ما تزال أبواب الجمعية الثقافية ''الجاحظية'' مفتوحة للجميع، تدخلها بسهولة، ويمكن أن ترتشف شايا ساخنا أيضا· ملامح الهدوء ما زالت تسود المكان، لكن الجمعية بانت عليها ملامح الشيخوخة، حتى لم يعد روادها يصغون جيدا للمحاضرات، بقدر ما يفضّلون جلسات الثرثرة· زرنا الجاحظية لتغطية نشاط ثقافي، إلا أننا خرجنا خاليي الوفاض، نجر خيبة وتعاسة وتخوف صاحبها المبدع طاهر وطار قبل رحيله، من مصير مشروعه الحلم · كانت أبواب الجمعية الثقافية الجاحظية مقفلة، شفاف زجاجها رغم غبار الأيام، كالعادة لم أحتج إلى جهد كبير لولوجها، يكفي دفعة خفيفة للباب لتجد نفسك في قلب المكان· الموعد كان ظهيرة يوم الثلاثاء 3 جانفي ,2012 السبب محاضرة للأستاذ نور الدين عزوق، حول العنف المدرسي في المنظومة التربوية الجزائرية· في البداية، لم أتشجع على الحضور، فأنا لم أزر الجاحظية منذ فقدت ''زعيمها''· رغم أن الراحل طاهر وطار، كان يدعو في أيامه الأخيرة إلى التواصل والمواصلة، وكان يحرص على أن تبقى الجاحظية ملكا للمجموعة التي تشكل مكتبها الوطني وباقي المنخرطين في خطها النضالي ''لا إكراه في الرأي''· كانت القاعة مليئة بالحضور، ما يبعث المسرة في قلب أي محاضر يتصدر الجلسة· اتخذت لنفسي مجلسا وسطا، أسيطر فيه على المنصة، وأحيط بما يدور في الصفوف الأمامية والخلفية معا· رغم أن المكان يبدو ''استراتيجيا''، إلا أن اختياري كان فكرة سيئة جدا· وجدت نفسي بين مجموعة من المتحدثين في كل شيء وعن أي شيء، نساء وشيوخ، أداروا ظهرهم للمحاضر، وشوشتهم تثير الانتباه رغما عنك، تبدو عليهم علامات الراحة والاسترخاء، لهذا لا يبالون بضحكاتهم التي عجز مدير الندوة عن إيقافها· في غمرة الهمز واللمز المحيط بي، فقدت التركيز على ما كان يقال حول موضوع العنف المدرسي· تداول على الميكروفون بعض الحضور المنضبطين، لكن صوتهم لم يرسو في إذن أحد ممن أحاطوا بي· بعد أن نجحت إحدى الحاضرات في استفزاز أحدهم، حاصدة منه غضبا وأسفا (حمل متاعه وغادر القاعة)· تقرر تلك المرأة أن تقص لصديقها الجالس بجانبها، وهو شبه مستلق على كرسيه، سبب الخلاف بينها وبين ذلك الرجل· يضحكان، يرتشفان شاي عمي السعيد · بينهما طفلة جميلة شقية، تتجول بين الصفوف، تعلق على هذا وتضحك على ذاك، تقترح بصوت عالٍ أن يجيد المتحدثون استعمال الميكروفون· في الظاهر أعجبني حضورها في الجاحظية، فالانخراط في الحركة الجمعوية يبدأ في مثل هذه السن، وتعلم الإصغاء والانتباه· لكن الجاحظية لم تكن المكان المناسب لتلك الطفلة، فهي لم تستوعب شيئا مما قيل، وفضلت تعويض ضجر أحاديث الكبار، بجمع أكواب الشاي الفارغة· ملامح الملتقى الدولي للأديب طاهر وطار، احتلت المكان، ملصقات كتب عليها ''المثقف الحاضر''، وصورة صاحب ''اللاز'' كبيرة تحتل المكان· عيناه ترقبان الحياة من بعد رحيله· هل كان الروائي والرئيس الراحل، يرضى بتحول مقر جمعيته إلى ملتقى للمتقاعدين والمهمشين وللبطالين، يدخلونها لتمضية الوقت لا غير، لا ينتجون إبداعا ولا علما ولا أدبا ولا تأدبا أيضا· ليس العيب في تفرغ المتقاعدين للعمل الجمعوي، بل هو