عبد العالي رزاقي يعتقد الكثير من أصحاب "التفكير الديني" بأن السلاح هو اللغة الوحيدة التي تفهمها الأنظمة، وتعتقد الأقليات الدينية بأن الاستقواء بالأجنبي هو السبيل الوحيد لوجودها العلني داخل الوطن. والكثير من الأعضاء التيار الإسلامي بمجرد ما ذاقوا طعم السلطة أو "جواز السفر الأحمر" تحولوا إلى أسلحة للنظام في وجوه بقية المنتسبين للتيار. وفي هذا السياق يأتي السؤال الجوهري: ما مستقبل الإسلام المسلح والإسلام السياسي في الجزائر؟ وما البديل الذي يمكن طرحه لتفادي انتقال "الإسلام السياسي" إلى "الإسلام المسلح"؟ الإسلام المخفي والإسلام الممنوع! إذا أردنا أن نتحدث بصراحة عن الإسلام السياسي في الجزائر سنجده يتوزع على جيلين، جيل جمعية العلماء المسلمين الذي تم قمعه خلال الحزب الواحد من الشيخ الإبراهيمي مرورا بعبد اللطيف سلطاني وانتهاء بخير الدين، وجيل وجد في الجامعة فرصة للتنظيم والعمل السري، في عهد الحزب الواحد، ليتحرر مع التعددية، وإذا كان الجيل الأول يملك من الجرأة والكفاءة ما أهله لمواجهة السلطة، في كتاباته، فإن الجيل الثاني انقسم إلى قسمين: قسم اختار التقرب من السلطة وآخر تجنب فتح قنوات معها. وهكذا ظهر محفوظ نحناح كنموذج لمن اختار "الإسلام الوسطي" ووجد السلطة تتنكر له وتعتبر تقربه "نفاقا" حتى مات الشيخ نحناح وأدركت السلطة أنه رجل دولة، وبالمقابل ظهر الشيخ جاب الله الذي كرس شبابه لجمع الإطارات الشبانية، وحين أرادت السلطة استقطابه عام 1999 رفض الموالاة، فتم سحب الحزب منه، وحين أنشأ حزبا جديدا له وتحول إلى قوة ثالثة في البرلمان قامت السلطة ب (تفكيك حزبه). ولأن إطارات حمس تملك من المؤهلات ما يجعلها تتجاوز الخلافات الشخصية، ولأن أغلبها امتلك الخبرة السياسية، وعدم الاستخفاف بوجوه في الحزب، فإن حركة حماس بقيت واقفة، وكانت تنحني كلما مرت عاصفة حتى لا تتكسر، أما حركة النهضة أو الإصلاح في عهد الشيخ جاب الله، فقد لَبست "جبة الشيخ" ولكن البعض من هذه الإطارات تنكر للشيخ حين تصور أن وصوله إلى البرلمان يسمح له ب "التنازل" عن حزبه لصالح هذه الجهة أو تلك، والبعض اعتقد بأنه قادر على أن يتحرر من الشيخ جاب الله ويتحول إلى "زعيم ساسي" ولعل هذا ما جعل العدالة تواجه ضغوطات في الحكم في قضية الحزب، فالنظام السياسي الجزائري ما يزال يعتقد أنه بإمكانه إنشاء "حركة إسلامية جديدة" تحت حركة الإصلاح بقيادة برلماني سابق، وإحالة جاب الله على التقاعد، وهو في عزّ شبابه. لقد حاولت بعض الوجوه في حركة حمس "طي صورة الشيخ محفوظ نحناح" لتقدم صورتها بديلا عنه ولكنها فشلت، ولا أعتقد أنه باستطاعة "حركة الإصلاح" أن تسترجع قوتها في غياب الشيخ جاب الله. وإذا كانت السلطة على ذلك فهي مخطئة، فإسم جاب الله دخل إلى قلوب محبيه، ويصعب انتزاعه منه، وما دام جاب الله هو الحزب المعارض الذي بقي