محمد أرزقي فراد ferradrezki@yahoo.fr بنو مصرا، تذكروا جيدا هذا الاسم، إنه جزء من ذاكرة الشهداء والمجاهدين، إنه الأوراس الثاني في نظر أهله الأحرار الذين مازالوا يتذكرون أسماء القادة الكثيرين كانوا ينشطون في عرشهم، أعمر أوعمران (بوقرو)، عبان رمضان والعربي بن مهيدي ودهيلس صادق وعمر أوصديق، وسليماني القبائلي المدعو (الصعقة)، مريم بن ميهوب وفضيلة مسلي وفضيلة بسي وصفية بعزي والرائد عزالدين ومصطفى بن اعمر وبشير رويس والشهيد عمارة رشيد والقائمة طويلة. فهل حافظنا على ذاكرة الشهداء مثلما أوصانا الشهيد ديدوش مراد؟ الجواب بالنسبة لأهل بني مصرا مع الأسف بالسلب. دعيت للمشاركة في الذكرى الخمسين لمعركة (سباغنية) التي استشهد فيها حوالي 28 شهيدا من بينهم طفلة ومعظمهم من شباب العاصمة الذين التحقوا بصفوف الثورة، وكانوا تحت إمرة الشهيد أحمد الطيب المدعو سي زوبير. وبقدر اعتزازي بوجودي إلى جنب المواطنين البسطاء الذين تجشموا مشاق الحضور رغم قلة وسائل النقل ورداءة الأحوال الجوية وكأن الطبيعة قد بكت على مصير أهل مصرا المنسيين فإنني تألمت كثيرا لغياب السلطات الولائية والوطنية، ولما أصاب مقبرة الشهداء من خراب على أيدي الإرهابيين ولتقاعس المسؤولين عن ترميمها، فهل يفسر ذلك الغياب بإدراك ممثلي الدولة لمدى تقصيرهم في حق أهل المنطقة فعزفوا عن الحضور لتفادي مواجهة الواقع المر؟. ومهما يكن من أمر، فقد زاد ذلك جراح المصراويين تورما، كيف لا والكثير منهم مازالوا محشورين في أكواخ المحتشد الذي أقامه الفرنسيون في المكان المسمى »مقطع الأزرق« في إطار سياسة عزل الثورة عن الشعب بعد أن تحولت أراضي عرش بني مصرا إلى منطقة محرمة منذ سنة 1956. ومن سخرية الأقدار أنهم لا يملكون حتى وثائق الملكية لهذه الأكواخ التي تمكنهم من إعادة بنائها وفق مقاييس العمران، كما أن الرجوع إلى أراضيهم لم يعد ممكنا بعد أن صارت من جديد منطقة محرمة، لكن هذه المرة من طرف ممثلي الدولة الجزائرية رغم التحسن الملحوظ للظروف الأمنية، هكذا صارت قرية »يما حليمة« أثرا بعد عين تسكنها الأشباح. ومازالت مأساة أهل عرش بني مصرا كتابا مفتوحا يزداد تفاقما وتورما دون أن تلوح نهاية النفق في الأفق، إن أقل ما يمكن أن يوصف به هذا »المحتشد« أنه وصمة عار في جبين الدولة الجزائرية وقد علق أحد المواطنين الذي بدت عليه مسحة الحزن والمرارة على وضع المصراويين المأساوي، باللسان الأمازيغي ما معناه: إن الكثير من الجزائريين الذين تبوّأوا مراتب عليا في دواليب الدولة قد أنستهم تخمة المناصب ما للشهداء من فضل وما لأفراد الشعب المنسي من دور في وصولهم إلى مراتب المسؤولية، لذلك أداروا ظهورهم لمن صنع ملحمة النصر (يتشور أوعبوظيس، يتسو ذفيريس). لقد تفرق المصراويون شذر مذر في شتى مدن وقرى متيجة، ومما يؤكد ذلك أن عدد السكان قد انخفض من 23 ألف نسمة سنة 1958 إلى أقل من 5 آلاف حاليا. لقد استطاع أبناء المنطقة في الماضي أن يحققوا الاكتفاء الذاتي في غذائهم