ضمان استدامة المكاسب المحقّقة وتثمينها يرى الخبير في شؤون الطاقة، الدكتور مهماه بوزيان، أن مستقبل الطاقة في الجزائر واعد يحمل طموحات متعدّدة، ومرشّح لأن يبلغ مستويات نمو كبيرة بفضل العديد من العوامل والمؤشرات الثابتة، ولم يخف أنه في ضوء تسجيل تحسن على مستوى الاستهلاك الداخلي وإنتاج المكثفات، وبفضل ما تجسد من خلال تحقيق فائض في منتجات مشتقات النفط الموجهة للتصدير ضمنت الجزائر العديد من النقاط الإيجابية. في البداية، قدّم الدكتور بوزيان مهماه قراءة معمّقة حول تبنّي سوناطراك نظرة تنموية حديثة، تستغل فيها الإمكانات الباطنية بطريقة ذكية تركز على التكنولوجيا الحديثة، وعبر بناء شراكات وثيقة، وتطرق إلى رهانات المرحلة التي رفعها العملاق الجزائري، معترفا أنه تم تسجيل جهد تنموي وتطويري وطني يستحق التنويه والإشادة، وينبغي دعمه وتعزيزه، وأضاف - في السياق - أن هذا الجهد الوطني يستحق مرافقة مختلف القطاعات الحيوية، باعتبار أنها ضرورية من أجل ضمان استدامة المكاسب المحققة وتثمينها أكثر. وقال مهماه إنّ الواقع المعيش يقتضي تكريس ممارسات مواطنتية عملية تتصدى لهدر الطاقة، وتحارب التبذير للموارد الطاقوية الثمينة، واقترح التجسيد العملي الميداني ل "فعالية الطاقة وكفاءتها واقتصادها"؛ لأنّه يتوقع أن يكون أعظم شعور بأهمية هذا الجهد الوطني الذي يبذل، بل وسيكون أسمى إدراك وتقدير له. في ظل استحضار الوعي بحجم ما يستثمر فيها من أموال وتكنولوجيات وتقنيات وجهد عقلي ومؤسساتي وبشري، إضافة إلى النسبة العالية من المخاطرة، خاصة في مرحلة الاستكشاف، فالمتعارف عليه عالميا - يقول مهماه - أن متوسط النجاح فيها هو (25 %)، وهو ما يعرف بقاعدة الصيد لدى الأسود (نجاح محاولة واحدة من أربع محاولات)، باعتبار أن أي صناعة في العالم تتحمل نسبة مخاطرة عالية تصل (75 %). السّيادة الطّاقوية.. دعامة صلبة يرى الخبير مهماه أنّ مجمّع سوناطراك يقوم بعمل جبّار لتعزيز الأمن الطاقوي للجزائر، والمساهمة في تعزيز منظومة الأمن الطاقوي العالمي، كما يعتقد أنّها تشكّل بأنشطتها دعامة أساسية، رفقة المؤسسات الوطنية السيادية، في تجلّ وطني بارز ل "الدبلوماسية الطاقوية" المرتكزة على دعامة صلبة، هي "السيادة الطاقوية". أما بخصوص ما حققت الجزائر من قفزة نوعية في إنتاج النفط شهر أفريل المنصرم، مقارنة بأكبر المنتجين، يرى الخبير أنه يعكس السير نحو المزيد من الرفع من الطاقة الإنتاجية مستقبلا. وبلغة الأرقام، عرض الخبير رؤيته لواقع ومستقبل العمل الطاقوي، وقال إن الجزائر، في إطار سياسة خفض الإنتاج التي تبنتها منظمة أوبك وشركائها من خارجها ضمن تكتل (أوبك+)، ملتزمة بخفض طوعي في إنتاج النفط بمقدار (48 ألف) برميل يوميا إلى غاية نهاية ديسمبر من هذه السنة 2024، بالإضافة إلى ذلك، فقد تقدّمت الجزائر أيضا بخفض طوعي إضافي لإنتاج نفطها بما مقداره (51 ألف) برميل يوميا حتى نهاية جوان الشهر المقبل، ليكون بذلك إنتاج الجزائر من النفط (908 ألف) برميل يوميا، وذكر أن هذا الخفض الطوعي الذي تبنته الجزائر يهدف إلى تعزيز الجهود الاحترازية التي تبذلها مجموعة دول "أوبك+" الرامية إلى دعم استقرار أسواق النفط وتوازنها، والجزائر كانت وفية لالتزامها الطوعي هذا، فقد أبان تقرير أوبك الشهري لسوق النفط (MOMR) لشهر ماي (14 ماي 2024)، بأنّ إنتاج الجزائر من النفط، لشهر أفريل قدر ب907 ألف برميل