بعد ثلاثون عاماً، من تحرره من سجن “النقب ” الصحراوي، عاد الصحفي الجريح علي سمودي، إليه مجدداً ولكن في هذه المرة ليس كأسير، وإنما لزيارة نجله الطالب في الجامعة العربية الأمريكية الأسير محمد الذي انتزعه الاحتلال من أحضانه فجر يوم 29-1-2019، وهو التاريخ الذي يعتبره الوالد السمودي ” حزين ومؤلم وصعب جداً، فأكثر شيء يكرهه الإنسان في حياته السجن والقيد، فكيف اذا كان الأسير هو الابن الذي حرمني الاحتلال رؤيته على مدار شهرين قضاها في أقبية التحقيق وزنازين العزل، ممنوعين من زيارته ولم نعرف سوى الإخبار الشحيحة من خلال المحامي نسيم أبو غوش. بكيت من أعماقي .. في طريق الألم الطويل على مدار 14 ساعة وأكثر لزيارة لا تستغرق سوى 45 دقيقة، استعاد علي السمودي، الوالد المحرر والجريح والصحفي المتخصص في قضايا الأسرى منذ ثلاثة عقود كل الصور المخزنة في ذاكرته، لكنه يشعر اليوم بوجع أكبر باعتقال فلذة كبده والتي يعتبرها ” أصعب من لحظات مطاردتي ثم اعتقالي بل اقسي محطة بحياتي، فقد شعرت بحزن عندما شاهدتهم يكبلونه ويقيدون يديه أمامي، ولا أخجل عندما أقول بكيت من أعماقي بمرارة لعجزي عن حمايته وإنقاذه من جحيم السجون وعذابات الأسر التي ما زلت أتذكرها رغم مرور السنوات الطويلة”،ويكمل ” تلك الآثار التي يصنعها السجن والسجان تلازم الإنسان ما دام حياً ولا يتمنى لأحد أن يتجرع مرارتها ويعيش التجربة، فكيف اذا كان ابني الذي تحول من طالب علم كان يستعد لفصله الجامعي والتخرج لأسير حرمنا الاحتلال أجمل لحظة انتظرناها ؟. قلم عاجز .. منذ اعتقال ابنه الثالث في عائلته المكونة من 4 أنفار، لم يتمكن مراسل صحيفة “القدس ” الصحفي علي سمودي، من الكتابة أو التعبير، رغم انه يعتبر متخصص في إثارة ومتابعة ملف وقضايا الأسرى، فمنذ انضمامه لعالم الصحافة والإعلام، بعد تحرره من سجون الاحتلال عام 1990، كرس قلمه وحياته لإبراز وتسليط الضوء على الحركة الأسيرة، وكل يوم تنشر له صحيفة “القدس” والعديد من وسائل الإعلام والتواصل والمواقع والصحف الجزائرية الكثير من القصص عن الأسرى، والمكتبة الفلسطينية الخاصة بالحركة الأسيرة، تشهد و تزخر بالآلاف القصص والحكايا التي كتبها السمودي عنهم حتى حصل على العديد من الأوسمة والنياشين والتكريم مرات عديدة لدوره الإعلامي الرائد في هذا الصدد، ويقول ” قلمي يعجز ولم أتمكن من التعبير عن مشاعري وغضبي وثورتي لاعتقال ابني رغم اعتزازي بالحركة الأسيرة ونضالاتها، لا يمر يوم علي دون الكتابة عن الأسيرات والأسرى، وإيصال صوتهم والتعبير عن أناتهم وعذاباتهم وصمودهم وتجاربهم، لكن قلمي ما زال مكبلاً عندما يتعلق الموضوع بابني الأسير “، ويضيف ” عندما شاهدت الجنود الملثمين، يبلغونني باعتقاله، توقف قلبي، وتكررت أمامي مشاهد صور تجربة اعتقالي خلال انتفاضة الحجر، انحسر تفكيري في الم ووجع التحقيق الذي تعرضت له في أقبية سجن الجلمة، جلسات التحقيق الطويلة، الضغوط النفسية والجسدية، منع النوم والطعام، أوضاع الزنازين القذرة والتي لا تتوفر فيها ابسط