بل وأكثر من ذلك، بفضل تفانيهم في العمل وكدّهم وجدهم عن طريق ممارسة الزراعة الجبلية التي تجمع بين غرس الأشجار المثمرة وتربية الأنعام والدواجن حتى صاروا من الممونين لأسواق الخضر والفواكه واللحوم المتواجدة في منطقة متيجة، لكن صار كل ذلك الآن في خبر كان بفعل جرائم الإرهاب وسوء التخطيط الذي أهدر الإمكانات الطبيعية للمنطقة وفي مقدمتها الإمكانات السياحية التي لا تقدر بثمن. وإذا عدنا إلى تاريخ أهل بني مصرا، فإننا نجدهم عبر العهود الماضية قد تمسكنوا بنخوتهم الأمازيغية وصانوا أعراضهم وحافظوا على كرامتهم في جبال الأطلس البليدي كالنسور فوق القمم الشماء. وكانوا يزوّدون سكان البليدة بالتين المجفف وزيت الزيتون والجلود والأخشاب والعسل والخروب وغيرها من المحاصيل الفلاحية الجبلية. أما شؤونهم الاجتماعية فقد أسندوا أمرها لزواياهم الكثيرة، تشرف على الزواج والتعليم وإصلاح ذات البين وعقد المصالحة بين المتخاصمين وتدوين المواريث والعقود وتعبئ الناس للجهاد، ولعل أشهر هذه الزوايا زاوية الوزانة المتاخمة لعرش بني مصرا التي أسسها الشيخ خير الدين في القرن السابع عشر الميلادي، وقد كلل نشاطها باحتضان ثورة نوفمبر بأن صارت مقرا لقيادة الولاية الرابعة واستفادت منها خاصة في إعداد مؤتمر الصومام، وكذا زاوية الشرفة وزاوية سيدي علي وغيرها. وبالنظر إلى عزلة عرش بني مصرا في عمق الأطلس البليدي، فإن ما وصل إلينا من أخباره قليل، نقله إلينا الفرنسيون الذين قاموا بالدراسات الأنثروبولوجية لأهداف استعمارية، وهو الأمر الذي يستوجب الحيطة والحذر عند استعمالها. ولعل أهم هذه المصادر كتاب العقيد الفرنسي C.Trumelet عن تاريخ البليدة (1887)، وكتاب الرائد Louis Rinn بعنوان (Royaume d'Alger) الصادر سنة 1899م، وكذا بعض الوثائق التاريخية الأخرى المتنوعة. وحسب الضابط الفرنسي Rozet ، فإن عدد السكان في حدود سنة 1833 قدر بحوالي 5000 نسمة يقطنون في حوالي 900 كوخ، أما ثروتهم الحيوانية فإنه قدرها على النحو التالي: الأبقار: 953 رأسا، الماعز: 2531 رأسا، البغال 94 رأسا، وقدر مساحة الأراضي المزروعة بحوالي 1750 هكتارا، ثم تغيرت هذه الأرقام في تقرير سنة 1868م على النحو التالي، الأبقار: 1653 رأسا، الغنم: 1144 رأسا، الماعز: 4410 رأسا، البغال 184 رأسا، الحمير233 رأسا. ويضيف التقرير أن أهل بني مصرا قد احتفظوا بلسانهم الأمازيغي الذي كانوا يتواصلون به. هذا وقد ظلت منطقة بني مصرا تحتفظ باستقلالها وترفض دفع الضرائب للفرنسيين إلى غاية سنة 1848 التي شهدت تنظيم حملة عسكرية أخضعت السكان مع الإشارة حسب ما ورد في جريدة الأخبار إلى أن أفرادا من عائلة بوكنة قد اعتصموا بالجبال وهو ما جعل القوات الفرنسية تلتجئ إلى تخريب منازلهم ومصادرة أملاكهم، علما أن هذه الجريدة قد شوهت سمعتهم بوصفتهم لصوصا(!). ومما لا شك فيه، أن مأساة بني مصرا لم تنحصر في الجانب الاجتماعي فقط بل امتدت إلى موروثهم الثقافي الأمازيغي الذي ضاع منهم