د/ محمد العربي الزبيري في سنة 1945 وضعت الحرب الامبريالية الثانية أوزارها ، وقرر الغالبون أن يحتفلوا بأعياد النصر في الثامن من شهر مايو. فعلوا ذلك بعد أن تقاسموا مناطق النفوذ في الشرق والغرب .فبريطانيا وأمريكا تنازلتا عن "رومانيا " و" المجر " و" بلغاريا " و"بولونيا" في مقابل وضع اليونان تحت السيطرة الإنكليزية ، هذا من جهة ، ومن جهة ثانية وقع الاتفاق على أن تتخلى الدول الغربية عن الأحزاب الرأسمالية في أوربا الشرقية وتتخلى روسيا عن الأحزاب الشيوعية في الدول الغربية بما في ذلك الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان قد أدى دورا بارزا في حركة المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الألماني. وفي مجال تقاسم الغنائم ، يذكر رئيس الحكومة البريطانية ، السيد تشرشل آنذاك ، أنه طار إلى موسكو بنفسه ، وحينما قابل المارشال "سطالين " في اليوم التاسع من شهر أكتوبر قال له بالحرف الواحد : " لنسو قضايانا في البلقان. إن جيوشكم متواجدة في رومانيا وبلغاريا ، ولنا في البلدين مصالح وبعثات وعملاء . ولكي نتجنب التصادم بسبب أشياء لا تستحق ذلك ، فإنني أقترح تفوقا روسيا في رومانيا بنسبة 90 بالمائة ونفس التفوق لبريطانيا في اليونان،ويكون التفوق مناصفة في يوغسلافيا والمجر ". بهذه الطريقة البسيطة والمهينة في ذات الوقت ، وفي لحظات قصيرة جدا ، قرر رجلان مصير عدد من البلدان المستضعفة ، وسكتا عن مستقبل عشرات البلدان الأخرى التي كانت شعوبها تنتظر تدخل الولاياتالمتحدةالأمريكية لتمكينها من تقرير مصيرها بنفسها. وكان الشعب الجزائري من بين تلك الشعوب ، خاصة وأن الجزائر شكلت ، أثناء الحرب التوسعية الثانية ، قلعة متينة للمقاومة الفرنسية ومصدرا أساسيا للتعبئة والتجنيد. وكان الرئيس الراحل فرحات عباس يضاعف من المساعي الرامية إلى إقناع ممثلي الحلفاء بضرورة مساعدة الشعب الجزائري على ممارسة حقه في تقرير مصيره بنفسه .و كان الممثل الأمريكي السيد " مورفي " أكثر الأطراف تفهما لمطالب الزعيم الجزائري الذي كان يرى في ذلك أمرا طبيعيا لأن الولاياتالمتحدةالأمريكية هي بلد الرئيس "ولسون " صاحب مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها. لم يكن السيد فرحات عباس قد اطلع على المرجعيات الفكرية التي تتغذى منها سياسة الولاياتالمتحدةالأمريكية التي كانت دائما وحيدة اللون رغم تداول "الحمائم و الصقور" على السلطة ، و التي لم تكن تأخذ في الاعتبار سوى مصلحة الشعب الأمريكي عامة و مصلحة الشركات الاحتكارية بصفة خاصة. أما المبادئ و القيم فشعارات تستعمل كوسيلة لتنويم الآخر و لبلوغ الهدف. لأجل ذلك،وحينما تأكدت هزيمة الألمان ، فإن السيد "مورفي" لم يتحرج من تغيير لغته قائلا بكل بساطة:" إنني عندما تحدثت عن الحق في تقرير المصير إنما كنت أعني الشعب الفرنسي .أما أنتم الأهالي ، فإن مصيركم تقرره فرنسا، لأنكم لم ترقوا بعد إلى مستوى الشعوب". وإلى جانب السيد فرحات عباس ، كان الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، باسم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، قد آمن ، هو الآخر ، بحكاية تقرير المصير،ودفعه إيمانه إلى حد أنه أشاع ، في بعض مجالسه ، أن الولاياتالمتحدةالأمريكية مهتمة بالقضية الجزائرية وأنها لا تنتظر سوى نهاية الحرب كي ترغم الحكومة الفرنسية على الاعتراف بحرية الشعب الجزائري وحقه في استرجاع استقلاله . لكن الجناح الثوري في حزب الشعب الجزائري كان يدرك تمام الإدراك أن الحرب إمبريالية ،وأن نتائجها لن تعود بالفائدة إلا على الأنظمة التوسعية . لأجل ذلك شرع ، منذ البداية ، في إعداد العدة قصد الانتقال إلى فترة الكفاح المسلح . وبمجرد أن تأكدت الهزيمة الألمانية ، وقبل أن تضع الحرب أوزارها،وضع خطة عسكرية شبيهة ، تماما ، بتلك التي نجحت ليلة أول نوفمبر 1954. واليوم ، فإن أسئلة كثيرة ما زالت مطروحة من دون أجوبة شافية فيما يخص بيان الإعلان عن اندلاع الثورة ، والتقسيم الجغرافي للبلاد وكيفية تعيين رؤساء المناطق وكيف صدرت الأوامر المضادة ؟