عبد العالي رزاقي منذ العهدة الثانية لبوتفليقة تراجع اعتماد الأحزاب والصحف والجمعيات، وتوسعت ظاهرة »الانقسامات والانشقاقات« وظاهرة التصحيحيين والتقويميين والتجديديين، بين قيادات الأحزاب والمجتمع المدني. ولم نعد نفرّق بين الحزب والصحيفة، وبين التنظيم السياسي والمجتمع المدني، بل تداخلت السلطة التشريعية مع السلطة التنفيذية حتى صرنا لا نفرّق بين الوزير ورجل السياسة. حزبان ورئيس! يبدو أن النموذج الأمريكي في التنافس على الرئاسة يثير لعاب الكثير، لأنه يحول الديمقراطية إلى »صراع ديكة« يقلد فيها الغالب »وسام المغلوب«، ويسمح للمغلوب بانتزاعه مرة أخرى مهما طال الزمن أو قصر. وإذا كان النموذج الأمريكي نابعا من اختلاف الأعراف والأجناس وتعدد الثقافات والديانات، والالتفاف حول الأفكار والمشاريع، فإن النماذج العربية بعيدة عن هذا النموذج. فالأمريكيون حين شرعوا في تطبيق مشروع الشرق الأوسط الكبير في الوطن العربي لجأوا إلى الخبراء، ففي الصحافة مثلا اختاروا جريدتي "أوريزو" الحكومية و"الشروق" المستقلة، ولم يتدخلوا في مضمون الجريدتين، وإنما أشرفوا على "التسيير التقني والفني" لتسهيل المهمة أمام الصحفي لإيصال رسالته أو مادته الإعلامية بأقل التكاليف والجهد، وتمكين القراء من قراءة الصحيفة دون إهدار للوقت أو تعب في استيعاب المادة الإعلامية، ومن يطالع الجريدتين سيكتشف "الخطوة العملاقة" للأداء التقني، وهم بهذه الخبرة وفّروا للطالب الجامعي »النموذج« الذي يقتدي به في »المادة التطبيقية«، ووفروا لنا أسهل الطرق للاتصال بالقارئ، أو لم يقدموا أفكارا فنية لطي »عهد الزربية« التي تغطي الصفحات الأولى لصحفنا الوطنية؟. ويكفي أن »صورة صدام« التي وزّعتها صحيفة "الشروق" »كانت تحت رعاية الخبرة الأمريكية«، فهل تغيّر موقف "الشروق" من أمريكا؟. المؤكد أننا استفدنا من هذه الخبرة بالرغم من موقفنا الثابت من الحكومة الأمريكية والرفض للمشروع الأمريكي في الشرق الأوسط. لو كانت السلطات الجزائر تفكر في تطوير الإعلام أو الأحزاب أو العدالة أو الأمن، لما تأخرت في الاستفادة من هذه الخبرة الفنية، ولا أبوح بسر إذا قلت إن الفضل في مجريات »محاكمة الخليفة يعود إلى »الخبرة الأمريكية« الموجودة في العدالة، وإذا كان هناك »مشروع« لدعم الثنائية الحزبية في الجزائر، من جهات داخل السلطة، فإن النجاح مستبعد، لأن انقسام الساحة السياسية إلى حزبين يعني بالضرورة انقسام البلاد إلى منطقتين، فالأحزاب في الجزائر تقوم على أسماء وليس على أفكار، فبدون حسين آيت أحمد لا يوجد حزب اسمه جبهة القوى الاشتراكية، وبدون سعيد سعدي لا يوجد حزب اسمه التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، وبدون جاب الله عبد الله لا يوجب حزب اسمه حركة الإصلاح والأمثلة كثيرة. والأحزاب التي لم يتم التداول فيها على رئاسة الحزب هي تلك الأحزاب التي يمتلك أصحابها أفكارا ويدافعون