غيرَ مكترثٍ بشيء يجيء، كما تعوّد ذلك منذ أن نزلت "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، ومتجاوزاً ومترفّعاً عن الآني المترجرج والراهن العابر، كأنّه يعلن كلَّ ما عداه جملةً بين قوسين، بينما هو السياق كاملاً وهو الثابت الذي يحتوي النسبيَّ الزائل العارض مهما غامت الرؤية وقصر النظر وزاغ أو طغى البصر، فهو الناموس الموصول بمَن هو بكلِّ شيءٍ محيط، وهو تفاعل الزمان من دورة الشمس والأرضِ والقمر مع الروح التي هي "من أمر ربّي" ومع "نفسٍ وما سواها" وتجاذبات فجورها وتقواها، وتقديره لإنزال كلماته فيه قرآنا، هدىً للناس وبيّناتٍ من الهدى والفرقان، وهو يغشى السياق ويشد إليه الأشواق ويوقظ ما طال عليه الأمد ويلملم ما قد تناثر في خضم التدافع والسهو والصراع، ويعيد تنسيق ذرات الروح ويفتح ما غفل من مسامّاتها، ويصل ما تهتك من حبالها، ويفتح فيها ما لا حد له من آفاق ولا حدود، فهو الإعلان عن بدء التنزيل، كما إنزال الماء من السماء، لِما يحيي الأرضَ بعد موتها والإنسان، واستنفار خصبها الكامن في أوّل التكوين فيها، وردفها بنور زيتونةٍ مباركةٍ "يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار"، نورٍ يطغى على الظلام السائد في كلّ المسارات ويفتح على تجاوز الإحساس بالمستحيل ويؤسس لتحرير المساحات المظللة في الروح وإضاءة الفضاءات المنتهكة من التاريخ والإسراء في المساحات المأسورة من الأرض، ف«الله نور السماوات والأرض"، يجيء لإعادة ترتيب السياق والأوراق، ومزجها بالأرض والسماء والإنسان، ووصلها بالماضي والآتي من أيّام، وطقوس ابتهاجنا به وتنفّلنا فيه، وتفاعلنا مع نكهات أطباقه وتراويحه وانعكاسه على جباله ومرجه وسهله، وصورته في بحره وقدسه، وجلال كنائسه في ابتهالات السحور، يجيءُ ناظماً لِسيمفونيتنا وكيمياء تاريخنا مثيراً فينا الحنين القلِقَ إلى صلوات جدّاتنا وتقاليد أمهاتنا ومستنفراً كلَّ أوجاعنا في وطننا وفي شتاتنا، فهو كان وما زال رغم حال الحال يجمعنا ولو فيما رسخ في أحاديث أمهاتنا وطعم أناملهن في حلوياته وأطباقه، يجيء مع اكتمال النقصان وتجلّي المعاناة هلالاً مجللاَ بالكمال وتحدّي المجال ويقيناً باكتمال دورة الروح بدْراً وقدْراً تؤمن به الجموع "نصر من الله وفتح قريب".