احتياجات الإنسان “، ويكمل ” ازدادت معاناتي ووجعي، عندما علمت من مؤسسة الشكاوي في القدس، ان الجنود نقلوا ابني لنفس السجن” الجلمة” الذي تعتبر فيه كل ثانية معاناة وعذاب، تذكرت قساوة الجلادين وأساليبهم لامتهان كرامة الأسير وإذلاله، فلم انسي احتجازي مع 5 معتقلين في زنزانة لا تتسع لأكثر من شخصين، دون حرامات وعلى فرشة واحدة وسط البرد الشديد، والرائحة النتنة بسبب وجود ” كردل ” التبويل معنا “، ويتابع ” أصبحت أسيراً مع ابني محمد الذي انقطعت أخباره على مدار أسبوعين، كانت بالنسبة لي قرن بأكمله، لم اعرف طعم النوم وتحولت حياتي لجحيم وشريط الصور يتكرر أمامي، الصلب في الخزائن، التحقيق والضغوط، منع الاستحمام، الطعام الذي لا تتناوله الحيوانات، عبارات التهديد والشتائم، وبعد لقاء ابني الاول، أبلغني انه تعرض لنفس الصور والمحن التي صمد وتحداها ببطولة وبسالة.
عزل وعقاب .. المناضل السمودي، الذي عاش تجربة المطاردة والملاحقة من الاحتلال الإسرائيلي خلال انتفاضة الحجر، وتعرض للإصابة والاعتقالات المتتالية، يصف مرحلة التحقيق التي تعرض لها نجله محمد على مدار شهرين بانها ” جهنم بكل معنى الكلمة، فقد كان قلبي وروحي وكل مشاعري هناك خاصة عندما علمت بنقله للتحقيق العسكري في سجن “بيتح تكفا”، فانا الأكثر معرفة بما يمارس من انتهاكات بحق الأسرى هناك، ولطالما وثقت صور الويلات التي كابدها الأسرى، فكانت لا تفارقني صور ابني حتى فقدت القدرة على الطعام “، ويضيف ” رغم أحاديث محامي هيئة الأسرى نسيم أبو غوش التي كانت تبعث على الأمل بصمود محمد، شعرت ان عقارب الساعة توقفت وتمارس بحقنا العقاب كما الجلاد الإسرائيلي، انحصر تفكيري في البحث عن وسيلة للاطمئنان عن ابني بعد مرور أكثر من شهر على زجه خلف القضبان وقطع طريق جامعته دون معرفة السبب والتهمة، فابني لم ينتمي لحزب وكل اهتمامه بجامعته وعمله في محلنا الذي كان يمارسه بعد انتهاء دوامه “، ويكمل ” خلال هذه الفترة العصيبة، مدد الاحتلال توقيف محمد مرات عديدة في محكمة الجلمة الداخلية دون لائحة اتهام، ولن انسى عندما ابلغني المحامي نسيم أبو غوش، ان المخابرات عاقبت ابني بالعزل الانفرادي ومنعه من الاستحمام وتغيير ملابسه لمدة اسبوعين، بعدما اكتشف مسرحية احتجازه مع العصافير الذين اعتدوا عليه بالضرب “، ويتابع ” شعرت بهدؤ وطمأنينة، عندما اكد المحامي، أن صحته بخير ومعنوياته عالية وصامد ببسالة ، ونقل رسائل تحية ومحبة من ابني رغم ظروف الاعتقال الصعبة والتحقيق الذي لم يتوقف حتى نقل لسجن مجدو. ألم ونافذة الأمل .. بعد عقاب المنع الامني وحرمانه من الزيارات، شعر الصحفي علي السمودي، بفرحة كبيرة، عندما حصل على أول تصريح زيارة لابنه محمد الذي نقل لسجن “جلبوع “، ويقول ” خلال اعتقالي في انتفاضة الحجر، لم يسمح الاحتلال لعائلتي بزيارتي، فكان لدي معرفة حقيقية لهذا الوجع الذي عنوانه المنع الامني الذي كتبت عنه الكثير، فالزيارة هي نافذة الامل الوحيدة للأسير وعائلته، واصبحت اتمناها “، ويضيف ” فرحت رغم