عشتُ مطولاً وأنا أنظر إلى تبسة مدينتي الأولى/الثانية في الوقتِ نفسه، بعين تحتلُ مكانًا خاصًا جداً: الحميمية المصطبغة بالغربة. فيصل الأحمر كان السي اعمر لا زال يُردّد دروسه التي لم تكن مُبرمجة علينا والتي كان مستحيلاً علينا فهمها، دروسا كان رحمة الله عليه يهتم بها أكثر من دروس اللّغة العربية التي كان مُكلفًا بها: "اسمع جيّداً يا بْهيم (كان المسكين يرى تلميذاً غبيًا يجلس أمامه أو في مخيلته - يخشى منه على التاريخ وعلى العربية وعلى البلاد كلها).. عليك أن تفهم ما معني الجزائر.. وأنت إن لم تفهم ما معنى تبسة فإنّك لن تفهم شيئًا أصلا..". وساعتها كان الصمت يُخيم علينا جميعًا؛ بِمَا في ذلك "البهيم" القابع في اللاوعي الجمعي للبلاد الخارجة من الاِستعمار، لكي يُواصل السي اعمر: "لقد عرفت تبسة منذ أقدم العصور ما لم يعرفه بلدٌ آخر في التاريخ.. الجميع أحبوا موقعها الإستراتيجي، وخصوبة أرضها الغنية بالمياه.. وهذا ما جعل المنطقة تعرف إحدى أوائل الحضارات البشرية: حضارة الرجل العاتري.. ويمكنك أن ترى أثره من خلال آثاره الكثيرة: الأدوات الحجرية والأغراض المصنوعة من حجر الصوان.. وكلّ ذلك يقدر قدمه المختصون بِمَا يتراوح بين 3000 و4000 قبل الميلاد أي أنّها من الحضارات الأولى على وجه الأرض.. تصوروا يا أولاد.. إنّ الّذي له تاريخٌ غائر كهذا عليه أن يعيه ويعي أبعاده الحقيقية.. ساعتها سوف لن يستطيع قاصٍ ولا دان أن يتلاعب بنا ويقنعنا أنّنا ولدنا مع مجيء الرومان والمسيحية، أو ولدنا حينما دقت ساعة الفتوحات الإسلامية، أو ولدنا يوم دخل الفرنسيون بلادنا مُذَّبِحين مقتلين في الخلق باِسم الحضارة والتمدن.. نعم.. إنّ لنا تاريخًا رومانيًا خاصاً بنا.. ولا تستمعوا إلى من يُحدثكم عن أنّ روما جاءتنا بشيء.. فنحنُ يا أطفال من أعطيناها روحنا من خلال تبني الديانة المسيحية التي كانت ساعتها عنوان الرب العادل، ولافتة الحق في العالم.. نعم يا شباب لقد كان تأسيس مدينة "تيفست" تيفست في القرن الأوّل للميلاد، في مرحلة حُكُم العائلة الفلافية في عهد الإمبراطور فيسباسيانوس. وقد شكلت مركز جذبٍ هام للساسة والمحاربين وللتُجار خاصة.. وحيثما نمت التجارة نمت الثقافة والاِزدهار يا أولادي.. هذه قاعدة". 5 - إيقاع الغربة: التبسي.. في نيويورك. ذهبتُ إلى الولايات المُتحدة في ربيع عام 2016، وجمعتني صدفةً غريبة في الأمسية الأولى لي بنيويورك بشابين اِلتقيت بهما في برودواي التي كنتُ قد رأيتُها في الأفلام التي هي قُوُتي اليوميّ منذ سن الحادية عشرة، كنتُ مثلما هي حال كلّ من يزور المكان مرفوع العيون صوب الإعلانات العالية المُعانقة بأبّهة عجيبة للعمارات التي تبدو كأنّها كلما سألها العلو الأميركي: هل اِكتفيتِ؟ قالت: هل من مزيد؟.. طلبتُ من أحد الشباب أن يأخذ لي صورة فابتسم مُتعرّفًا على الشكل والسحنة: الأخ عربي؟ قلتُ: جزائري، فقال: نحن أيضا (وكانا اِثنين).. ورغم أنّني كنتُ قد غادرتُ الجزائر منذ يوم فقط إلاّ أنّ فرحة كبيرة تغمر الواحد حينما يُلاقي أبناء بلده في بلد أجنبي.. من أين أنتما تحديداً يا الخاوة؟ صديقي خنشلي وأنا تبسي.. كدتُ أضحك بالصوت بسبب الصدفة الغريبة.. وهو ما حدث لهما حينما عَلِماَ بأنّني تبسي أنا أيضا..