الجاحظية بالنسبة إلى معظم الأدباء وعشاق الحرف الذين زاروها وجلسوا في ناديها وتناولوا شايها الخفيف... هي فاصل تاريخي جد مهم من الزمن الجميل الذي احتضن كل أنواع الفنون في فترة كان المجتمع برمته وكذا مؤسسات الدولة منشغلة بالرد على الدمويين... زمن التسعينيات وسقية زايدي وعياش يحياوي وبشير مفتي واحميدة العياشي وعلي ملاحي وعبد الوهاب حقي رحمه الله ونصيرة محمدي ورشيدة خوازم ورابح خيدوسي وطلال ضيف... جميعنا كنا نلتقي مساءً في هذا الركن الجميل نتبادل الآراء والخبرات الكتابية... لكن ما من أحد كان ينتظر أن يتشتت هذا الجمع الكريم ويعود أدراج بيته... بعد فاصل آخر وكأنه بالمقصود (لكنه في الأصل هو الحتمية الواقعية التي لا مفر منها)، مثلها مثل حقيقة الموت التي تذوق منها جميع الأنفس... افرنقع الكل بقدرة قادر وكأن بهم كانوا في رحلة من تجريب الألم والفردوس المفقود... بعد أن عاشوا حقيقة العطاء والأنتلجيسيا والبحث عن كل جديد مما تنتجه قرائح الآخرين كتابيا وفنيا... لم نشعر يومها بأننا في رحلة فضائية مكوكية على متن سفينة صوب كوكب مجهول... ولكن كنا نهرب لهذا الدكان الجميل وكل واحد منا يحمل روحا وتوقانا، بل صوفية أشبه بصوفية الجاحظ والحلاج أو غيره من فلاسفة الفكر والتجديد... لا نعلم صراحة هل كان يومها الجميع يضحك عنا... (لم نكن نشعر بأهمية السؤال) لكن لا يهم... ما يهمنا أنه كان فضاءً يضم الشق الثاني من نفسياتنا المتطلعة لغد مزدهر بالكلمة والنغم... ولم نكن نبالي أو نضع حسابات الخارج بكل ما يحمله من شقاء وبؤس... كنا إن لم نرتو بالشعر نلتجئ نحو صالة البيانو نشرب من سمفونيات القرون الذهبية للموسيقى الكلاسيكية وروائع الإخوة الرحباني بحنجرة فيروز. وكان الطاهر وطار، رحمه الله، يدعونا للكتابة في مولود جيد إسمه التبيين... والقصيدة... ومجلة القصة... كان هذا وغيره كان يحدث فعلا بمحض الصدفة وتم الانخراط فيه هكذا على السليقة؟ا وكانت مرحلة أشبه بمرحلة التأسيس لعدد من الأشياء... التي ولدت بفضل تطوع الجميع لا لشيء سوى أن الروح النضالية كانت متوفرة... كان واحدا مثل الطاهر وطار يتفقد من حين لآخر أحوال هذه الشلة التي لم يكتب لها التواصل. إلى درجة أنه في يوم من الأيام جلب لنا تذاكر كاملة لرحلة نحو عاصمة الجنوب غرداية كي نشارك جماعيا في مهرجان مفدي زكريا ونقف على قبر هذا الشاعر العظيمو في بني يزقنو ونتبرك بإكراميات أهل ميزاب ونحظى بعزومة خاصة من جماعة العزابة... هذا وكثير من المحطات الجميلة غابت في لمحة بصر وكأنها خيال على خيال... لم يكتب لها الإستمرارية لشيء واحد فقط وهو أن عمر التطوع قصير... فكان ولابد أن تأتي لحظة الحقيقة وهي أن الاستمرار في الإبداع والصمود في وجه كل الاهتزازات يتطلب إمكانات ضخمة وأموالا ومؤسسة قائمة بذاتها وعلاقات دبلوماسية مع كل أرباب المال... لكن جميعنا كان يملك الأفكار والرؤى فقط... ولم نكن نتدخل في تسيير هذه الجمعية إداريا... إذن، هي مرحلة حاسمة ومن المؤكد أن عودتها مستحيلة... لأن الحماسة هذه بقيادة وطار لم تلق الرعاية الكاملة والتأسيس من طرف جهات لا تريد للفعل الثقافي أن يكون هو السيد وأن تكون النخبة المثقفة دائما في الطليعة وهي الرائدة... بل أطلق العنان لمتعطشي اللغو السياسي...ورُدم صوت المثقف حيا حتى لا يكون له شأن في إعلاء رايات التغيير... الجاحظية حسبي فرصة لا تعوض في التاريخ الثقافي الجزائري... والأكيد أن هناك العشرات من أمثال الطاهر وطار في هذا الوطن العزيز الشاسع، لكن الخوف من النهايات المأسوية لازال يتملكهم... وعدم وجود ضمانات لسيرورة حركيتهم بات هو الحقيقة الدامغة التي يحملونها في رؤوسهم؟! فراحوا يتحركون حسب مقدراتهم وقيمة ما يملكونه في جيوبهم. شاعر وصحفي جزائري عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.