حزني، عندما شاهدته يدخل لقاعة المحكمة العسكرية في سالم، والتي تعتبر محطة عقاب وانتقام ثانية للأسير وعائلته، اهتز قلبي وروحي بكت والسجانين يحاصرونه ويقيدون قدميه ويمنعوننا من الاقتراب منه “، ويكمل ” أول جلسة محكمة لم نراه سوى دقيقتين، ابتسامته التي شقت طريقها رغماً عن السجانين، اعادت لنا الفرح الذي نغصوه بمنعنا من الاقتراب منه والحديث اليه، واخرجونا من القاعة فوراً بعدما قرر القاضي تمديد توقيفه حتى تنتهي النيابة من فبركة التهم “، ويتابع ” معسكر سالم، محطة للاذلال والاهانة والتعذيب لكل عائلة أسير، كنا نغادر منازلنا مبكراً لنقف في طابور طويل تحت اشعة الشمس الحارقة، بانتظار تعليمات الجنود الذين لا يراعون كبيراً أو صغيراً، وامراة وعجوزاً، فهم يتحكمون حتى بحركتنا ويتعمدون الاستفزاز لالغاء دخولنا للمحاكم “، ويستدرك ” الكثير من الامهات حتى من المدن والقرى البعيدة، كانوا يفاجئون بعد مشقة السفر وعناء الانتظار باغلاق البوابة ومنعهم من الوصول للمحكمة، لكن لم يكن امامنا خيار سوى الصبر والاحتمال، ففي قلوبنا نار مشتعلة ومشاعر جياشة لرؤية الابناء حتى لو كانت الفترة دقيقة واحدة، فهي كافية، لزرع الامل وتخفيف المعاناة والحزن. العذاب والوجع.. يؤكد الصحفي السمودي، صاحب التجربة الاعتقالية، أن الظروف والاوضاع والقيود المشددة التي يفرضها الاحتلال حالياً في المحاكم، اكثر ماساوية وصعوبة عن فترة ثمانينات القرن الماضي، ويتذكر، أن الاهالي في تلك الحقبة كانوا يدخلون للمحاكم، ويجلسون مع اسراهم ويتحدثون اليهم ويطلعون على ظروفهم واوضاعهم، ويقول ” لم يكن هناك بوابات حديدية، وتفتيش عبر الاجهزة الحديثة مرات عديدة، فاليوم، هناك فحص امني لكل عائلة، احتجاز البطاقات الشخصية حتى الخروج من المعسكر، التفتيش الالي واليدوي حتى للنساء اللواتي يمنعن من ابقاء الدبوس على مناديلهن أو رؤوسهن “، ويضيف ” نمر بسلسلة قيود مشددة حتى نصل لساحة الشبح والصلب على بوابة المحكمة التي لا تفتح الا بموافقة السجان الذي لا يسمح سوى لشخصين من العائلة ( درجة القرابة الاولى ) بدخول المحكمة بعد تفتيش ثالث “، ويكمل ” في كل محكمة، كنا نقضي 8 ساعات محتجزين حتى حلول المغرب رغم حرارة الشمس القاتلة، والشيء الوحيد الذي يخفف عنا، ثغرة صغيرة على بوابة الدخول للمحكمة، نستخدمها لاستراق البصر ورؤية اسرانا والتاكد من وصولهم للمحكمة، فلطالما عانت الكثير من العائلات من صدمة عدم احضار ابنائهم وتاجيل محاكمتهم بعد الم الانتظار الطويل “، ويتابع ” اسميتها فسحة “الأمل “، فمن خلالها كنا نتمرد على السجان ونصر على رؤية اسرانا في لحظات دخولهم لقاعة المحكمة والاطمئنان عليهم لنتجاوز محنة الالم والانتظار القاسية التي تزداد وتتفاقم عندما تصبح المسافة بين الأسير وعائلته متر واحد، لكنهما ممنوعان من الحديث والتصافح وحتى لمس اليدين، وتصبح طريقة التواصل والتخاطب الوحيدة لغة العيون التي تتحدى الجنود وتنقل فيض المشاعر والمحبة وتترجم الدعوات والامنيات الدفينة. مراحل التفتيش ثلاثة