عنها، ولها مواقف ثابتة، ويصعب تليينها، إلى جانب أن لهم مريدين ومناضلين يؤمنون بهم كرموز للحزب، وبالتالي فأية محاولة لإجهاض مثل هذه الأحزاب قد تدفع بالبلاد إلى »مجهول جديد«. المؤكد أن جبهة التحرير ستبقى رائدة »الأغلبية« التي تبقى رهن الرئيس، والجبهة، في جميع مراحلها، كانت للأجهزة، ومطية للوصول إلى المناصب وحين أرادت أن تتحرّر من براثن أصحاب القرار، في عهد عبد الحميد مهري، أطاحت بها الأجهزة، في عملية سميت ب (الانقلاب العلمي) أو »المؤامرة« وحتى حين أراد علي بن فليس أن يوظفها في رئاسيات 2004، وجد نفسه »خارج مجال التغطية«. لقد أنجبت السلطة من رحم الجبهة حزبا ومنحته الأغلبية، لكنها اليوم تجد صعوبة في إعادته إلى »رحمها« ويجد الحزب صعوبة لأن »فضيحة الخليفة« فيها أسماء منه. لكن التوجه العام لتشريعيات 17 ماي القادم سيعطي الشرعية لثلاثة تيارات كبرى هي: 1- التيار الوطني بقيادة جبهة التحرير وسيحصد أو تحصد له الأغلبية، وهذا التيار لن يسمح له بتشكيل حكومة لوحده، إلا بعد تعديل الدستور وإجراء انتخابات رئاسية عام 2009. 2- التيار الإسلامي، وسيكون خليطا من مرشحي الأحزاب الإسلامية، أو الإسلاميين داخل أحزاب أخرى، أو قوائم حرة يقودها تيار عبد الله جاب الله أو تيار وزير الداخلية لدى من يصفون أنفسهم ب (التقويميين). لاشك أن حمس ستكون الحزب الوحيد في التيار الإسلامي الذي لا يستطيع أن يكون محور استقطاب لتيار الإنقاذ أو جاب الله أو »التائبين« أو المحسوبين على التيار الإسلامي من الوجوه القديمة في البرلمان بغرفتيه. 3- التيار الديمقراطي اللائكي، وهو يعاني المشكلة نفسها التي يعانيها التيارالإسلامي، في التناقض بين أطرافه، إلى جانب أن هذا التيار سيكون الصوت المعارض فيه هو حزب آيت أحمد. وهذه التيارات الثلاثة لا تستطيع أن تتحول إلى أحزاب، وبالتالي فالذين يؤمنون بالنموذج الأمريكي يتوهمون وجود أحزاب في الجزائر، بينما الحقيقة هي وجود تيارات سياسية وانتماءات وميول. وزراء أم رؤساء أحزاب؟ يبدو لي أن التداخل بين الأحزاب والسلطة التنفيذية (الحكومة) وصل إلى حد قد يجلب للبلاد مصاعب، ويضعها على بركان جديد. المؤكد أن الأمن خيار استراتيجي للبلاد، وليس عملية »تكتيكية مرحلية«، فالجزائر في حاجة إلى استقرار أمني وهذا لا يتحقق في ظل قانون الطوارئ، ولا في »الهزات العنيفة« للشارع الجزائري، ولا في غلق المجال الإعلامي والسياسي. والبلاد التي يوجد فيها أمن لا تشعر بوجود قوات الأمن في شوارعها، ولنأخذ »ليبيا« مثلا، لا نعثر في شوارعها إلا على شرطة المرور، لكن الأمن موجود في كل مكان، والجزائر التي استفادت أمنيا في تعاملها أكثر من 10 سنوات في محاربة الإرهاب، تتحول عاصمتها هذه الأيام إلى »اختناق« تحت حجة الإرهاب. إذا كان الهدف هو تحسيس المواطن بخطورة »الإرهاب القادم«، فأعتقد أن العملية فاشلة، لأنها تعيد الجزائر إلى سنوات 1992. أما