السلوك الأفضل لأي عامل يرفض الانقطاع عن ركب النشاط اليومي، بل هو فضيلة يمتاز بها المثقفون الكبار المتفرغين للإبداع والتفكير والقراءة، شريطة أن يكون هذا المتقاعد سليما ومعافى في عقله وتفكيره · شعرت لوهلة بأن الرطوبة التي أكلت الفضاء، توغلت في عقول بعض الحضور، هؤلاء الذين كانوا في حياة وطار، يلتزمون الصمت والسكون، وهو يحوم بين الصفوف حاملا كاميرته الصغيرة يصور المناسبة· واليوم يقدم الوافدون إلى مقر شارع رضا حوحو، صورة خائبة عن الجاحظية، مشهدا تعيسا، هرما، اشتعل شيبا، بائسا، ضالا يبحث عن طاقات متجددة، تعيد له البهجة وتدخل إلى أرجائه كثير من الشمس ودفئها المفقود· تساءلت لماذا تجلب الجاحظية وحدها هذه الفئة من الجزائريين؟ أين هي الطاقة الشبابية التي كان الراحل يتحدث عنها في تصريحاته، وهل يمكن أن نعوّل على جمعية هرمة، قد ينعكس وضعها على تفكيرها ونظرتها· محمد بغداد (كاتب وعضو بالمكتب الوطني): مشكلة الجاحظية اليوم تكمن في استراتيجية التدمير الذاتي الجاحظية منذ وجدت، كانت حلم أكثر من كونها مشروع، قامت عند التقاء ثلة من المثقفين للاستجابة لظروف معينة، سرعان ما زالت مبررات تلك الظروف، ولكن مع مرور الأيام اعتمدت على إرادة مؤسسها المرحوم الأديب الطاهر وطار، الذي جعلها شغله الشاعر وهمه الأكبر· وقد تمكنت بإصراره وعزيمته الفولاذية على تجاوز الكثير من العراقيل والصعوبات، وبالرغم مما قدم لها وطار من جهده وماله، تمكنت الجاحظية من التحوّل إلى موقع لالتقاء العديد من الأسماء التي شقت طريقها انطلاقا من الجمعية· إلا أن الجاحظية وقعت مرتين في فخ كبير، اسمه غياب مفهوم المجتمع المدني في الجزائر، وانعدام إستراتيجية ثقافية واضحة المعالم، سواء داخل المجتمع المدني نفسه أو عند السلطة القائمة، مما جعلها تتحوّل بمرور الأيام إلى ممارسة التنشيط الثقافي، وعجزت عن إنتاج الفعل الثقافي، مثلها مثل كل الجمعيات الثقافية، وانتهت إلى الانضواء تحت جلباب زعيمها التي استمدت منه شرعيتها، ومبررات وجودها، فارتبطت به والتصق بها· وبعد رحيل الطاهر وطار وجدت الجاحظية نفسها في مواجهة المصير المؤلم، وبالذات عندما تصور البعض أن الجمعية هي غنيمة يمكن الاستيلاء عليها، والاستفادة من ريعها، دون أن يمتلكون أدنى إرادة أو موهبة في فهم تاريخ ومكانة الجمعية، زيادة على انعدام روح المبادرة والموهبة الثقافية، والأهم من ذلك غياب الرؤية والاستراتيجية الثقافية التي يمكن أن تسير عليها الجاحظية، ولهذا وجدنا أن المؤتمر الأول بعد وطار ينظم دون برنامج، وفيه تمت عمليات اغتيال حقيقي للجمعية بفضل سلوكات الرعاع وإرادة التدمير المنظم لكل الإنجازات· والنتيجة البسيطة الفضيحة الكبرى التي وقعت فيها القيادة الجديدة، عندما أساءت إلى الطاهر وطار بفشلها غير المبرر في تنظيم مجرد ملتقى بسيط· إن مشكلة الجاحظية، اليوم، تكمن في استراتيجية التدمير الذاتي التي تمارس ضدها، والمنطلقة من الداخل لتكون نتيجتها القضاء المبرم على هذا الحلم، الذي طالما أعجب وتمنى نجاحه الجيل الجديد من المثقفين والمبدعين، في إطار العمليات الممارسة