@رافقت الجزائر على مدى نصف قرن من مسيرة البناء ، أوصلت رسالتها الى ابعد مدى في مواجهة التحديات. خاضت معركة التعددية اعتمادا على قاعدة الرأي والر اي المعاكس مبقية على صمود الجمهورية ودولة المؤسسات وألان نراها تسير يوميا الحوار العام حول الإصلاحات. أي تقييم وتقويم يعطى للصحافة الجزائرية في الاحتفائية باليوم العالمي لحرية التعبير؟ كيف كسبت الرهان في معركة إثبات الذات؟ كل التفاصيل في هذا الحوار مع الدكتور محمد عبو وزير سابق وعضو المجلس الدستوري. الشعب: قراءات متعدّدة لحرية الصحافة ورؤى متباينة حسب الموقع والمصالح وزاوية النظرات،. ما هو المصطلح الأقرب للاستقراء؟ كيف هي الحالة الجزائرية عشية الاحتفائية بحرية التعبير؟ @@ محمد عبو: تعرف حرية الصحافة بأنها طلب الحريات العامة، طلب كل الحريات والحقوق، هي الشرط المسبق لممارسة باقي الحريات، حدودها هي حدود الحريات الاخرى. بالنسبة للجزائر حرية الصحافة كانت الحرية التي ارتكزت عليها باقي حريات المواطنة، لأنّه عند انطلاق تعددية الممارسة السياسية ما زالت الثقافة العامة لم تدخل المشهد، ثقافة المواطن لم تكن موجودة. المواطن اكتشف الرأي والرأي الآخر من خلال الصحافة التي لعبت دورا كبيرا في تثقيفه في الميدان السياسي، رافقت الصحافة المواطن في اكتشاف حقوقه وحرياته، لهذا في البناء الديمقراطي الذي عرفته الجزائر كان للصحافة فيه الدور الكبير. أقول أنّ دورها أكبر من دور الأحزاب، قد لا نبالغ إذا قلنا أنّها ساهمت في البناء المؤسساتي لكي يعرف ويطلع على الراي العام. @ الكثير يتحدث عن حرية الصحافة ويلصقها بعهد الانفتاح الاعلامي في التسعينيات، ويشطب من المعادلة تجارب خاضتها الصحافة العمومية في حقب مضت من الأحادية السياسية، هل الصورة بهذا الشكل؟ @@من قبل كانت الصحافة العمومية تؤدي وحدها وظيفتها الاعلامية،. كانت فيها محاولات من صحافيين كبار يمتلكون قدرات كبيرة، لديهم قدرة على تمرير آراء مختلفة بطريقة ذكية جدا. كنا نقرأ في بعض الصحف أمثال ''الشعب''، ''المجاهد'' و''الجمهورية'' آراء في مقالات صحافيين تظهر أن لها توجه الأحادية الفكرية لكن تحتوي في مضمونها تحاليل عقلانية وتستعمل المنطق بصفة مدهشة. من جهة أخرى، كان بعض الكاريكاتوريين يتعاطون في وصف حقيقة المجتمع والمؤسسات، نذكر منهم الطيب غرب في ''الجمهورية''، في بدايتها تشبه الرسوم الحديثة للكاريكاتوريين نعرفهم في جرائدنا اليوم، فقد أبدع هؤلاء برسوماتهم في الحديث عن الثورات الصناعية الزراعية والثقافية وكسبوا التمايز من خلال الرؤية النقدية البناءة مساهمين في البناء بطريقتهم الفنية في إعطاء رأي مخالف ونظرة مغايرة. نضال مهّد الأرضية للانفتاح @ معنى هذا أن التعددية الاعلامية لم تكتشف في حقبة التسعينيات،فقد مهّدت لها الأرضية نضالات وتجارب خاضتها الصحافة العمومية، ومن الموضوعية التذكير بها وعدم القفز عليها كأنّ شيئا لم يكن؟ @@ عند التفتح والتعددية أغلب من بادروا بتأسيس صحف خاصة جاؤوا من العمومية، أظهروا قدراتهم، لم ينطلقوا من العدم، كانت لهم تجربة اكتسبوها طيلة العمل بالعناوين الاعلامية العمومية، هم واكبوا حركية أكثر من خلق أشياء وإبداعها. عندما ننظر ألى الظروف التي ولدت فيها الصحافة الخاصة نلاحظ مدى الانفجار في البحث عن الحقيقة، شيء مدهش حقا أن نرى كل هذه الحركية في المشهد الاعلامي. كان الصحافيين كانوا يترصّدون الوضع للانطلاق في هذه الصيرورة والتحول، لما جاءت التعددية خرجت هذه القوى الكامنة إلى الوجود وطفت إلى السطح، هذا دليل على أن الصحف العمومية كانت مدرسة كبيرة لابد من الاعتراف بدورها في تكوين هذا الخزّان الذي ظهر إلى الوجود بمجرد الاعلان عن قرار الانفتاح. @ بعد كل هذا كيف تقيّمون تجربة حرية الصحافة بعد أكثر من عشريتين؟ إلى أيّ مدى كان الثمن كبير في البحث عن الحقيقة ورفض المساومة في الدفاع عن القاعدة المقدّسة: حق المواطن في الاعلام؟ @@ حقيقة أنّ الصحافة في زمن التعددية عاشت ظروفا خطيرة قاهرة دفعت أكبر الثمن بالنسبة لكل الشرائح الاجتماعية، دفعت الصحافة ثمن البحث عن الحقيقة ونشرها في وقت لم تكن لديها الامكانيات، ذلك أنّ حرية الصحافة مرتبطة بالمحيط الاقتصادي والتكنولوجي. نعرف أنّ الظروف التي تكوّنت فيها الصحافة اقتصاديا صعبة وتكنولوجيا ضعيفة، وعلية كانت تجربة أليمة لكن بالمقابل النتائج كانت كبيرة لأنّ مشاركة الصحافة في بقاء الجمهورية معترف به ومدون في التاريخ. كانت الصحافة وسيلة لإيصال صوت الشعب الصامت داخليا وخارجيا، كانت بمثابة الوسيلة التي تركت هذا الصوت مرفوعا دوما رغم تخلي باقي العالم على وضعيتنا. الأصدقاء قلّوا المنتقدون تقوّوا لم يبق سوى نخبة من المثقفين، رجال الأمن بكل الأسلاك والصحافة، حافظ هذا الثالوث على بقاء الجمهورية وبقاء الجزائر. ثمن البحث عن الحقيقة @ في هذا الظرف الحاسم من التحول والاصلاح أي موقع تحتله الصحافة في ترسيخ الممارسة الديمقراطية وتقوية دولة المؤسسات؟ @@ الصحافة لا زال دورها كبير في هذا الظرف بالذات، لم ينكر أحد أن في هذه الأيام تعرف تقريبا شللا مؤسساتيا وانهيارا حزبيا، كل التشكيلات السياسية تتخبّط في مشاكل داخلية، لم تستن من القاعدة الأحزاب الكبرى. وعليه فالقنوات التقليدية التي كان من المفروض أن يمر من خلالها الحوار العام الذي يرافق الاصلاحات قنوات مشلولة، لم يبق لفتح الحوار العام في الساحة العمومية سوى الصحافة، الصحافة نراها يوميا تسيّر الحوار العام حول الاصلاحات ومصير الجزائر. وبالتالي الدور الذي لعبته عندما كانت الجزائر في خطر نتيجة الموجة الارهابية تلعبه اليوم عند مواجهة البلاد ركودا مؤسساتيا. @ هل من وظيفة متميزة للصحافة العمومية في مرافقة الاصلاحات وترقية الخدمة العمومية والاعلام الجواري كل الرهان؟ @@ الصحافة العمومية ما زال لها الدور الكبير في مواكبة التحول ومواجهة التحديات، مازالت لهذه الصحافة مسؤولية كبرى في الظروف الراهنة. الصحافة العمومية لها دور في الاصلاحات التي لم تأت من العدم لكن تتويجا لمسار طويل من التقييم والتقويم للبناء المؤسساتي، رصد المعلومة التي بحوزة الصحافة العمومية مهم للغاية، حتى التحليلات والتفكير في هذه المسائل تجد مادة مخزنة في الصحافة العمومية. أتذكّر دوما وأقول أنّ الصحافة العمومية معترف لها ببعض الوظائف، لكن ننسى وظيفة أساسية لها وظيفة التوثيق، هي مرتبطة بقدم الصحافة العمومية وتجذرها في عمق المجتمع ومواكبتها لكل التطورات التي وقعت في الجزائر. بالنظر لهذه الوظيفة وحدها تبقى الصحافة العمومية في قلب كل التطورات التي تعيشها الجزائر، وانطلاقا من رصيدها التوثيقي الذي تنفرد به يمكن المقارنة بالآراء المختلفة. يحضرني هنا موقف المجلس الدستوري الفرنسي من هذه المسالة بالذات وقراراته سنتي 1984 و1986 التي تعتبر أن تعدد الصحف هدف ذو قيمة دستورية، وأنّ القطاع العمومي أساسي في دول ليبيرالية حيث تذهب الناس إلى الصحافة العمومية عند البحث عن المعلومة الأكيدة. ذاكرة وإنجازات @ 50 سنة من استعادة السيادة الوطنية، نصف قرن من الممارسة الاعلامية، أيّ حصيلة تقدّم عن السلطة الرابعة؟ @@ الصحافة عصب استراتيجية كل بلد ومرآته العاكسة تمرّر عبرها الأهداف والرسائل، فهي السند القوي للسياسات، والصحافة الجزائرية لعبت هذا الدور طيلة مسار نصف قرن من الممارسة. الصحافة العمومية شاركت في بداية الامر في تقوية الدولة الفتية غداة الاستقلال، عرفت بأهداف حكومات المؤسسات الجديدة واهدافها وطبيعتها، كانت تربط بين مجتمع ما زال يعيش غمرة فرحة الاستقلال ومناضلين تحوّلوا إلى مسؤولين وفتحوا ورشات البناء المؤسساتي. تنقلت إلى وظيفة أخرى تروّج للسياسات المنتهجة في السبعينيات، باتت تلعب دورا مهما في الحوار الوطني والنقاش المفتوح حول الميثاق والدستور. فتحت الصحافة أبوابها للآراء ونقلت الحوار في كل أماكن الوطن من مدارس وجامعات معطية له الرواج، أصبحت الجزائر بفضل الصحافة فضاء للحوار الذي انتقل إلى الخارج عندما اشرك الاعلام الوطني الجالية في النقاش. بعد هذه الحقبة انتقلت الصحافة إلى الدفاع عن الوطن في التسعينيات، وظلّت على الدرب سائرة من أجل ترسيخ نوعية تطور المؤسسات في هذه الحقبة. معنى هذا أنّ الصحافة الجزائرية تقاوم دائما ما يهدد أمن واستقرار الوطن، والمثال الحي الاعتداء الارهابي على تيقنتورين الذي قاومته الصحافة بما أتت من قوة، ومقاومتها امتداد لمعارك خاضتها بتحد دفاعا عن الجزائر من تداعيات اضطرابات محيطها الجغرافي السياسي. @ ورشات كثيرة للاصلاحات فتحت بعضها تمت وأخرى متواصلة، منها تعديل الدستور وفتح السمعي البصري كيف السبيل لرفع تحديات الآتي؟ @@ في ظل هذه التحديات الجديدة الصحافة مطالبة بأكثر مهنية لا نها تتجه لمنافسة داخلية وخارجية، لابد على الصحافة أن تطوّر وسائلها وتكون رجالها ومعرفة محيطها القانوني والدستوري والأخلاقي، لأنّ الصحافة عندما كانت فتية في مرحلة التكوين والتأسيس كان غض الطرف عن نقائصها أمر ممكن التحقيق، لكن الآن عند الدخول إلى مرحلة جديدة يكون فيها التأطير الدستوري والقانوني والأخلاقي أقوى ممّا يفرض على الصحافة أن تكون بقضة عندها معرفة واسعة لترسانة القوانين التي تحكمها وتحكم علاقاتها بالمؤسسات الحكومية والمجتمع المدني. تطور الصحافة يبنى أساسا على اقتناء التكنولوجيات الحديثة والتحكم فيها من جهة وتكوين الرجال في مجال التقنيات الصحفية والمجال القانوني والأخلاقي كذلك حتى تكون محقة التمتع بحريتها. مرحلة جديدة وتحديات @ ما هي قراءتكم للورشات المفتوحة في قطاع الاتصال؟ @@ الورشات هي في الواقع استدراك لما هو موجود لدى الدول الأخرى في مختلف جهات المعمورة. الجزائر بدورها تخوض التجربة وهي تسعى لأن تكون لها هذه المؤسسات والآليات لتأطير العمل الصحفي، ومادامت الجزائر في طور وضع هذه المؤسسات عليها استدراك أخطاء نظم الدول الأخرى ربحا للوقت ولتحسين نوعية التأطير القانوني. @ أين تتوقف حرية الصحفي في هذا التحول والصيرورة؟ ما حدودها في هذه الثورة الاعلامية العجيبة والاتجاه نحو العالم الافتراضي؟ @@ حدود الصحفي، حدود ضميره، لأنّ المهني الحقيقي يعرف كيف يكتسب المعلومة بكل شرعية ويمتنع عن المساس بحياة الاخرين الشخصية، هو يحافظ على سرية مصادره، يحترم قوانين المحيط الذي يتحرك فيه، وبالتالي الكل يرتكز على الضمير المهنية ومعرفة وسائل الاعلام وأبعادها. لكن نرى أنه لا يمكن لأي مجتمع أن يعتمد على حيوية الضمير فقط بل ترجمة هذا الاعتماد إلى قوانين مقبولة من كل الأطراف، وإلى أطر إدارية يرضى بها الجميع حتى تسير أمور الصحافة بموضوعية والصالح العام. من الممكن عند وضع هذه الآليات أن تنجر جهة من الجهات لفرض رأيها لكن يقظة الجميع يمنع هذا. @ لم يعد الاعلام يقتصر على وظيفة نقل المعلومة بل يصنع الرأي العام، والدول التي لا تمتلك إعلاما تعرض سيادتها إلى الخطر، حالات كثيرة نشاهدها في عالم القرية الشفاف، أين موقعنا من هذا التحدي؟ @@ الاعلام يصنع القرار ويبحث عن المعلومة واستغلالها بطريقة تسمح المحافظة على المصالح العامة. رهان الاعلامي الآن التسلّح بالمهنية الكبيرة، هو يبحث عن المعلومة، يحلّل، يصنع ويستغل حتى يكون له وزن في المشهد الاعلامي بصفة عامة. إذا تكتفي الصحافة الجزائرية بنقل المعلومة من الغير تصبح آلة ترويج للغير، تنشر وتبث ما يريده، إذا لم نصنع الرسالة ونزوّد أنفسنا بالتكنولوجيا المتطورة نصبح مروّج للآخرين. الرسالة الأولى إذن في هذه المعركة المصيرية والمضمون الأول فيها يكمن في تكوين الرجال ومنحهم الحرية للتحرك وصنع المادة الاعلامية الذاتية. @ كيف هو المستقبل إذن في ظل الثابت والمتغير؟ أي قراءة استقرائية للمشهد الآتي على ضوء اقتحام شباب الميدان الاعلامي والعزيمة على مواصلة الدرب بتحدّ دون استسلام؟ @@ متفائل أنا لإعلامنا، نرى كيف يتعامل شبابنا مع التكنولوجيات الحديثة والتجاوب مع الأحداث عبر شبكات التواصل الاجتماعي. تسيير الوقت والتحكم في التكنولوجيات التي رفع تحديها الشباب أكثر من مرة يتركنا نتفاءل بمستقبل الصحافة في الجزائر التي لها خزان في هذا الشباب الذين هم مطلعين على الأحداث من جهة ومتحكمين في التكنولوجيات الحديثة من جهة أخرى. يبقى فقط ترك هؤلاء الشباب يصنعون الرسالة والخبر المؤمن لاستقلالية القرار والخيار، ولا يكونوا مجرد مروّجين لرسالة الآخرين وما تحمله من تداعيات تؤثر على الخيار وترهن استقلالية القرار الاعلامي.