يوميا، ومتوسط إنتاج الجزائر للربع الأول من هذه السنة 2024، كان في المستوى نفسه، مقارنة مع متوسط الإنتاج للربع الرابع من السنة الماضية 958 ألفبرميل يوميا، نزولا طوعيا من مستوى متوسط الإنتاج السنوي لسنة 2023 والمقدر ب 973 ألف برميل يوميا، ومستوى 1.020 مليون برميل يوميا لسنة 2022. خطط تطوير الطّاقة من أجل فهم طبيعة ارتفاع صادرات شحنات النفط الجزائري، حرص الخبير على التذكير بأنّ الجزائر تلتزم بمستوى إنتاج أقل من تعهداتها الطوعية ب 10 آلاف برميل يوميا خلال الربع الأول من 2024، وفي المقابل وفي الفترة نفسها، ترتفع صادراتها من النفط الخام والمكثفات، حيث بلغ متوسط صادرات النفط الجزائري خلالها، تقريبا 431 ألف برميل يوميًا، مقابل 423.68 ألف برميل يوميًا خلال الفترة نفسها من 2023، وفقا لمصادر خارجية متابعة لأسواق الطاقة. وهذا يعني، وبحساب بسيط، أنّ هناك تحسّن على مستويين، أولاً على مستوى الاستهلاك الداخلي في السوق الوطنية، وثانيا على مستوى إنتاج المكثفات وأيضا تحقيق فائض في منتجات مشتقات النفط الموجهة للتصدير، ووصف الخبير هذا التوجه بأنه مهم ضمن خطط تطوير قطاع الطاقة في الجزائر، وأضاف: هو منجز ينبغي تثمينه. وحاول الخبير مهماه التفصيل في الموضوع، مؤكّدا أنّ عملية الرفع من الطاقة الإنتاجية في قطاع النفط الجزائري ممكنة، لكنها محكومة بنظام الحصص داخل (أوبك+)، ولذا فهي محكومة بالتزامات الجزائر، بما فيها الطوعية، وحرصها على نجاح مسار الوصل إلى استقرار الإمدادات في نطاق الأسعار العادلة والمتوازنة والمثمّنة للموارد النفطية، وهو المسار الذي يتجسد في سياسة خفض الإنتاج التي تبنتها منظمة أوبك وشركائها من خارجها ضمن تكتل (أوبك+) الذي أسست له الجزائر. استكشافات ذات جودة عالية أمّا على صعيد ارتفاع وتيرة الاستكشافات، ومدى استمرارية المسار بالوتيرة نفسها، وتحقيق المزيد من الحقول المنتجة، وقف الخبير في شؤون الطاقة مهماه بوزيان على الإكتشفات المحققة في الجزائر في سنة 2022، لأنّها قادت إلى تحقيق إضافات من الموارد الهيدروكربونية ذات القيمة الأعلى ضمن سلسلة الاكتشافات ذات المستوى العالمي، فقد شهد قطاع التنقيب عن النفط والغاز العالمي أقوى عام له، أي العام 2022، وكانت أحجام حقول النفط المكتشفة جيدة، وبهيدروكربونات عالية الجودة، والنتائج المحققة في الجزائر ودول أخرى، قادت إلى تحقيق إضافات من الموارد الهيدروكربونية العالية القيمة ضمن سلسلة الاكتشافات ذات المستوى العالمي. وكانت الميزة الرئيسية لهذه الاكتشافات، خصوصا في الجزائر، الجودة، إلى جانب إنجاز عدد أقل من الآبار مع الحصول على حجم أكبر من المحروقات، معتبرا أنّ سلسلة اكتشافات النفط والغاز العالمية الجديدة في سنة 2022 شكّلت دافعية عالية لعمليات الاستكشاف، واستدل الخبير على ذلك بتخصيص الجزائر لمساحة استكشاف للمحروقات على امتداد ما يقارب 8 % من مساحتها؛ لأن رهان تجديد مخزونات الجزائر من المحروقات، من خلال ما جاء به المرسوم الرئاسي رقم 24-148 المؤرخ في 19 شوال عام 1445 الموافق 28 أفريل 2024 المتضمن منح امتيازات المنبع (للشركة الوطنية سوناطراك) للبحث عن المحروقات واستغلالها، هو رهان استراتيجي يتجسد في إطلاق جملة من المشاريع عبر 11 رقعة تمتد على مساحة إجمالية تُقدر ب 185.902.4 كلم مربع. هذه المساحة المخصصة لاستكشاف المحروقات تمثل 7,8 % من مساحة الجزائر.
