وصفها البعض بالباخرة الحلم، أثارت اهتمام العاصميين منذ اليوم الأول لتدشينها، قالوا عنها أنها ستسهّل على المسافرين اللحاق بعملهم وأماكن إقامتهم، وستقلص من الزحمة المرورية بالجهة الغربية للعاصمة، صنعت الحدث حتى قبل تدشينها في 4 أوت الماضي، استقطبت الكبير والصغير لاستكشافها والاستمتاع بجولة استثنائية، مسرحها البحر وحدودها السماء وواجهتها الساحل الغربي للعاصمة. استأجرتها المؤسسة الوطنية للنقل البحري للمسافرين من شركة إيطالية، يقودها طاقم ايطالي رفقة مترجم جزائري، ويسهر على أمنها فريق من خفر السواحل. الإقبال الكبير عليها جعل بعض الأصوات تنادي بتعميمها على كامل الواجهة البحرية للعاصمة وباقي الولايات. هي باخرة «القبطان مورغان» تربط بين المحطة البحرية المسمكة بميناء العاصمة إلى غاية ميناء الجميلة بعين البنيان، فضلت «الشعب» القيام برحلة على متنها لمعرفة أدق التفاصيل بعد القيل والقال الذي أعقب تدشينها. انتقلنا إلى محطة المسمكة نقطة انطلاق رحلتنا في يوم غائم على العاصمة، نسمات البحر لا تفارقنا ونحن نقترب منها، ولوجنا داخلها جعلنا نكتشف ديكورا مميزا مع وجود الصيادين وأدواتهم المتناثرة بجانبها. تتوفر المحطة على مكان مخصص للانتظار وشباك لبيع التذاكر، علقت به ملصقات بها كل المعلومات التي يبحث عنها المسافرون فيما يخص الرحلات الأربع اليومية، بعد أن كانت في البداية خمس رحلات. وعلمنا من أحد المنظّمين أنه تم تغيير هذا البرنامج حتى يتمكن طاقم الباخرة من أخذ قسط من الراحة في الزوال وتناول الغداء. مواقيت الانطلاقة من المسمكة على 8:00 و10:45 و14:15 و17:15 ومن ميناء الجميلة على 9:15 و12:15 و15:45 و18:30. لا تزاحم ولا تدافع... الهدوء سمة رحلتي الصباح مشاهد عديدة ارتسمت في مخليتنا قبل الوصول إلى المحطة البحرية المسمكة بميناء الجزائر، منها التدافع والتسابق المحموم بين العائلات والشباب والأطفال من أجل الفوز بتذكرة رحلة «العمر» عبر باخرة «القبطان مورغان»، لكن لدى وصولنا في حدود الساعة 7:30 صباحا وجدنا مشهدا مخالفا. عدد ليس بالكبير اشترى التذاكر ب50 دج ينتظر انطلاق الرحلة وسط أجواء هادئة، ويحرص حوالي 5 من رجال الأمن على تنظيم الأمور. اقتربنا من أحد المسؤولين على المحطة، أخبرنا بأن المسافرين يفضلون الرحلتين الأخيرتين أي ما بعد منتصف النهار حيث تمتلئ المحطة عن آخرها، مضيفا أن الأيام الأولى عرفت إقبالا منقطع النظير وصل حدا جعل الأمور في بعض الأحيان تخرج عن السيطرة، وهذا راجع كما قال إلى لهفة الجميع لركوب الباخرة واكتشافها، مما صعب على المنظمين القيام بعملهم، وكاد شباك بيع التذاكر في بعض الأحيان أن ينتزع من مكانه لولا تدخل أفراد الشرطة. وهنا يتدخل أحد عناصرها ليعبر عن تأسفه لما كتبته إحدى الجرائد الناطقة بالفرنسية، بأن الأمن غائب عن المحطتين، مؤكدا أن مثل هذه الأخبار لا أساس لها من الصحة وأن الأمن حاضر منذ تدشينها، موضحا أنه لولا العمل والمجهود الذي قاموا به لحدثت كوارث في المحطتين بسبب تدافع المسافرين. وعاود مسؤول المحطة الحديث إلينا قائلا «الآن نحن نتعامل مع سياح وليسوا مسافرين، ومع مرور الأيام سيتحول أغلب قاصديها ممن يبحثون عن اختصار الوقت من عين البنيان إلى ميناء الجزائر»، وذكر بأنها توقفت أمس في رحلتي الثانية زوالا والسادسة مساء بسبب سوء الأحوال الجوية، لأن الرياح والأمطار حسبه تشكل خطرا على المسافرين، «فقد أدت إلى إصابة البعض بالغثيان في رحلة الحادية عشر أمس ما جعل طاقم قيادة الباخرة يقرر توقيف الرحلتين الباقيتين». اقتربنا بعدها من بائع التذاكر لنسأله عن عدد