مراحل من التفتيش تمر بها كل عائلة أسير مرغمة على حاجز ” الجلمة “، وفي كل لحظة يعيش الاهالي الخوف والترقب من قرار جائر ومفاجيء بمنع المرور والزيارة رغم وجود ممثل الصليب الأحمر الذي لا يمكنه تغيير الواقع المرير، ويقول الصحفي السمودي ” المحطة الاولى للعبور نحو حافلات الصليب الاحمر التي تنتظرنا خلف البوابة بعد الحاجز، تبدأ بالعبور عبر بوابة حديدية لمرحلة التفتيش الاولى، ويلزمنا الاحتلال بتمرير كافة الاغراض وخلع الاحذية وكل ما نحمله حتى الستر الشتوية “، ويضيف ” بعد امتار قليلة، نمر عبر ألة الفحص الشخصية والتي تصدر اشعاعات خطيرة، وفيها يمارس الاحتلال سياسة الاذلال من خلال اجبارنا جميعا حتى الاطفال على رفع ايادينا والالتفاف داخل الالة حتى يسمح الجندي بالمرور بعد مرحلة تفتيش ثانية لاغراضنا “، ويكمل ” في المحطة الثالثة، يقف كل زائر أمام غرفة صغيرة للجنود، ولا يمكنه المرور دون ابراز التصريح والهوية وبطاقة الصليب الاحمر ثم الوقوف امام فاحص أشعة ” الليزر” لفحص بصمة العين، ويكون سعيد الحظ من يعبر بعد تجاوز كل هذه المعيقات والقيود، فالكثيرون، يفاجأون بصدور قرار من المخابرات بمنعهم من المرور واعادتهم رغم حصولهم على تصاريح سارية المفعول بدواعي امنية لا يمكن لاحد فك لغزها ومعرفة حقيقتها. بوابات العذاب .. بعد رحلة تستمر أكثر من نصف ساعة، تحط حافلات الصليب على بوابة سجن “جلبوع “، لتقضي العائلات يومها بساعاته الطويلة بانتظار الزيارات، ويقول الصحفي السمودي ” كل اجراءات الزيارة، يستخدم الاحتلال فيها اساليب لمضايقة الاهالي والضغط عليهم، نحتجز داخل ساحة تحت حراسة الجنود الذين يرقبون حركتنا، ونقضي الوقت تحت اشعة الشمس الحارقة، فتذكرت لحظات الشبح خلال اعتقالي في ساحات سجن الفارعة و غرف الجلمة “، ويضيف ” المقاعد والمظلات التي جهزها الاحتلال لا تستوعب أو تكفي لجميع الزوار، فبعضهم يفترش الارض التي سرعان ما تصبح حارقة، والمقاعد لا تقي حرارة الشمس اللهابة التي ننتظر تحتها حتى تبدأ الزيارات، بالعبور عبر بوابة التفتيش بعد التسجيل والتدقيق في التصاريح والهويات والقوائم “، ويكمل ” رحلة الانتظار صعبة وقاسية، فالجميع يتذمر من هذا النموذج المصغر عن السجن، لكن ليس امامنا سوى الصبر، فما من أحد يسمع أو يهتم أو يتابع شكاوي ومعاناة الصغير قبل الكبير حتى الجهات الفلسطينية المسؤولة عن ملف الأسرى “، ويتابع ” في مدخل التفتيش، تمر عائلة الاسير حافية القدمين فلا بد من فحص حتى الاحذية على الالة الالكترونية، ثم الفحص الشخصي عبر الالة الحساسة والتي تطلق الانذار حتى على ابسط الامور لتتكرر عمليات التفتيش، وبعد ذلك، نتحجز في غرفة صغيرة على مقاعد تسبب الالم والوجع يتخللها السماح لنا بشراء اغراض الكانتين الباهظة الثمن وتحويل النقود لاسرانا “، ويكمل ” ساعة من الصلب والشبح نقضيها بانتظار فتح البوابة الاولى نحو السجن والتي يتخللها احتجاز وتفتيش يدوي وشخصي للسجانين والسجانات، لنعبر للبوابة الثانية وهي غرفة صغيرة، نحشر على مقاعدها