخارج، وهو الذي اتجه إلى المجهول، بالترقب الرهيب والتوتر العالي والحالات الشعورية التي تصاحبه وتتجاذبه بين جدليات التفاؤل والتشاؤم، ويبحث بين ذلك عن حالة توازن تنقله من الانهيار، ويحقق هذا التوازن في علاقته مع أقرانه الذين يعانون معاناته، هذه العلاقات كونت تجربة فلسطينية جماعية قبل أن تكون محنة غربية. وبالسجن يشف الإنسان ويرق، ويظهر الأمل في مواجهة الألم، كقيمة ضرورية للحياة تجعل لها معنى وتجعل للنفس قوة تناقض كل ما هو عكس الحياة، فحياة الأسير في سجون الاحتلال تنطوي على صور عديدة، من صراع الايرادات بين الأسير والسجان، إذ تقول الأسيرة المحررة عائشة عودة " بعد التحديات تتحول لون الحياة الكالح، وإيقاعها الساكن إلى حيوية وتفجر، وفي المواجهات تتفجر حيويتنا وتتوحد إرادتنا أو تطلق تحديات لعقولنا، تكسر روتين السجن الممل. وبالسجن يظهر الفعل الكفاحي بترميم التحدي وبناء الأمل، وأن القسوة اليومية في السجن لا تلغي المشاعر الإنسانية الرفيعة، ولا توقف الأحلام الصغيرة والكبيرة، في رحلة البحث عن قيم الحياة ورغبة الأسير وتطوقه لمناسبات عالمه الخارجي. هذا التأطير لفهم نفسية الأسير، وعالم السجن سطوته ووحشيته، حتى تدرك إلى أيّ حد كم هو قميء هذا السجن الذي يلتهم أعمار الآلاف من الأسرى، في مطحنة للأجساد والنفسيات والعقول، ولكن في خضم هذا كله تم رسم صورة استثنائية في عالم السجن، تسر الناظرين مجبولة بالفرح وإدخال السرور على القلوب التي تعيش الوجع اليومي الذي لم يلغي المشاعر الإنسانية الرقيقة، ورغبة الأسير باستكشاف عالمه الخارجي، والتفاعل معه بأيّ وسيلة، بل أبعد من ذلك كالاعتناء بالتفاصيل أدقها، فالفرح أحد العناصر المفقودة بالسجن، وفقط يحدث بالذاكرة خلال التواصل مع الزمن الحقيقي، الزمن الاجتماعي المتمثل بعالم الخارج. الوالد العريس : أسير يكسر الزمن الموازي، الأسير محمد نايف المعروف بأبو ربيعة، 48 عاما من مدينة طولكرم، والمحكوم بالسجن المؤبد 14 مرة، بتهمة قيادة كتائب شهداء الأقصى، ومسؤولياته عن عدة عمليات، أسفرت عن قتل عدة مستوطنين جاؤوا من وراء البحار، إحلاليين محللين بفكرة الإبادة الأغيار. اعتقل ابو ربيعة سنة 2002 تاركا وراءه زوجته وطفليه ربيع ووعد ووالدتهم التي كانت ما بين تربيتهما وبين الترقب لعودة زوجها، الذي ترك مع أقرانه لأكثر من عقدين دون يوم موعود بالحرية بل انتظار ليوم مأمول، كبر الطفلين على صوت والدهما من على سماعة هاتف الاتصال هذا الصوت الذي عادة ما يكون مشوشا بقصد، بفعل أجهزة تشويش السجان، الذي يصب جل عمله بهدف عزل الأسير وقطعه عن الحياة. شبّ الطفلان وكبر ربيع وكان قد ترك لعمر 8 شهور، حتى صار إلى السجن معتقلا على خطى والده، إلا أنّ سمّ حقد هيج غيظ السجان، فمنع لقاء الابن بأبيه، تحت ادعاء أنّ هناك " شخشوخ شباك" أيّ أنّ الشباك أوصى بعدم اللقاء والفصل بينهما في أقسام متباعدة، هذه الجريمة الكبرى تطرح سؤالا وجودي، وهو لماذا لم يمنع هذه الظلمة متعة في واقع شديد الكمد؟ ولكن الإبن لم يطل قيده، فتحرر دون عناق والده، أو أن يتحسّس أرواحه عن قرب ولمسات الحنان والحنين. كبر الإبن وأضحى عريسا، يعتلي جواده في زفاف يغيب عنه أبوه، ولكنه حاضر بالوجدان، وكلمات الرضى التي ينالها من خلال ما أمكن من اتصال، وصورته المعلقة بقلب الفرح بفخار موسومة بعبارة " القائد الكبير يحيي الضيف الكريم" حتى يشعر أنّ أباه لم يتركه في عرسه وحيدا، فالأب عمود ووتد العائلة، والأب رأس المسبحة وعقدتها، إذا ما فرطت تناثرت حباتها، الأب أسطورة الابن وقدوته ومثله الأعلى. غاب الأب مفجعا ولكنه حاضر في كل تفاصيله ومشاركا ما أمكن من الفرح، فهو الذي أعلن استنفارا على مدار شهور في سجنه، واقفا مع نجله يرتب ويوزع الأدوار، حتى رفع شعار "هذا مهرجان ربيع" مارس أبويته، مجسدا حضوره رغم أنف السجان ولم ينسى أبو ربيعة شركاء الأسر في مشاركتهم فرح إبنه فهو الذي كلف أصدقائه بتوزيع الحلوى على غرف القسم، إضافة لعمل الحلويات اليدوية، كالمدلوقة المرشوشة بالفستق واللوز،، وفي ظل الفرح الموصول بسلوك سعادته لم يتجاهل ما حصل مع أبناء شعبه في جنين ونابلس، فكان حريصا على أن يكون عرسا كالمهرجان الوطني، يقدم فيه المغني الشعبي أغاني للأسرى والشهداء والمقاوميين. رقصة أمل في غرفة 9 بقسم 3 نفحة كمن الحدث الأبرز في فرح ربيع ابن الأسير محمد نايف في تنبه رفقاء والده لأهمية هذا الفرح بالأسر، فأرادوا أن يحاكوا العرس كما الخارج بسعة الفرح والغناء مواجهة لعتمة الزنزانة، فبعد تأدية صلاة العصر في الساحة المخصّصة للأسرى بقسم العزل 3 بسجن نفحة بصحراء النقب، أعلنوا عن مباركة جماعية يهنئون بها بغرفة 9 والد الأسير ....علي، الذي استقبلهم بحفاوة وسرور، مكملين ما عزموا عليه من غناء ورقص ودبكة، حمل والد العريس على أكتاف الأسرى مع سحجة دائرية وغناء مختلط ما بين الشعبي والوطني ومن واقع السجن. قيل مثلا هزت كيان الاحتلال الصهيونى دلال المغربية، وهتفوا لجنين "تحية للكتيبة في جنين الحبيبة" وعبروا عن واقعهم الحزين بيا ونتي ونة المسجون. أما الزجل الشعبي فقيل به" والله واسمعي يا جارة أبو ربيع رجع على الحارة" معبرين عن أملهم في يوم قريب للحرية وأنه مهما طال الزمن وتغيرت موازينه فإن فجر الحرية آت، يا أرض في عنا اسير حر وعريس، غير أن أكثر ما تحس به رقة الأسير ورأس مشاعره وأحاسيسه وأنه يتطوق ليوم كهذا، واقعا خارج الأسوار، فهي قوة الأسرى الذين مضى على اعتقالهم عقود ولا موعد قريب لحريتهم، الذين استغلوا هذا الحدث ليعبروا عما يتطوقون له من دبكة ورقص مع أهاليهم، حيث تشابكت أيديهم وانخرطوا كرقصة صوفية اتحدوا فيها مع آمالهم وحلقت أرواحهم على صوت السحجة في صلاة فرح، حاضرين بأجسادهم ولكن خيالاتهم خرقت جدران السجن، أطفال يرقصون بجنون الفرح، استحكموا بدق أرجلهم الأرض، كأنهم يقرعون الخزان دون أن يسمعهم أحد هزت أجسادهم وطافوا حول والد العريس عاطفة مشحونة تقول شابت رؤوسنا وحنت قلوبنا اسمحوا لنا للحظة جنون تخرق بدن السجن وقلب السجان، صورة تسر الناظرين مجبولة بالفرح، قضاء حالة تمثل صورة حية وواقعية للمعاناة التي يمر بها الأسرى وعايشوها بانفعالاتهم بقليل من الأمل. فمحاكاة الحفل أداة للمواجهة والصمود والتماسك.