بالتأكيد سأبكي عندما أرى أول أسير فلسطيني أمام الكاميرات التي سيزيد وهج أضوائها من الأم عيني الأسير، التي كان نورها أيضا أسير رطوبة الغزاة، وأسير الجدران الكثيرة التي تحجب خلفها أحلامنا وتصادر وجداننا، وتمنع بؤبؤها من الانتعاش بغصن شجرة..أو ظل أمل، ويحرمها حتى من مكابدة عادية ألم الإنسان الضروري لبقائه على قيد الإنسان، ليغرقه فقط في عالم جديد ينسجه علينا جميعا بدرجات مختلفة ويقدر درجة تمكنه منا، القنوط الكامل من الحلم وقطع دابر الأمل، محاصرة إحساسنا لكي نموت كل حين بدون ألم لكي نرضى به قدرا يمنحنا ما يشاء من لا ملامحنا، ونقتنع بعد أن نقنع بحقيقة وجهه هو الذي غفلنا طويلا عن حقيقتها، حيث أننا هنا في المكان الخطأ الذي كان علينا أن لا نكون فيه حين خلفنا ربنا، وأنزل علينا من السماء ماءً ليحيي الأرض وأنزل هداه "فمَن تبعَ هداَي فلا خوفُ عليهم ولا هم يحزنون"، سأبكي كما تبكي الجداتُ والأطفال والأصدقاء مستسلما للحظة قدرية مشوبة بالغامض والبائس أيضا فينا، وكما يبكي الناس العاديون، الناس الرائعون بما جبلوا عليه من ضعف وهشاشة حامضة حلوة أمام برهة "لا منطقية" تتجاوز سرعة برقها الأبصار، وتصل إلى ذلك الشيء البعيد فينا والذي يلخص جوهرنا. ربما، ويكشفنا إلينا ويفضحنا قبل أن يتداركنا اعتبار صورتنا، الذي "نحرص" عليه أمام مرآتنا فنكفكف ربطات أعناقنا، ولا نعتذر عن إنسانيتنا وملوحة قلوبنا، في برهة تضيق بذاتها وتغتنم لقاء على جناح منفي أو على شريط حدودي لتبث عبره نبضا، ورجفة قلب تتيمم بفرح ترابي يحل لها مواصلة صلاة استسقاء الوجد وكل أبعاد الوطن، سأبكي منفاي كنجم عصيٍ بعيدٍ مأسوراً بتوهجه واحتراقه في ليلة صافية بلا غيوم ولا قمر، وبكل هواجس سجن التي مرضت عليها وخدعتها بحريتي، أعرف أنهم يشعلونني ليستضيئوا بي وليتلمسوا طريقهم إلى سجني، سجني الكبير بحجم الوطن، سجني المختنق باتساع المنفى، وأنهم يحسنون فقط شروط بقاءهم وموتي، ويلتفون علي من نواحي البعيدة حتى مجلس الأمن، وأنهم يسددونني في عيون أخوتي ليضلوا بي عني، ولكنني كفراشة اتبع قدري وكما كنت دوما أسلك الطريق الذي لا أستطيع اختيار بديله الذي وضعوه أمامي، فكيف كان يمكن أن أقبل أن يقسموني إلى نصفين لأبقى حيا، وكيف أعترف بصبغتهم على ذاتي لكي تبقى ذاتي، ولهذا فإنّني أطوي قلبي على كامل ملوحته وابكي منتشيا بي، أسيرا يعانق أسيرا، كما تعانق الحرية ذاتها وأملها، مغتنما ومضة عشق ازدان بها، واتوكا عليها وأرعى بها أملي، وأصر بها على كامل هويتي وكامل وطني، سجني، وكامل حريتي، وكما أبكي منتشيا ووحيدا متوحّدا في لحن لا يعيدني إلي أمسي بقدر ما يعجنه بمأمول الرجاء، سأبكي لأنّني حر، وأريد على الأقل أن أمارس حريتي في البكاء.