وبأمر من وقعت صياغتها؟وما هي حصيلة حوالي شهرين من الكفاح المسلح ؟ ومن يتحمل مسئولية الأمر والأمر المضاد ؟ . فالدكتور محمد الأمين دباغين يعطي إشارات بالغة الأهمية يمكن اعتمادها في البحث من أجل الوصول إلى الحقيقة ، لكنه ، لأسباب كثيرة ، يتجنب الخوض في التفاصيل . لقد كان هو المحرك الرئيسي لحزب الشعب الجزائري في غياب قيادته الرسمية التي كانت معتقلة . وبتلك الصفة ، كان أكثر الناس اطلاعا على مجريات الأحداث ، وكان ، في نفس الوقت ، أكثر الناس حفاظا على أسرار الحزب . وعلى الرغم من ذلك، صرح ، ذات يوم ، أنه "قابل الزعيم ،صحبة الشهيد حسين عسله، في مستهل العقد الثالث من الشهر الرابع سنة خمس وأربعين وتسعمائة وألف.وكان إشعال فيل الثورة هو موضوع المقابلة ". ويؤكد الدكتور أن الحاج مصالي "تردد قليلا ثم وافق على الخطة التي تتمثل في تهريبه من " قصر الشلالة " حيث كانت إقامته الجبرية ونقله إلى مزرعة المناضل "معيزة "على مقربة من مدينة سطيف، وهناك يعلن عن ميلاد الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.ووقع الاتفاق على أن يتولى تنظيم عملية التهريب المناضل "واعلي بناي " . وبالإضافة إلى الموافقة على خطة التهريب ، وافق الزعيم على تعيين المسئولين الذين يقودون المناطق وهم على النحو التالي : منطقة العاصمة وضواحيها (محمد بلوزداد) ، منطقة ألأربعاء تابلاط ( أحمد بوده ) ، منطقة القبائل الكبرى ( علي حاليت ) ، منطقتا الشرق الجزائري ( الشاذلي المكي و مسعود بوقادوم ) ، منطقة الجنوب ( أمحمد بن مهل ) ، منطقتا الغرب الجزائري ( محفوظي وبوتليليس ) أما التنسيق العام فيتولاه الدكتور محمد الأمين دباغين . كان التخطيط محكما ، لكن سره تفشى قبل التنفيذ ووصل إلى الإدارة الكولونيالية فسارعت إلى نقل الزعيم نحو مدينة " المنيعة " ثم نفته إلى مدينة "برازافيل" . ونتج عن ذلك ارتباك كبير أدى ، في النهاية ، إلى فشل الخطة ، وإلى انتشار نوع من الفوضى في صفوف القيادات الحزبية التي بدأ بعض أعضائها يشعرون بضرورة إعادة النظر في مبادئ التسيير وفي المكانة التي يجب أن يشغلها الزعيم عندما يكون في السجن أو خارجه ، وحينما يكون في الإقامة الجبرية أو حرا في كل تنقلاته . وأكثر من كل ذلك ، انتبه الفاعلون في القيادة العليا ممن صهرتهم تجارب سنوات الحرب إلى أن الأحادية في التفكير واتخاذ القرار تخنق روح المبادرة وتحول دون التطور وتمنع الحركة الوطنية من تحقيق الأهداف المسطورة في برنامجها السياسي . لأجل ذلك بدأ التفكير في البحث عن الطريقة المثلى لمفاتحة الزعيم في الموضوع ،خاصة وأن وسائل الإعلام الفرنسية ، المتصلة بمصادر القرار، قد نشرت نبأ إطلاق سراحه وعودته ، قريبا ، إلى ربوع الوطن . ومن خلال تتبعنا لكل هذه الأحداث ، نستطيع القول إن الفكرة التي كان قد انطلق منها الزعيم لوضع برنامجه السياسي قد أصبحت معرضة للتشويه بسبب ما قد يحدث من صراع على السلطة وجراء المساعي الكثيرة التي تقوم بها الإدارة الكولونيالية لتسريب بعض عيونها في صفوف القيادة العليا ولخلق أسباب الفتنة وصرف الأنظار عن جوهر القضية الرئيسية المتمثلة في العمل بجميع الوسائل من أجل تقويض أركان الاحتلال واسترجاع السيادة الوطنية.