نجاعة الكلفة وقرب آلة الإنتاج
أمّا في عام 2023 - يقول مهماه - فقد تمكّنت سوناطراك من تحقيق عشرة اكتشافات من المكامن الناضجة للمحروقات، تضاف إلى 16 اكتشافا أنجز خلال عام 2022. وأهم ما يميز هذه الاكتشافات الجديدة المسجلة في حقول النفط، والتي تحظى حاليا بعمليات تقييم وتدقيق بشأن مردوديتها، هو أنّ معظمها يقع بالقرب من المنشآت ومناطق الاستغلال الحالية، ما سيسمح لسوناطراك بضمها سريعًا إلى عمليات الإنتاج، وما يميّزها أيضا هو نجاعتها من حيث الكلفة مقابل البرميل المستكشف، والذي لا يتعدى دولارا واحدا. وعلى خلفية أنّ هذه الاكتشافات المحققة تؤكد الإمكانات الكبيرة من البترول والغاز التي تمتلكها الجزائر، والجهود المبذولة في مجال الاستكشاف وتجديد الاحتياطي. وفيما يتعلق بالخارطة الطاقوية الحالية للجزائر، أفاد مهماه أنّ الحكم على أية خارطة طاقوية لأي بلد، ينبغي أن يستند إلى مؤشرات، وهذه المؤشرات يتم استقاؤها من ثلاثة مكونات للنموذج الطاقوي القائم أو الذي تجري هندسته، معتبرا أنّ الجزء الأول من المؤشرات الكمية والكيفية يتأتى من المصادر الطاقوية المتوفرة والمتاحة، وقدرات استغلالها، والجزء الثاني يتأتى من طبيعة البنى التحتية والمرتبطة أساسا بحوامل الطاقة (الكهرباء، الحرارة، الهيدروجين)، أمّا الجزء الثالث فهو الخاص بالتسويق للاستخدمات في السوق الوطنية أو التسويق الخارجي. ويعتقد الخبير بأنّ مؤشّر التطوير جيد ومرتفع عندما نلمس استهدافًا بالوصول إلى قدرات إنتاجية من المحروقات في مستوى (207 مليون طن مكافئ نفطي) بحلول العام 2028، بمعدل تطوير سنوي لقدرات الإنتاج ب 1.3% صعودا من 194 مليون طن مكافئ نفطي،المسجل عام 2023، وأيضا الوصول إلى إنتاج أزيد من 110 مليار متر مكعب، كغاز طبيعي مسوّق، وقد تم رصد مبالغ مالية معتبرة لذلك في إطار مخطط التطوير المتوسط المدى 2024-2028، مع المضي بخطى حثيثة في إنجاز مشروع 15 ألف ميغا واط، كقدرات من الطاقات المتجددة (الطاقة الشمسية الكهروضوئية على الخصوص)، منها 3 آلاف ميغاواط تم الشروع في إنجازها، واستهداف اكتمال ذلك في آفاق 2030، إضافة إلى إعادة التذكير بمخطط الاستكشاف الوطني لمجالنا المنجمي الطموح جدا، وهي مؤشّرات كميّة دالة على رهانات ذات أهمية بالغة تُدلّل أيضا على حجم الجهد الوطني، الذي يُبذل لتثمين مختلف مصادرنا الطاقوية من طاقات تقليدية وغير تقليدية وجديدة ومتجدّدة. ثلاثة مشاريع هيكلية كبرى بخصوص الجزء الثاني والمتعلق بطبيعة البنى التحتية والمرتبطة أساسا بحوامل الطاقة (الكهرباء، الحرارة، الهيدروجين)، ركّز الخبير على ما أطلق عليه اسم "هندسة ممر الطاقة الجنوبي"، والذي يتمحور حول ثلاثة مشاريع هيكلية كبرى. المشروع الثاني والمتمثل في استهداف إنتاج 40 تيرا واط ساعي سنويا، من الهيدروجين الطاقي في آفاق ما بعد 2040، وصفه بأنه مشروع طموح لنقل الهيدروجين الأخضر المنتج من مصادر الطاقة المتجددة من الجزائر إلى أوروبا، وصولا إلى ألمانيا، عبر تونس وإيطاليا والنمسا، باستخدام أنابيب الغاز الحالية مع تشييد وصلات ربط جديدة. أمّا المشروع الثالث، فهو يتمثّل في تجسيد مشروع خط أنابيب الغاز العابر للصحراء، يربط نيجيريا بشبكة الغاز الجزائرية مرورا بالنيجر، ويرى أن الحديث حول هذا الموضوع، يستوجب لفت الانتباه إلى أنّ هذا المشروع مدرج ضمن وثائق المشاريع الاقتصادية المتكاملة للإتحاد الإفريقي، كمشروع أساسي من بين 16 مشروعا مُهَيْكَلا ومُهيكِلا للإتحاد الإفريقي، وفي تقدير الخبير يعد عنصرا مركزيا ومحوريا ومهما. وعن السقف الذي ستبلغه أسعار النفط خلال العام الجاري، قال مهماه إن التقرير الأخير لمنظمة أوبك، يتوقع بأن تنهي سلة أوبك المرجعية (ORB) قيمتها أعلى من متوسط قيمة العام الماضي ب 83.67 دولارا، مقابل 81.38 دولارا الذي حققته في العام الماضي 2023. بينما توقعها بالنسبة للخام الجزائري (مزيج صحاري)، ترى بأنه سينهي هذه السنة بمتوسط سعري قيمته 86.40 دولار كثاني أغلى خام في سلة أوبك، وثالث أغلى خام عالميا، مقابل متوسط 83.25 دولارا العام الماضي؛ بحكم أنه كان المهيمن سعريا كأغلى خام عالميا.