كاننا في علب سردين بانتظار مؤلم وصعب لمدة نصف ساعة نتغلب عليه بلهفة الشوق والمحبة لرؤية ابنائنا “، ويستدرك ” عندما يفتح السجان البوابة الثالثة، ونمر عبر الدهاليز المؤدية لغرفة الزيارة، تتلاشى كل مشاعر الالم ولحظات المعاناة عندما نقف وجهاً لوجه أمام محبتنا لسرقة الوقت المحدد للزيارة والحديث مع ابنائنا والاطمئنان على اوضاعهم رغم التشويش المتعمد للهاتف. كلنا أسرى .. طوال فترة الزيارة، يقول الصحفي السمودي ” نشعر بالمعنى الحقيقي لألم السجن وظلم الاحتلال الحقيقي بسبب جدار الفصل العنصري الذي يفصل بيننا حتى نشعر أننا أسرى مثلهم، يحاصرنا السجانين من الجهتين، يرصدون حتى انفاسنا، علماً انهم يراقبون احاديثنا عبر هواتفهم التي تعتبر انتهاك صارخ لكرامة وحقوق الانسان “، ويضيف ” تجمع احاديث ومشاعر الشوق ارواحنا،تلتحم مشاعرنا بفيض الحنين ولهفة اللقاء ووجع الغياب دون أن نتبنه لعقارب الساعة التي يتمنى كل واحد فينا أن تتمرد على السجان وتتلمس نبل مشاعرنا وتتوقف حتى تنتهي كل الحكايات والاخبار عن الحياة والسجن والجامعة والمحكمة والحرية والاهل والناس وكل ما يشتاق الأسير لسماعه ومعرفته “، ويكمل ” بمشاعر الفخر والاعتزاز بصمود الابناء وروحهم العالية، ننسى كل التعب والمشقة لنفرح ونعيش اللحظة بكل تفاصيلها حتى تتفجر المشاعر وتتحرك الاحاسيس مع الايدي باحثة عن عناق ومصافحة حتى يصدمها الجدار، فتبكي القلوب لهذا الفصل العنصري الذي تفرضه قوانين الجلاد الذي وضع كل هذه القيود والحواجز لنعيش الطعم الحقيقي لمعنى الاعتقال والسجن،لكن لن ننسى لحظة انها ثمن الحرية فنزداد قوة وأمل “، ويتابع ” أصعب لحظة، عندما يقطع الاحتلال بشكل مفاجأ صوت الأسير باغلاق الهاتف الذي يتحكم به السجان، ينتفض القلب وجعاً وألماً كمن يصرخ من حرقة الوجع، لن نقنط من رحمة الله و سنهدم يوماً هذا الجدار ونكسر القيد اللعين ونجتمع من جديد، فحقائق التاريخ علمتنا أن لا غرف التحقيق باقية ولا زرد السلاسل “، ويستدرك ” في لحظات الوداع على أمل اللقاء، نقف واسرانا على جانبي الجدار، عيوننا الملتهبة تشق طريقها وتجتازه ليستمر الحديث بلغة العيون العاشقة للحرية والمؤمنة باشراقة الفجر الجديد، نتمرد على صرخات السجانين ” انتهت الزيارة يلا “. لنسرق دقائق جديدة، تهديهم قبلاتنا ودعواتنا وتعهدهم بفرج ونصر قريب من رب العالمين، فنغادر مبتسمين، نودعهم بعيون فرحة تتحول للدموع التي اخفينا خلفها مرارة الالم الذي نتجرعه كل دقيقة على غيابهم، فهؤلاء الابطال لا يستحقون سوى الحرية والسجن ليس لهم. النقب في الذاكرة .. بعد رحلة المعاناة والالم بين سجن جلبوع والمحاكم، قضت محكمة سالم بسجن الأسير محمد 14 شهراَ وفرضت عليه غرامة مالية مقدارها 5 ألاف شيكل، بعدها نقل الطالب الذي كان في فصله الدراسي الاخير بالجامعة العربية الامريكية، لمنفى سجن ” النقب ” الصحراوي، ورغم مطالبته والحاحه على اسرته بالتوقف عن زيارته حتى لا يتعرضوا لعناء المشقة في رحلة العذاب التي تستمر من السادسة صباحاً حتى