أجد إيناسي في سماع صوت المرأة الحرة بتموّجات صوت الشّاعرة سليمة مليزي، التي ترفض العبودية والعنف المادي والرمزي الذي يمارس ضد المرأة، فهي لا تحب لعبة المناورات والخداع وصنوف اللعب والأخابيث، ولا تستسيغ معاملة المرأة كأداة لاستحصال اللذة والنظر إليها من منظور ضيّق ألا وهو إرواء الشّهوات للرجل وتربية الذراري والقيام بالأشغال المنزلية فقط، مع استصغار مؤذ لعقلها وروحها وموهبتها، والتعامل معها من زاوية طلب اللذة وبحب يحركه الباه بطريقة متعسفة والرغبة الجامحة في التفوق والاستعلاء عليها بضروب من الشر والنقص والظنون الفاسدة، في علاقة تحركها الأهواء المتناشزة في العقول المتكلسة التي تعربد برؤوس الرعاع والسفهاء والجهلاء، وبمنأى عن قسطاس الحكمة والتبصر والقيم الآدمية السوية. بحس عال بالكرامة تنبّه الشّاعرة سليمة مليزي أهل الباطل وجهابذة الجهل والأجناس الخشنة من الرجال الذين يغلفون الباطل بغلاف إنساني، أنّ المرأة حرّة لابد من احترامها والنظر إليها من زاوية عقلية وروحية وإنسانية، وعدم اختصار شخصيتها في بُعد واحد، ولقد أشارت الدكتورة لطيفة الزيات أنّ: «الإنسان مجموعة ملكات عقلية ووجدانية وحسية، وأي اختلال في إشباع جانب يصاحبه نوع من الإحباط، وكلما كان الإشباع كان التوازن». وعلى سياق متصل أومأت في غير مرة، أنه في زماننا يجنح الناس صوب المحسوسات واللّذائذ والمصالح الضيقة والجشع الفاحش ويهملون العالم الداخلي للإنسان، فتصاب كثرة كاثرة من الناس بالخواء الروحي فيغفلون اللياقة في التعامل مع الكائن الأنيق « المرأة»، حيث تشوب علاقتهم بالمرأة بمسحة سلبية، ويتميزون بالبرود العاطفي وخشونة في العلاقات الإنسانية، أو على حد تعبير عالم النفس الأمريكي دانييل جولمان: «تنقصهم المهارة الأساسية للذكاء العاطفي، نجدهم صمّاً بكماً عاطفياً، وهذا الفشل في تسجيل مشاعر الآخر هو أكبر نقطة ضعف في الذكاء العاطفي، بل هو فشل مأساوي في معنى إنسانية الإنسان». صدقت الشّاعرة سليمة مليزي بنبرة حارة وصوت عذب وبأسلوب راقٍ في التعبير بجمال الصورة وبلاغة الإيجاز، وجزالة وفخامة القول وبصورة شعرية متأنّقة حين قالت في قصيدتها «جموح الحرية»: دع جسدي يركض كالفرس حراً في مداه كاسراً أضلاع القفص كاسراً قيد خوفك قيد الحرس، قيد العسس، قيد الوجس حرّاً في علاه جسدي ليس حكايات أو شوارد من قصص ليس عرشاً يملك بالسيف ليس حرثاً مشاعاً للغصص لست نزوة ليلية لست إسفنج غسيل إنّني حريتي مهما يكن طال الزمن أو عز الثمن سألقي بين القيود سبيل دع جسدي حياً في مناه أنا، حريتي حياتي وإلاّ ما معنى الحياة؟ ولست بحاجة للقول، أنّ المبدعة سليمة مليزي موهوبة حتى أطراف أصابعها، فهي شاعرة وصحفية وقاصة ومذيعة تركت أصداء صوتها وآثار أقدامها شاخصة في الساحة الأدبية والثقافية في تجربة متميزة. فبرنامج قراءات للأديبة سليمة مليزي الذي بثّته إذاعة الاتحاد العالمي للثقافة والأدب، ثري وحافل باللمعات الإبداعية والصور الخلابة والموسيقى العذبة والصوت النّاعم السلس، يطير بنا في فضاء أليق عابق بالمسحة الرومانسية والمهارة والجمال، ويجوب بنا في دروب الشعر والآهات الكظيمة والصلوات الصامتة، والإيقاعات الساحرة والتعابير الباهرة الممزوجة بالمسرات والأحزان والتشامخ والتألق والذكريات وزفرات العاشقين وهتاف روحي مرهف وإيماءات فسيولوجيا الصوت الفخم برنينه الأنيق المشحون بالطاقة الشعرية واللذة الجمالية والفنية، ملفوفاً بالدفء والحيوية ومتعة التلذذ بالحزن والشعر والغناء، والمد والجزر العاطفي والمفاكهة والمباسمة في أدب اللسان ودقات أنباض الحياة. الشّاعرة سليمة مليزي غاية في الرقة والذوق، تحتل مكانة شماء في عروش القلوب ومترعة برائحة الحب والحنين، تمنحنا جرعات مكثّفة من العاطفة وتنشر المودة والفرح في تجربة شعرية خصبة بحس رقيق ومهذب، وتطلق صرخات هادئة في شعرها في غاية الشجاعة والعفة، وبتنميقات أسلوبية جميلة وبتموجات صوتية لطيفة تتدفق منها البساطة وعذوبة الانسياب، بهندام شعري أنيق وبكلمات ناعمة تلامس الروح وتعابث أوتار القلب. في شعرها ترمي سليمة مليزي بأسئلتها في الفضاء العمومي، وتنثر أحلامها وأشواقها وتقتحم المسالك العصية وتقتل الأرواح الشريرة، وتدمّر النّفوس المريضة وتحفر في المناطق الغويرة في اللاّوعي، فالشعر على حد تعبير الشاّعر أدونيس: «طاقة تدفع الإنسان إلى أبعد ممّا هو، إلى أعلى مما هو، إلى تجاوز نفسه باستمرار». فشعر سليمة مليزي يتجاوز قوة الألم والغربة، ورعشة الخوف وسدف الظّلام، وبخيالها وقلمها الأنيس الممشوق تركض في مروج وسهول وغابات الشعر ترسم الذكريات والقصص، وتبني القصور والسقوف المرصعة والقبب المزركشة، وترفرف كفراشة في الفضاء وتسكن جنات الحب والجمال: حين ترسم ذكرياتي قصصك الحميمة تنثر عشقك على جسدي.. وأبني لك قصراً من سلسبيل.. في روحي.. وترانيم صوتك تطربني.. تحرقني.. تقتلني.. ترميني بين خفايا العشق.. أجدك تغفو على صدري.. وأحكي لك قصص ألف ليلة وليلة.. أزرع على جسدك عطر أميرة (إزبال أردن) أسكنك فيافي شعر نزار أنثر أزهار قلبي على وجنتيك.. وأمطرك قبلاتي حتى الثمل.. كطفل يحنّ إلى لعبة الصغار.. يعدو فوق حدائق قلبي ويقطف ثمار الروح.. ويسكنني جنّات الخلد..