المسافرين الذين اقتنوا التذاكر، فأخبرنا بأن العدد وصل تقريبا 200 مسافر من أصل 344 قدرة استيعاب الباخرة. تركنا المسؤول ورجل الأمن وبائع التذاكر يقومون بعملهم واتجهنا نحو بعض المسافرين، أتوا من مناطق مختلفة من العاصمة وخارجها، عبّروا لنا عن مدى تشوقهم لتجريب السفر عبر الباخرة واكتشاف سحر الجهة الغربية للعاصمة، وقالت سيدة أنها تعيش رفقة أبنائها لحظات تاريخية انتظرتها طويلا. الطابق العلوي المكشوف يمتلئ في ثوان بدأ الجميع يصعد الباخرة في هدوء، ويقوم ثلاثة من أفراد طاقم الباخرة الإيطاليين بالتحقق من تذاكر المسافرين، ونحن على أهبة الصعود إلى الباخرة نقل لنا المترجم خبرا غريبا وعجيبا بأن خفر السواحل الذين يسهرون على أمن الباخرة قرّروا منع تواجد الصحفيين بالباخرة، ونصحنا بعدم التصريح بهويتنا عند اقترابهم منا، دون أن يوضح لنا السبب الحقيقي الذي جعلهم يتّخذون مثل هذا القرار. بمجرد امتطاء الباخرة يقابلك باب الدخول للطابق السفلي، وسلم يصعد منه الذين يرغبون بالجلوس في الأماكن المكشوفة الموجودة أعلى الباخرة، أردنا الصعود فوجدنا حبلا وضع في السلم، سألنا أحد الايطاليين فأخبرنا أن المكان الأعلى امتلأ عن آخره في ثوان والحبل وضع لمنع صعود مسافرين إضافيين حتى لا يحدث ازدحام قد يؤثر على انطلاقة الباخرة. دخلنا الطابق السفلي من الباخرة وجدناه تقريبا خاليا على عروشه من المسافرين، والمتواجدون به لا يتجاوزون عدد أصابع اليد رغم شساعة المكان. هذا العزوف عن الجلوس في الأسفل سببه تفضيل أغلب المسافرين البقاء في الأعلى لانتهاز الفرصة من أجل بلوغ المنصة المكشوفة، لأخذ الصور ورؤية الساحل بشكل أفضل. في حدود الثامنة وعشر دقائق بدأت الباخرة في فك ارتباطها باليابسة استعدادا للانطلاق، استمرت العملية ببطء حوالي 5 دقائق تتمايل يمينا شمالا، ثم انطلقت بسرعة يصاحبها صوت مدوي مع موجات تتعالى من الجهة الأمامية والخلفية وطيور تتبع الباخرة. هنا وقف الكل في الخارج لأخذ صور للذكرى وتدخل أفراد الطاقم لطلب الابتعاد عن جانبي الباخرة، ليتعالى بكاء أطفال وصوت أم تنادي أبنائها خوفا عليهم. ملصاقات باللغة الإيطالية تتوفر الباخرة على كل الإمكانيات والظروف الملائمة للقيام برحلة هادئة وممتعة، رغم أنها صنعت في 2004 كما ذكر لنا أحد أفراد طاقم القيادة، فماعدا النوافذ الزجاجية التي لا تسمح برؤية ماهو خارج الباخرة بشكل جيد، يوجد جهاز تلفاز ومرحاض وصناديق للنفايات وكافيتيريا تقدم قهوة «لافازا» ب 40 دج، ماء معدني ب50 دج، حمود ب60 دج، عصير رامي ب60 دج، بسكويت أطفال ب50 دج، كانيطا ب70 دج، مادلين ب40 دج، رويبة ب50 دج، عُلقت أسعارها باللغة الفرنسية، لكن باقي الملصقات والإشارات والصور مكتوبة بالايطالية، كما توجد صور خرائط لبعض الجزر الإيطالية ومختلف البيانات التقنية عن الباخرة وملصقة إشهارية لمتعامل ايطالي للهاتف النقال، ورفع علم إيطاليا في الجهة الأمامية إلى جانب علم البحرية الوطنية والعلم الوطني في الأعلى. ونحن نهم بالجلوس في الطابق السفلي فإذا بصوت شاب يعلو من الجهة اليسرى يعبّر عن تذمره من عدم السماح له بالصعود إلى الجهة المكشوفة، يصرخ ويقول «فضلت التنقل عبر الباخرة من أجل الاستمتاع بالرحلة في الجهة المكشوفة وليس للبقاء أسفلا. التنقل عبر حافلة نقل حضري أفضل لي»، وآخر يقف أمام إيطالي وهو يغني «لاشنتيمي كانتاري». ما شدّ انتباهنا ونحن نتجوّل داخل الباخرة هو لهفة جميع المسافرين لأخذ الصور في كل جزء من الباخرة، حتى السلالم كان لها نصيب من التصوير، وهناك من لم يقتنع بذلك حيث راحت امرأة تفتح باب حجرة القيادة