في الساحة الثقافية، التي تتجه إلى تكريس هيمنة النخب المغشوشة الحاملة للواء الرداءة والتخلف، في زمن تتسلح الشعوب والأمم بالأجيال الجديدة، وأقل مثال ما يدور في العالم العربي، فكل الناس تتجدد وتتطور وتستثمر في الأذكياء والمبدعين، ونحن فقط يتصدرنا كل من تجاوزه التاريخ وعف عن مرافقته الزمن· إن تدمير الجاحظية اليوم هو النموذج الأكبر، على بؤس النخب المغشوشة وممارستها في الساحة الثقافية، وللأسف لم يظهر بعد الصوت الرشيد، الذي يوقظنا من الكارثة القادمة، التي ستزيل كل ما تم تحقيقه في الأيام الماضية· الكاتب عبد الرزاق بوكبة: أنا بعيد عن الجاحظية لأنني وعدت وطار بذلك أذكر أنني عندما التحقت بالعاصمة قبل عشر سنوات، كنت أنا والكاتب الخير شوار نجعل من مقر الجاحظية معلما لنا، فنقول مثلا: ''أنا بعيد عن الجاحظية حوالي كذا متر''، كنت والراحل وطار صديقين حتى النخاع، كان كل صباح يكلمني ''وينك، الشاي ينتظر''، ثم فجأة انقطعت العلاقة تماما بسبب أنني نشرت بيانا أعلنت فيه انسحابي من بيانه الذي رفعه إلى رئيس الجمهورية الحالي يطالبه فيه بمزيد من الاهتمام باللغة العربية، وكان بالموازاة جماعة من المثقفين يحضرون لبيان يرفعونه بمناسبة زيارة شيراك للجزائر يطالبونه فيه بإنصاف الذاكرة، أتوا إلى وطار ليطلبوا منه أن ينضم إلى مسعاهم، فقال لهم ''أنا لا أستطيع، لا مانع لديّ في أن تضموا الأسماء التي أمضت معي''، فانسحبت من بيانه لأنني اعتبرت ذلك بيعا لنا دون استشارتنا، لم ينسها لي أبدا، بعد ستة أشهر، ذهبت إليه في عيد الفطر لأسلم عليه، فقال لي بصريح العبارة ''لا تحضر حتى جنازتي، ولا تدخل الجاحظية حتى بعد موتي''، نظرت إليه ثم قلت ''أعدك بذلك''، وهذا الذي كان، لذلك فأنا لست على إطلاع كافٍ بأحوال الجاحظية اليوم· الشاعر عبد الله الهامل: وطار استعان بجيل العجائز ربما كان ذلك بسبب أن عمي الطاهر كان أيضا متقاعدا·· رغم أنه في البداية راهن على الشباب الذين بدأوا معه في الجاحظية، على غرار بختي بن عودة وعمار مرياش ونجيب أنزار وعادل صياد وحسان خروبي· الذي حدث بعد ذلك، أن هذا الشباب انتفض من حول عمي الطاهر، لأنه كان هناك مشكل في العقلية· وكان شائعا وقتها مفهوم قتل الأب، وكان عمي الطاهر واحدا من هؤلاء الآباء الذين وجب قتلهم، فاستعان عمي الطاهر بعبد الرحمان عزوق ومحمد تين وآخرون من العجائز، لأنهم من جيل واحد وسهل التفاهم معهم· ثم إن عمي الطاهر بقي رئيسا للجاحظية مدى الحياة· وأذكر وقتها أن مقهى الجاحظية، كان ملاذا لنا، لأننا لم نكن نجد مكانا نجلس فيه· جمعية ''الاختلاف'' بدأ التفكير فيها داخل الجاحظية، وكان معظم مؤسسيها من المقربين لعمي الطاهر، فجاءت الفكرة كنوع من القتل الرمزي لهذا الأب الطاهر وطار على المستوى الشخصي، وعلى مستوى تسييره للجمعية كان وجها آخر للسلطة السياسية، وكان دبلوماسيا وذكيا، ويعرف كيف يعامل الناس حتى أني كنت أرى فيه موهبة خارقة للعادة في قراءة ما يدور في رؤوس الناس بمجرد ما يلقون عليه التحية·· في النهاية الجاحظية انتهت بموت وطار·· فهو كان روحها التي تتحرك بها·