العاشرة ليلاً، أصر الصحفي على سمودي على زيارة نجله الثاني في عائلته المكونة من 4 أنفار والذي يرتبط معه بعلاقة وطيده، ويفخر بصموده وصلابته طوال فترة اعتقاله خاصة خلال فترة التحقيق التي استمرت 54 يوماً، لم يتمكن خلالها من التواصل معه، ويقول ” حتى لو نقلوه لاخر الدينا، لا يمكنني التأخر عن زيارته مهما كانت الظروف، فالأسير ينتظر عائلته على أحر من الجمر فكيف اذا كان في واقع مرير ومنفى يعتبر الاحتجاز فيه عقاب وعذاب للأسير وعائلته “، ويضيف ” علاقتي في النقب، تعود لانتفاضة الحجر، فقد كنت من الدفعة الاولى من الأسرى التي افتتح الاحتلال بها هذا المنفى لاخماد وهج الانتفاضة وكسر ارادة شعبنا، ما زلت اتذكر عندما نقلونا من سجن عتيلت واستقبلونا بالضرب والاهانات، فقد كان يخضع لادارة الجيش الذي مارس سياسة تكسير العظام وكل الاساليب التي فشلت في اجهاض الانتفاضة “، ويكمل ” عشنا وسط الصحراء في خيام ممزقة لم تكن تحمينا حرارة الشمس وبرد الشتاء القارص والمختلف في النقب الذي كانت ارض اقسامه من الصرار والحجارة التي سببت الاذى والالم لنا، لم يكن يتوفر سوى مشتاح خشب مع فرشة بالية وحرام واحد لكل أسير لنبقى نتوجع وكأن ألم البرد القارص لم يكن كافياً لعقابنا “، ويتابع ” في تلك المرحلة، لم يكن يتوفر صوبات أو مياه ساخنة، نتوضأ بالماء البارد كبرودة الطقس، قسموا السجن لاقسام يضم كل منها 12 خيمة تكتظ بالاسرى، ولا يتوفر سوى 4 حمامات مسقفوة بالزينكو ويتسلل لها المطر ليتجمد الأسير خلال الاستحمام، أما صنابير المياه الخمسة فلم تكن تكفي وتقطعها الادارة التي تتحكم بها ساعات طويلة خلال اليوم “، ويكمل ” خلال رحلة الزيارة للنقب بساعاتها الطويلة، كان الشوق لرؤية الحبيب محمد، يملأ قلبي دفئاً وأملاً ينسيني المرارة التي فرضها الاحتلال علينا بحواجزه والتفتيش المتكرر وساعات السفر الطويلة التي اعادت لي الكثير من الذكريات وفي مقدمتها الحرمان، فلم يسمح لنا الاحتلال على مدار عام من زيارة الاهل الذي انقطعت اخبارهم عنا بسياسة مبرمجة تجعلنا نتلمس المعنى الحقيقي لبناء هذا السجن والمنفى وكأننا مبعدين خارج الوطن “، ويتابع ” كنت بامس الحاجة لرؤية ابني والاطمئنان على اوضاعه وظروف السجن، فما زلت اتذكر معاملة السجانين القاسية خلال رحلة اعتقالي، بالتفتيش اربع مرات يومياً ونحن مصلوبين على الحجارة المؤلمة في البرد والشتاء، وكان الوجع الاكبر تحويلنا لارقام، تذكرت وجبات الطعام السئية والشحيحة والتي كنا مرغمين على تناولها مهما كانت سيئة لنعيش ونحافظ على سلامة اجسادنا أمام محاولات اركاعنا وتمريضنا “، ويستدرك ” عندما وصلنا، وشاهدنا الامتداد الكبير للسجن الذي اصبح اقساما أكثر تتكون من الخيام والغرفة المحاصرة بالكثير من الاسلاك الشائكة وعشرات ابراج المراقبة وكلاب الحراسة، تذكرت معاناتنا بسبب الامراض الناجمة عن ظروف الطقس واوضاع السجن التي هيأت ليقضي الأسير فترة اعتقاله وسط الالم والاهمال الصحي، فالعيادة التي وفروها كانت لكل المعتقل باعداد اسراه