يدافع عن الحل السلمي، ويمارس نشاطه بطرق سلمية، فإن ذلك يخلق التوازن في التيار الإسلامي. والظلم المسلّط على الشيخ جاب الله يأتي نتيجة طبيعية لثبات مواقفه ولعدم فهم المنشقين عنه لحضوره الإعلامي العربي والإسلامي، ولعدم تقدير السطات لحجمه. وأتخوف من أن الجهات التي تعمل على دفع أنصار جاب الله إلى حمل السلاح غير واعية لما تقوم به، فالرهان على دفع أنصاره إلى حمل السلاح رهان خاسر، ولهذا فعلى السلطة أن تدرك أن فكرة حمل السلاح لم تعد مقنعة لعائلة "الإسلام السياسي"، لأن النهاية التي آلت إليها الجبهة الإسلامية للإنقاذ كان درسا "سياسيا"، فلو لم يتبن قادة في الإنقاذ العمليات التفجيرية، ولم يظهر جناح مسلح لهذا الحزب، لما وصلت البلاد إلى ما عليه من حصار للتيار الإسلامي الراديكالي. ربما يقول لي أحد من هم معنيون بالأمر: الجناح المسلح فبركته السلطة، وهنا أرد، دون تحفظ، لو كانت السلطة وراء هذا الجناح، لما كان هناك أمراء له في شرق البلاد ووسطها وغربها، ولم يلتقوا طيلة الأزمة، وإذا كان لأحدكم معلومات حول اجتماع لقادة الجناح المسلح للإنقاذ وهم: مدني مزراق، أحمد بن عيشة، علي بن حجر ومصطفى قرطالي فليأت بالدليل. المؤكد أن جميع حملة السلاح، في الجبال، كانوا يتقاتلون، لكنهم أثناء المواجهات مع قوات الأمن يتوحدون، وهو ما حدثني به أحدهم، والأكثر تأكيدا أن الموجودين حاليا في الجبال معروفون لدى مصالح الأمن ولدى أصحابهم ممن نزلوا خلال العفو الشامل أو المصالحة. ومن أخطأ حملة السلاح أنهم لا يفكرون في عائلاتهم أو أحزابهم، يكفي أن بعض قادة الجناح المسلح للإنقاذ تنكر لحزبه بمجرد أن فتحت السلطة "قناة اتصالية" معه، ما يجلبه المسلحون لأهل السياح من مخاطر أكثر مما تجلبه المعارضة للنظام من تعسف، فالتحاق ابن الشيخ علي بن حاج ب "القاعدة" هو بمثابة تصفية سياسية لوالده، وإساءة لنضال والده وزعامته الروحية للحزب، والذي لم تسمح له نفسه بالدعوة إلى الجهاد ضد السلطة. قاعدة القاعدة؟ مشكلة السلطة في الجزائر أنها حملت شعار "بقايا إرهاب"، وتمسكت به، وأنها تعطي احصائيات متناقضة، ولا تفرق بين "المجرم والإرهابي" فعمليات الاختطاف والحواجز الأمنية لنهب المواطن هي أعمال إجرامية، على السلطة محاربتها بإحالة أصحابها على العدالة. أما ما يسمى ب (قاعدة المغرب الإسلامي) فهي تحول جديد لدى المسلحين الذين رفضوا تسليم أسلحتهم في إطار الرحمة أو العفو الشامل أو المصالحة، وما يزالون في الجبال، فهم كانوا في حاجة إلى "غطاء سياسي" بعد أن سحب التيار الإسلامي والشعب الجزائري منهم حق التحدث باسم الاسلام والتعسف في استخدام السلطة، ولو كانوا مواطنين لهم علاقة بالإسلام أو لهم علاقة بالوطن كان يمكن لهم استغلال المصالحة الوطنية للاستفادة من إجراءات العفو. المؤكد عندي أن من حملوا السلاح بعد المصالحة الوطنية هم