إذا كان فعلا هناك »تسلل إرهابي« فهذا يعني أن وزارة الداخلية ومصالحها المختلفة تجاهلت مهمتها أو تم اختراقها. المؤكد أنك عندما تقرأ تصريحا لوزير الداخلية بأن »أغلبية المناضلين، في حزب جاب الله، لا يقبلون برئاسته للحزب«، وأن القانون لا يخوّل للحزب الدعوة إلى مؤتمر، وإنما يخوّل للمنشقّين عنه، تتساءل: هل لوزارة الداخلية مخابر سبر الآراء داخل الأحزاب لتدرك أن هذا الحزب مقبول قاعديا أو مرفوض؟ ولا أفهم كيف يجرؤ وزير داخلية على وصف رئيس حزب ب (عدم التأهيل القيادي) وهو يملك 28 كتابا سياسيا موجودا في الأسواق الجزائرية والعربية؟ ولا أستطيع أن استوعب أن حزبا يشارك في الانتخابات الجزئية عام 2005 بالمناطق التي رفضت العروش نتائجها، ويشارك في التجديد النصفي لأعضاء مجلس الأمة عام 2007 ويدّعي الوزير أنه مجمد منذ 2004. المؤكد أن الذي لا يدرك ما يجري في العاصمة لا يستطيع أن يدرك ما يجري في بقية المدن الجزائرية، فما بالك إذا كان يدرك ما يجري في رؤوس المناضلين، لأحزاب يعتز أنه لم يستقبل قادتها في مكتبه! إن تصريحات زرهوني هي بمثابة »إثارة« للفتنة، فالعدالة هي وحدها التي تحكم في القضايا الحزبية، وإذا كان هناك حزب اخترق القانون، فعليه بتبليغ العدالة، لتتخذ الإجراءات التي يفترض أن يطبقها لا أن ينظر لها. إن غياب القرارات والتعليمات المكتوبة والاعتماد على التصريحات الشفوية، حوّل البلاد إلى »مهرجان كلامي«. لو كانت هناك سلطة تنفيذية لاتخذت القرارات في وقتها، وتركت الحرية للعمل السياسي والإعلامي، فالسلطة التي تمنع على مواطنيها تصوير الشوارع أو الابتهاج بالانتصار في مقابلة رياضية، أو لا تسمح للأحزاب بإقامة تجمعاتهم إلا إذا كانوا موالين لها، هي سلطة قد تجلب للبلاد مصاعب مستقبلية. إنها مثل تلك الجمعيات التي صارت تهدد أحزابها بالانسحاب منها، أو تجتمع بوزراء في مكاتبهم. ولست قادرا على تصوّر مستقبل لديمقراطية يبرئ فيها الوزير نفسه عبر أوراق الصحف، ويطالب فيها حملة السلاح بإنشاء أحزاب لهم، وتتحول وسائل إعلامها إلى منابر للخارجين عن القانون، الرافضين للمثول أمام العدالة أو الهاربين منها أو الرافضين للقوانين الداخلية للأحزاب. فالجزائر عاصمة الثقافة العربية لكنها تضم طاقما ثقافيا مكونا من وزارة وكيانات تتصارع، واتحاد كتاب »مغتصب« وشعراء يسكنون »الشيراتون« وليس في جيوبهم ثمن »كأس شاي« أو ثمن سيارة تنقلهم من »نادي الصنوبر إلى قصر الثقافة«. إذا كان الفكر لدى المنتمين إلى الحقل الثقافي غير قادر على استيعاب »العرس العربي« في الجزائر، لأن كل طرف يريد »المقايضة به« لمنصب، فكيف نطلب من يريد الوصول إلى »الكرسي« أو »جواز سفر أحمر« أن يفكر في الجزائر. المؤكد أن هناك خللا ما في جهة ما، لا يراد تصليحه أو إصلاحه، والأكثر تأكيد هو أن الأحزاب لن تصل إلى المرادية ما لم تكن لها برامج سياسية، تمكّنها من طرح الأفكار والمشاريع.