الكبيرة، وقائمة الانتظار تمتد حتى يتحرر المريض قبل الوصول لدوره، وعندما ينقل للمعاينة فان العلاج الوحيد الذي كان يقدم لكل انواع المرض حبوب الاكمول السحرية “، ويكمل السمودي ” لن تنسى ذاكرتي، استهتار السجان الطبيب بالمرضى وهو يقول لنا مهما كانت الحالة الصحية والمرض ” اشرب ماء “، كوصفة سحرية قبل الاكمول الذي تطلب توفيره معاناة مريرة. وحدهم العظماء .. طوال رحلة الأهالي لمنفى ” النقب “، يتغلبون على لحظات الالم والانتظار، بحديث الذكريات التي تزرع فيهم الأمل والصبر وتبث في اعماقهم التي تسكنها الكثير من الاوجاع قيم التحدي والمعنويات العالية حتى تتوقف الحافلة على البوابة الرئيسية، وكل واحد فيهم يتهيأ بفرح وسعادة للحظة اللقاء الاجمل رغم وجع القيد وخاصة الامهات كبار السن والزوجات اللواتي يحضرن برفقة اطفال بعمر الزهور، كزوجة الأسير سامر المحروم، التي لا تتأخر عن زيارته مع طفليها أدم وياسمين اللذان انجبتهما من نطف مجمدة بعد اعتقاله، ويقول السمودي ” كتبت الكثير عن عظمة أهالي الاسرى وبطولاتهم وصبرهم، لكن في كل زيارة، يترسخ لدي يقين انه لا يوجد في العالم كلمات تفيهم حقهم وتعبر عن عظمتهم التي يستحقون عليها ارفع الاوسمة والنياشين، لكن ذلك ورغم التقصير الكبير بهم، لا يحظى باهتمامهم، فالاهم اكمال الزيارة وتجاوز رهبة الخوف من قرار ظالم بالمنع والحرمان بعد كل هذه المعاناة لتتكحل اعينهم وتفرح قلوبهم باجتماع الشمل رغم السجن والسجان “، ويضيف ” أهالي الأسرى،بصغيرهم قبل كبيرهم وبمواليدهم الزهور وزوجاتهم المناضلات وامهاتهم الخنساوات، وحدهم العظماء في هذا العالم الذي اصبح بعيداً بعض الشيء عن التفاعل والدعم لقضيتهم التي تبقيها عائلاتهم حية باعتزاز وفخر ببطولات الابناء. طقوس الزيارة.. تختلف طقوس زيارة الأسرى من سجن لاخر وفق سياسات ادارته وقوانينها التي تحرص دوماً على الحرمان وفرض الكثير من القيود، وبحسب رواية الصحفي علي سمودي، تبدأ طقوس زيارة النقب، بتلاوة السجان الاسماء ليتجهز الاهالي والتاكد من ضمان الزيارة بتوزيع ورقة صغيرة باسم كل اسير وتفاصيله لادخال الكانتين ” الدخان باهظ الثمن فقط “، والملابس المحددة بالصنف والنوع واللون والكمية والتي لا يسمح بها سوى لمرة واحدة بالمناسبات، كفصل الصيف والشتاء واحيانا الاعياد، ويقول السمودي ” تتوزع العائلة لاستغلال الوقت في ادخال ما تسمح به الادارة، يصطف الاهالي في طوابير طويلة للوصول لنافذة صغيرة لتحويل المبلغ المسموح به للأسير ” 150 دولار شهرياً “، ليتمكن من شراء احتياجاته خاصة من الطعام ومواد التنظيف التي لا توفرها الادارة ولان الطعام الذي تقدمه سيئ كماً ونوعاً، فاصبح الأسرى يعيشون على حسابهم مما يشكل عبأ ومعاناة كبيرة للكثير من الأهالي ذوي الظروف الصعبة “، ويضيف ” تسمح الإدارة بإدخال 4 كروزات دخان لكل أسير و تباع بثمن مضاعف عن السوق حتى الإسرائيلي والسعر الرسمي، أما الملابس، فحتى لونها محدد، ولا يسمح بإدخال الكثير من احتياجات الأسرى خاصة في فصل الشتاء مما يسبب