، التبسية partout وين ما تروح تلقاهم".. تشاركنا مشروبًا وأكلاً خفيفًا وتبادلنا أرقام الهواتف للقاء، ولكن الوقت لم يسمح بذلك فقد كنتُ مغادراً بعد يومين إلى بنسيلفانيا، فيما هُمَا ماكثان هناك للعمل طبعًا. اِستوقفتني ملاحظة التبسي الّذي هو في كلّ مكان.. وهي ملاحظة سديدة لأنّني سأسمعها لاحقًا مراراً في الجامعة؛ في المدرسة العُليا بقسنطينة؛ وكانت مدرسة عسيرٌ الدخول إليها، ولكنّها كانت تعجُ بأبناء ولاية تبسة وبناتها خاصة، ثمّ في جامعة جيجل أين مرت بي اِثنتا عشرة سنة على الدراسات العُليا، حيثُ تفتح مسابقات وطنية تقتنصُ من خيرة الباحثين على مستوى الوطن أربعة أو ستة أو تسعة حسب السنوات، والحاصل أنّه لم يخلُ عامٌ واحد من طلبة من تبسة.. وصارت المُلاحظة تتكرر دائمًا (التبسية ديما فيها).. سوف يُصاب بالحيرة من يبحث في الأسباب التاريخية التي أهلت تلك المنطقة لكي تكون منطقة مضيافًا بذلك الشكل، عِلمًا أنّها قد تكون أفضل التجارب في التذاوب بين زوجين من المتناقضات العتيقة التي تقوم الحروب والمشاحنات دومًا حولها: التزاوج الغريب بين العرب والأمازيغ في سلاسة جديرة بأن تُدَّرس أنثروبولوجيًا، وكذا التجاور الثقافي بين الديانتين الغريمتين المتجاورتين: المسيحية والإسلام.. فقد ذاب العنصر الأمازيغي (الشاوي) في المكوّن العربي الّذي جاء غازيًا /فاتحًا والّذي تعايش بسرعة في اِحترامٍ كبير للثقافة المحلية، مِمَا جعله دومًا مُنزهًا من صفات الغُزاة الذين كانوا ولا زالوا - مُحمَّلين بطاقة حقد كبيرة صوب أبناء البلد.. ولا زالت حكاية تبسية جميلة تتردّد أصداؤها في دماغي حول امرأة مُسنة في الفترة الاِستعمارية تسألُ طفلة صغيرة تبيعُ بعض الأغراض: كيف يحدث أنّكِ كبرتِ ولم تتعلمي الفرنسية؟ فردتْ الصغيرة عن طريق مُترجم كان يقفُ بينهما: وكيف كبرتِ وشبتِ أنتِ في هذه البلاد ولم تتعلمي العربية؟.. فبَهُت الّذي اِستعمر! كان صوت السي اعمر يُردّد على ذاكرة الطفل الّذي صار يتذكر الماضي أكثر مَا ينبغي لسبب ما مجهول: "فيقوا يا بهايم.. فيقوا.. تبسة هذي أعجوبة من أعاجيب الله على وجه الأرض.. ومثلها الجزائر.. لقد ظلت هنا واقفة بعد أربع قرون من حُكُم "رومان (توضيح)"الرومان، وبعد قرن كامل من حكم الوندال آريي الأصل والذين كانوا مسيحيين موحدين.. وعليكم أن تسألوا: لماذا جاء هؤلاء من ألمانيا إلى هذا الربع الخالي من هذه الكرة الأرضية الواسعة؟ السبب هو وجه العجب الّذي أُحَدِّثُكم عنه.. والأغرب والأعجب من كلّ ذلك هو بقاء آثار كلّ هؤلاء رغم كُثرة الحروب المُدمرة التي كانت بين كلّ جيلين مُتتاليين من الغُزاة المُستعمرين.. فنحنُ اليوم نرى أسوار الونداليين، ونرى قِلاع البيزنطيين الذين جاؤوا في أعقابهم.. كلّ هذا علاوةً على عشرات أو مئات من القطع الأثرية التي يعرفها أهل الاِختصاص لكلّ هؤلاء الذين ذكرتهم لكم..". سوف أطرح السؤال على عمي مسعود لاحقًا وأنا أُشكل ثقافتي المُستقلة ورؤيتي الشخصية للأشياء في مرحلتي الجامعية: - لماذا لم نبنِ شيئًا ذا بال يُضاهي ما بناه هؤلاء في غابر الأزمان؟ - هي مشكلة صعبٌ تحليلها.. شخصيًا سأفسر الأمر دومًا بأنّه مُرتبط بالمكونين الاِثنين اللذين رسخَا في الذهنية المحلية: الأصل البدوي لسُكان هذه المنطقة الوعرة، والأصل العربي شديد البداوة للثّقافة التي ترسّخت أكثر من أية ثقافة أخرى في هذه المنطقة.. يبدو أنّ الأصول البدوية للعرب الفاتحين الذين شكلوا أُفقًا إيجابيًا للسُكان المحليين من خلال الميزات الحضارية الديمقراطية الجمهورية بشكلٍ ما للدين الإسلامي، قد تضافرت مع الظروف البدوية النومادية للأمازيغ من سكان هذه الجبال والصحارى الوعرة.. وكانت النتيجة تُرَسِّخ الرؤية ضدّ المدنية للحضارة.. رؤية استبسية بشكلٍ ما.. من أجمل ما سَأَطلِع عليه في تلك المرحلة حول هذه المنطقة خريطة "بوتنغر" التي تصف أهم طُرق الرومان في العالم، وأين تحتل تبسة مواقع هامة في عالم كثيراً ما أَهْمَلَ حواضر كُبرى، وهي الوثيقة التي سيدُلّني عليها أحد الأساتذة التبسيين الذين سيدرسونني في المرحلة الجامعية: الدكتور عثمان طيبة رحمه الله، والتي سيصفها لي في زمن ثانٍ أحد عباقرة الثقافة الجزائرية على هامش رحلة جوية صباحية منحتنا ثلاث ساعات من الاِنتظار في مطار استغل التأخير في مواعيد الطائرة لكي يُمكنني من الاِستفادة من الثقافة الرهيبة لأستاذ كنتُ أعتقده قبلها أستاذاً للغة العربية فحسب: مختار نويوات الّذي كان مسرورا حين عَلِمَ أنّ الشاب الجيجلي الّذي كان يعرفه فيّ، والّذي كان قد سهر معه ليلتها على هامش أحد ملتقيات المجلس الأعلى للغة العربية هو تبسي المولد... 6 - إيقاع الهوية كلّ ذلك كان حاضراً في مرويات السي اعمر: «.. بعد قرن أو قرن ونصف من التواجد البيزنطي في تبسة سيأتي المسلمون ليستوطنوا المكان إلى غاية اللحظة الحالية بعد مقاومة خفيفة إذا ما قيست بالمقاومات السابقة التي يشهد عليها التاريخ في تلك المنطقة.. عليكم أن تزوروا كلّ هذه الأماكن الهامة.. سأرسل دعوات لآبائكم البهائم لكي يعرفوكم على قوس النصر.. والسور البيزنطي.. زوروا المدرج المسرحي، ومعصرة برزقال في المدينة العتيقة، تعرفوا على "كنيسة" الكنيسة الرومانية، كتيسة كريسبين، على الفوروم.. هل تعرفون أنّ تبسة كانت مبنية تمامًا على معمار مدينة روما؟ هذا لم يحدث حتّى في البلدان الأوروبية.. وربّما هي هالة القديس أوغسطين العظيم الّذي اِرتفع بالرُعاع إلى درجة أهلية الاِنتماء إلى "أمة" إله عيسى وموسى وسليمان... هل تفهمون معنى هذا؟.".. في آخر الأخبار قِيل لي إنّ السي اعمر قد مات منذ عشرين عامَا أو أقل قليلاً.. مات وفي قلبه غصّة ما على ما أصاب الذاكرة.. ولكنّه ربّما يكون قد مات وهو يرى طاقة الحياة التي تملأ الشباب التبسي اليوم.. شباب ورث أزمة اِقتصادية لا تزال تُلقي بظلالها على الحياة العامة في البلاد.. ولكنّه شبابٌ شديد الاِلتصاق بالحياة.. شباب جعل الدراسة والثقافة والتفنن في العيش إجابة مناسبة للأزمة التي وَلَّدت العُنف منذ ثلاثين سنة، عنف عالمي بدأ منذ سقوط المعسكر الشرقي، وانتشار حروب كثيراً ما تبدو بلا أسباب واضحة، ولكنّها حروب تفرخ الخوف والاِنكماش.. ظاهرتين اِبتكر لهما الشباب منذ ربع قرن حيلاً وأدوات نجحت في تبسة أكثر مِمَا نجحت في أماكن أخرى: الدراسة، التجارة على مستويات عالية لمُعالجة تاريخ طويل من عادة التهريب التي تعرفها تبسة مثلما هي حال المناطق الحدودية في كلّ مكان من العالم، ثمّ الهجرة الإيجابية التي هي هجرة محدّدة في الزمن الهدف منها بناء مشاريع حياة في البلد الأصلي.. وكلّ ذاك كما يعرف المختصون من الحيل الجالبة للثروات التي تظهر من خلال نمط مُعين من التأنق في البناء والمنشآت، والأبنية الخاصة والعيادات المُختصة، وحتّى في المرافق العمومية. وهذا هو الاِنطباع الّذي يملأ عين زائر تبسة اليوم وقبله: مدينة تجر تاريخًا ثقيلاً جداً ولكنّها تُشرع أجنحة واسعة مُستعدة باِستمرار للطيران..