لهجرتهم وتشتتهم في شتى التجمعات السكانية في سهل متيجة بفعل جرائم الاستعمار الفرنسي خاصة خلال ثورة نوفمبر، ثم جاءت أحداث الإرهاب الأعمى لتفرغ عرش بني مصرا نهائيا من سكانه بنزوح سكان قرية »يما حليمة« المقدر عددهم حوالي 200 عائلة سنة 1996م. وإذا كانت الأمازيغية قد ضمرت إلى درجة أنها لم تعد لغة التواصل لدى جيل الاستقلال، فإنها مازالت حية ترزق على صعيد أسماء الأماكن المتداولة حتى في أوساط الشباب يحمل معظمها معاني الحقل (إقر) العين (ثلا) والثنية (تيزي) والسهل (الوضا) أو (أقني) نذكر منها: ثالة أقنتور/ ثيزي علي/ ثامده أوقني/ ذفير لوضا/ لعزيب/ أحلوق/ ثاحامولت/ آيث غرورة/ يما حليمة/ ثلايلف/ إسبغان/ ثاقاديرث/ آيت أعمرولحاج/ أبريذ إخوان/ ثيزي وزال/ إقر أوزار/ إخف إقر/ إكر تازارت/ إغزر أوشاش/ إغيل أحروش/ ثيقرت وذغاغ/ ثلا أو مكراز/ إغيل أشكير/ ثاوريرث/ ثامرزوقث/ ثيزي أتسيثان. وحسب الحوار الذي جرى بيني وبين أهل بني مصرا، فإن لهجتهم الأمازيغية قريبة جدا من لسان القبائل الكبرى ولا تختلف عنها إلا في بعض الكلمات القليلة أذكر منها: أذر (البلوط) أحزاو (الطفل). لقد لمست لدى مثقفي عرش بني مصرا المقيمين خارج أرض أجدادهم أذكر منهم رابح خيدوسي وعبد العزيز بوكنة وفرحاح علي والشريف زهرة وجربوع محمد وغردي محمد إرادة فولاذية من أجل زرع الحس المدني قصد إنقاذ ذاكرتهم الثقافية ورصيدهم التاريخي من النسيان. أما التنمية المحلية المأمولة فإن أمرها أكبر من إرادة سلطات بلدية حمام ملوان التي لم تدخر جهدها لتخفيف معاناة السكان الذين أنزلهم النسيان إلى ما دون المواطنة. إن السياسة التنموية الرشيدة التي ينتظرها السكان بفارغ الصبر هي تلك السياسة التي ترسم مخطط إعادتهم إلى أرض أجدادهم التي تنتظر سواعدهم لفلاحتها وخدمتها، وما ذلك بعزيز على ميزانية الدولة التي تعاني من التخمة المالية، علما أن ما يحتاجه السكان هو طريق وقرية فلاحية ودعم مالي لبعث الزراعة الجبلية كما هو الأمر في العديد من المناطق الأخرى في الوطن، وبذلك سيرتاح السكان ويريحون الدولة من قضية طلب العمل والسكن في المدن، ولا شك أن بعث السياحة الجبلية سيكون عاملا مساعدا في إعادة الحياة إلى الصناعات التقليدية التي تزخر بها المنطقة. وبالنظر إلى الفراغ القاتل الذي يعاني منه شباب القرية المحتشد (مقطع لزرق) فإن إسعافهم بالمكتبة أكثر من ضرورة وإن كان السيد رابح خيدوسي، صاحب دار الحضارة للنشر، قد دأب على إيصال الكتاب إلى أعماق المنطقة. ولا شك أن السكان ينتظرون بفارغ الصبر إعادة ترميم مقبرة الشهداء المخربة بسباغنية لتلبس حلة جديدة تليق بمقام الشهداء وترفع الغبن عن أرواحهم المعذبة. وبالنظر إلى رصيد عرش بني مصرا التاريخي، فإن أهله الطيبين المسالمين يستحقون التفاتة السلطات لرفع عنهم الغبن الذي أنزلهم إلى ما دون المواطنة، فهم في انتظار دفء الاستقلال على أحرّ من الجمر ليخلصهم من كابوس التخلف الذي مازال جاثما على أرضهم ومن عليها.