لهم معاناة كبيرة في ظل أجواء الطقس العاصفة والتي تتسبب بالإمراض لهم. صور أخرى .. سجن ” النقب “، بالنسبة للصحفي السمودي، فيه الكثير من الصور والذكريات التي عايشها شخصياً خلال فترتي اعتقاله فيها والتي تبدأ بالوجع والصبر، الجوع والعطش والمرض والصمود والتحدي والارادة، المعاناة والعزلة والنفي والمعنويات العالية والايمان بالهدف وعدالة القضية، مروراً بارتقاء ابنه عمه الأسير بسام ابراهيم علي سمودي من بلدة اليامون شهيداً برصاص قائد السجن” تسيمح ” في 16-8-1988 مع الأسير أسعد الشوا من غزة، وصولاً لاحتجاز نجله محمد لقضاء ما تبقى من محكوميته، ويقول ” كل هذه الصور مرت بذاكرتي عندما دخلنا لمرحلة التفتيش الاولى للزيارة، فلا يمكن العبور قبل الفحص الالي الذي يشمل حتى احذية الاطفال ومناديل الماجدات الصابرات، واكثر ما يؤلم جرس الالة الذي يطلق انذاراَ يعني تكرار التفتيش مرات ومرات حتى توافق الالة الشريك الاكبر للسجان في محاولات الاذلال وامتهان الكرامة “، ويضيف ” المرحلة الثانية، الفحص من قبل السجانين للتصاريح والهويات والتاكد من الاسماء وصلة القرابة، ثم فحص الصور الخمسة التي يسمح بادخال للأسير والتي تخضع ايضا لقيود يفرضها السجان الذي بالغالب يمنع غالبيتها، ثم ننتقل للفحص والتفتيش اليدوي والشخصي باستخدام اجهزة انذار حساسة، ويجب ان يخضع له كل زائر حتى الرضع والمواليد “، ويكمل ” في المحطة الرابعة، تجمع الادارة الاهالي حوالي نصف ساعة قبل فتح البوابة التي تمر عبر اسلاك شائكة تذكرنا بمدى معاناة ابنائنا في هذا المنفى حتى نشعر باننا أسرى معهم، وننسى كل هذه الصور واوجاعها عندما يصدر السجان قراره لاجهزة الهاتف لتفتح الخطوط وتبدأ المشاعر الجياشة التي تسبق الكلمات وكل منا يعيش فرحة اللقاء على طريقته بالقصص التي تحتاج لالف ساعة وليس 45 دقيقة تنتهي قبل أن تبدأ. رحلة العذاب .. رحلة الزيارة التي تنتظرها كل عائلة، كأنها عيد أو فرحة أبو بهجة .. يصفها الصحفي السمودي بانها ” عذاب لا تصفه كلمات لما فيه من مشقة وقيود وحواحز تحول كل دقيقة لألم ووجع يؤكد ان من اختار هذه الصحراء القاحلة كمنفى لابنائنا وفلذات اكبادنا ولنا، لاينتمي لعالم البشر، فهو انتهاك صارخ لكافة الاعراف والقوانين وابسط حقوق الانسان، اراد قتل روح الانسان وتفريغه من محتواه النضالي والوطني وانتماءه لقضيته “، ويضيف ” لكن صمود وثبات وارادة الاسرى حولت النقب لقلاع للصمود ومدارس للنضال وجامعات للعلم، ارادوه لابنائنا ولنا قهراً وذلاً، لكنه تحول لعزة وشموخ وكرامة بل قالوا للسجان، السجن لنا مرتبة والقيد خلخال “، ويكمل ” أما بالنسبة للاهالي، فان اصرارهم على تحمل كل المشاق والمحطات الاليمة والوصول لابنائهم والتواصل معهم بمحبة ووفاء، شكل رسالة للاحتلال، تؤكد أن اسرانا ليسوا مجرد ارقام، وكل لحظة معاناة تنتهي عندما نرى هاماتهم الشامخة ومعنوياتهم العالية التي تعزز الايمان وتزرع الامل بان اشراقة الفجر الجديدة قادمة مهما تأخرت، فالحرية لنا والسجن ليس لابطالنا .