مجرد أشخاص لا يؤمنون بالجزائر وطنا لهم، ولا يحترمون الشعب. وعلى السلطة وصفهم ب (المجرمين)، وعدم اعتبارهم من "القاعدة"، لأن للقاعدة رجالها ومبررات وجودها، ولا أعتقد أن هناك ما يستدعي المواطن الجزائري إلى الالتحاق بهذه التنظيمات، أما الذين فضلوا البقاء في الجبال كخيار للحياة فإنهم في تقديري "قاعدة القاعدة"، وليس لهم خيار غير حمل المظلات لأي تنظيم. إن عوامل انتقال العمل الإسلامي السري في الجزائر إلى العمل المسلح السري "هو غياب الوعي الديني" لدى القيادات الإسلامية والمستوى المتدني، والخلط ما بين المفاهيم، وربما كانت الجبهة الإسلامية والسلطة محفزين لظهور هذا التيار الذي يطلق عليه خطأ (التكفيري). السلطة تتحمل مسؤولية تكبير وتضخيم هذا التيار إعلاميا، بهدف توظيفه لخدمتها، وقادة التيار الإسلامي يتحملون مسؤولية عدم القدرة على التحكم فيه، وقد وصفت يومئذ الفيس ب "الاسفنجة" التي امتصت غضب الشارع ضد السلطة لتحوله إلى سلطة في خدمة "الفوضى وتشويه الإسلام والمسلمين" وأعتقد أن السلطة بإلغائها "التربية الدينية" من المنظومة التربوية إنما تسعى لتغليب السلوك غير الإسلامي في المدارس. إن تحرير الفتوى من السلطة والأحزاب الإسلامية، وتحرير المجتمع المدني من الولاء للأحزاب والسلطة هما الكفيلان بإنهاء الإسلام المسلح، والكشف عن الإسلام المخفي. وأزعم أن وجود "الإسلام المسلح" في الجزائر يتحمل مسؤوليته قادة التيار الإسلامي، لأن معظمهم لا يفصل بين الدين والسياسة في الميدان، حتى أننا أصبحنا لا نفرق بين خطبة صلاة الجمعة وخطبة في مهرجان سياسي، ولا نفرق بين توجيهات قيادة الحزب السياسية للمناضلين والتعاليم الدينية، وأدى هذا الخلط إلى ظهور ما يسمى بالكتابة "السياسية الإسلامية الفضائحية" الذي لا يسمح لي قلمي بذكر أصحابها والمروجين لها، وإذا كانت السياسة فن الممكن فإن الدين فن المستحيل، فالإيمان بالمطلق يتنافى مع الإيمان بالمادة، لأن الإيمان بالله يلغي تفضيل المصالح الشخصية على حساب الدين. ولأن السلطةتريد تكوين أحزابا على مزاجها، ووفق أهدافها، فقد صادرت الفوضى في اعتماد الجمعيات والأحزاب السياسية هي سيدة الموقف السياسي والاجتماعي في البلاد. ولو كانت لنا أحزاب إسلامية حقيقية لما كانت في الجزائر أكثر من ثلاثة أحزاب إسلامية، تحمل الشعار نفسه، وقد فكر المرحوم أحمد سحنون في توحيد هذه الإعجاب ولكنه فشل، وما دامت مختلفة داخليا فكيف يمكن أن تتوحد فيما بينها. ولو كانت السلطة تفكر في بناء ديمقراطية لما أبقت القضايا المتعلقة بالانشقاقات والانقسامات داخلها مرمية في سلة المهملات لدى القضاء، وإنما مارست صلاحياتها علنا، وفق ما تحدد القوانين، ولهذا فالإسلام المسلح وجد المكان المناسب له في الجزائر، لأن بعض الأطراف في التيار الإسلامي والسلطة ما تزال تغذيه بسلوكها أو قراراتها المرتجلة.