تطلب فيها من الربان أخذ صورة معها ومع أبنائها فلبّى طلبها، لكنه اضطر فيما بعد لغلق حجرته بعد ازدياد عدد المسافرين الذين يرغبون أخذ الصور داخلها، وكانت الحيرة بادية على الإيطاليين وهم يشاهدون حشدا من الأطفال والشباب والعائلات تتدافع لدخول حجرة القيادة. الملاحظ أيضا أن أغلب من هم بالباخرة أطفال، من بينهم أطفال جاؤوا من بلدية النخلة بولاية الوادي، يقضون عطلتهم الصيفية في مخيم ببلدية الكرمة ببومرداس، اقتربنا من مدير المخيم عبد القادر مسعي أحمد، الذي كان منهمكا في توجيه الأطفال، أخبرنا أنهم ببومرداس منذ 11 أوت، عددهم 60 طفلا، استغلوا فرصة تواجدهم بالعاصمة لاكتشاف الباخرة وسحر الجهة الغربية، مشيرا إلى أن الأطفال استحسنوا هذه المبادرة التي وصفوها بالتاريخية، لأن ركوب باخرة بحرية بالنسبة لهم كان حلما وهو اليوم يتحقق، وذكر أن هناك حافلة تنتظرهم بمحطة الجميلة للتنقل إلى مركب التسلية ببن عكنون . المترجم ياسين بن قمريط وسيط بين الإيطاليين والمسافرين ولأن الباخرة إيطالية يقودها طاقم إيطالي، كان لزاما إحضار مترجم وسيط بين المسافرين والطاقم، فوقع الاختيار على شاب جزائري إسمه ياسين بن قمريط، درس بجامعة بيسكارا في إيطاليا، وتخرج منها منذ تقريبا 4 سنوات. تدشين الباخرة كان فرصة له للخروج من عالم البطالة، وجدناه جالسا أمام كافتيريا الباخرة ينتظر طلبات المسافرين، فهو بالإضافة إلى كونه مترجما يعمل أيضا في الكافيتيريا، سألناه عن ظروف العمل فأجابنا بأنها ممتعة رغم التعب الذي ينال منه طيلة اليوم، بالإضافة إلى هذا أكّد لنا أنه عانى كباقي طاقم الباخرة من التدافع الكبير للمسافرين، وأخبرنا بأن الايطاليين أعجبوا بالعاصمة التي شبّهوها بالمدن الإيطالية، وبمرح وكرم سكّانها، لكنهم لاحظوا أن بعضهم فوضويين. وفيما يخصّ الكافيتيريا، قال أن الطلبات تكون معظمها في رحلتي بعد الزوال. ونحن نتحدّث مع المترجم شعرنا بأن الباخرة بدأت تتباطأ نوعا ما، ليهرول الجميع نحو الخارج لاستغلال الأوقات المتبقية من الرحلة، بعد أن شرعت في الاقتراب من ميناء الجميلة، فحدث ازدحام كبير، وكاد أن يحول دون وصول بعض من طاقم الباخرة إلى الجهة الأمامية تحضيرا لنزول المسافرين. وصلت الباخرة في حدود التاسعة صباحا، بدأ الجميع ينزل في هدوء لكن بنظرات تشعرك أن متعتهم لم تكتمل، أو أنهم نسوا شيئا داخلها، وعلى جنبات محطة الجميلة مسافرين ينتظرون لحظة الصعود، مع وجود فضوليين يلتقطون صور للباخرة وهي ترسو بالميناء. وجدنا داخل محطة الميناء الترفيهي عددا لا بأس به من أشخاص جاؤوا ليسألوا عن توقيت الرحلات، وشاهدنا مسافرين كانوا معنا في الرحلة يشترون تذاكر العودة للاستمتاع أكثر وإشباع فضولهم. البحر من ورائنا وميناء الجميلة نهاية وجهتنا الرحلة عبر باخرة «القبطان مورغان» لم تكن مألوفة، تلمّسنا خلالها شعورا عجيبا لدى من رافقونا في صباح غائم، تَنَّسّموا روائح البحر العليلة، ولمحوا بريق جمال العاصمة المشع، ترسمت لديهم صور أصوات الموجات وتمايلاتها، مليئة بالشوق والحنين إلى البحر زادتهم ارتباطا به، لسان حالهم يقول البحر من ورائنا وميناء الجميلة نهاية وجهتنا. جمال الباخرة وحسنها لا يمنعنا من القول أنها ليست بالفخمة كما كنا نظنّها، فهي أكثر من عادية، السلوكيات الغريبة لبعض المسافرين الذين رافقونا فاجأتنا وفاجأت حتى الايطاليين، لكن عندما يعرف السبب يبطل العجب، فهي مبادرة أولى في الجزائر انتظروها مدة طويلة، وفترة استغلالها التي ستنتهي في 7 سبتمبر القادم قصيرة جدا، على أمل أن تعمم المبادرة على ولايات أخرى، ولم لا بكوادر جزائرية.