خلفت تصريحات الوزير الأول أحمد أويحيى، بشأن الأقدام السوداء جملة من التساؤلات حول خلفية مثل هذه التصريحات وتوقيتها. فالدعوة إلى التطبيع مع هذه الفئة التي ظلت إلى غاية سنوات قليلة، من بين "المحرّمات" في العقيدة الدبلوماسية للجزائر، بالنظر إلى الجرائم التي ارتكبتها هذه الفئة من الفرنسيين والأوروبيين، بحق الجزائر والجزائريين، على مدار قرن و32 سنة، غير أن تفجير نقاش حول دور هذه الفئة من الأوروبيين الذين سكنوا الجزائر خلال الحقبة الاستعمارية، يدفع للتساؤل حول ما إذا كان القرار قد اتخذ على مستويات عليا بإعادة النظر في هذه العلاقة.. فماذا يخفي تصريح أحمد أويحيى؟ وهل مبرر البحث عن دور للأقدام السوداء في دعم الاقتصاد الوطني مقنع للتطبيع؟ وما أثر مثل هذه التصريحات على الذاكرة وعلى جدلية اعتذار فرنسا عن جرائمها الاستعمارية؟ وهل هي مقدمة لعودة الأقدام السوداء ومن ثم مطالبتهم بما يزعمون أنها ممتلكاتهم؟ هذه الأسئلة وأخرى سيحاول "الملف السياسي" لهذا العدد الإجابة عليها؟ تصريح أويحيى حول الأقدام السوداء هل هو مجرد زلة لسان؟ عندما تصدر دعوة إلى إعادة الاعتبار لعلاقة الجزائر ب "الأقدام السوداء" من قبل مسؤول بحجم وزير أول وأمين عام لثاني أكبر أحزاب السلطة، وتعزز هذه الدعوة بتصريح آخر للأمين العام للقوة السياسية الأولى في البلاد، فهذا يؤشر على وجود قرار بهذا الخصوص يطبخ على مستويات عليا. وكان أويحيى قد دعا أمام رجال الأعمال في حفل توزيع جائزة أفضل مصدر جزائري في عام 2017 إلى التوجه "نحو الجالية الجزائرية المقيمة في مختلف أنحاء العالم التي يمكن أن تكون حلقة وصل في ترقية المنتجات الجزائرية، وكذا جاليات قدامى الجزائر في الخارج (الأقدام السوداء) التي يمكنها فتح أبواب لدخول الأسواق الخارجية". وبينما كان الجميع ينتظر هجوما من الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، جمال ولد عباس، على الغريم أويحيى بسبب هذا التصريح غير المسبوق لمسؤول في مستوى الوزير الأول، جاء الموقف غير منتظر على الإطلاق، فقد انبرى ولد عباس لتبرير موقف أويحيى. وأوضح ولد عباس أن أويحيى قصد بتصريحه المثير للجدل، التعامل التجاري مع الأقدام السوداء باعتبارهم فرنسيين وليسوا كجزائريين قدامى، مشيرا إلى أن "الأقدام السوداء" و"الحركى" وحتى اليهود الجزائريين اختاروا فرنسا، لذلك نحن نعتبرهم فرنسيين ولا علاقة لهم بالجزائر". في حين قرأ آخرون في تصريح ولد عباس رفضا مبطنا لتصريح أويحيى، ويستند أصحاب هذه القراءة على العبارة التي جاء فيها أن "الحزب الذي يعد العمود الفقري للدولة، يرفض أي تعامل مع الأقدام السوداء، بصفتهم قدماء الجزائر". مثل هذا "التطور" الملفت في الموقف الرسمي (تصريح الوزير الأول)، كان من الطبيعي أن يخلف صدمة لدى البعض، ومن بين هؤلاء حركة مجتمع السلم، التي استغلت اجتماع مكتبها الوطني، لترد على أويحيى، حيث عممت بيانا انتقدت موقف أويحيى. وحمل بيان الحركة إدانة للتصريحات التي صدرت عن الوزير الأول، على ما وصفه "الجرأة على الاستعانة بالأقدام السوداء وفتح المجال لمن غدروا الشعب الجزائري وعذبوه ورعّبوه أثناء الاستعمار الفرنسي". ولم يأت تصريح أويحيى هذا من فراغ، بل جاء في سياق زمني طبعته الزيارة التي قادت الوزير الأول إلى فرنسا للمشاركة في اجتماع دولي حول ليبيا، وهي الزيارة التي استقبل فيها أويحيى من قبل الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في قصر الإيليزي، الأمر الذي أسهم في تغذية الشكوك. ومعلوم أن ماكرون عندما زار الجزائر كرئيس لفرنسا العام المنصرم، حمل معه ملفات كان من بينها تمكين "الأقدام السوداء" و"الحركى" من زيارة الجزائر باعتبارها مسقط رأسهم، وكذا النظر في ما يزعمون أنه ممتلكات تركوها في الجزائر وإمكانية استردادها، غير أن الطرف الجزائري لم يحسم في هذين الملفين، ليعود بذلك ماكرون إلى بلاده خاوي الوفاض، أو هكذا أشيع من مصادر على علاقة بهذه المسائل. وتعتبر علاقة "الأقدام السوداء" بالجزائر، واحدة من أعقد الملفات العالقة بين الجزائر وباريس، فبينما تعتبر الجزائر الملف مطويا وبشكل نهائي، ويحكمه القانون انطلاقا من "اتفاقيات إيفيان"، التي رسمت استقلال الجزائر عن فرنسا، لا يزال الطرف الآخر يعتبرها قضية قانونية وأكثر من ذلك "إنسانية". وتستأنس الجزائر في موقفها الصارم من قضية "الأقدام السوداء"، على قرار صادر عن محكمة حقوق الإنسان التابعة إلى الأممالمتحدة، جاء نتيجة لدعوة رفعها أمامها أحد كبار المعمرين الفرنسيين (من وهران)، يطالب فيها باسترجاع ممتلكاته التي تركها بعدما فر من الجزائر، حيث نص القرار على عدم أحقية هذه الفئة من الفرنسيين في المطالبة بما تزعم أنه ممتلكاتها، لأن الاستيلاء عليها جاء في ظرف خاص بسبب الاستعمار، الذي غيب القانون ووضع فئة من شعب وافد فوق الشعب صاحب الأرض، كما أكدت المحكمة أن القرار يعتبر اجتهادا يمكن الاستئناس به في قضايا مشابهة. الناطق باسم التجمع الوطني الديمقراطي، صديق شهاب ل "الشروق": أويحيى لم يبرر جرائم "الأقدام السوداء" في الجزائر تحدث الوزير الأول أحمد أويحيى عن دور للأقدام السوداء في دعم الاقتصاد الوطني.. ماذا يقصد؟ كلام الوزير الأول جاء في سياق تشجيع المستثمرين الجزائريين على تصدير المنتج الجزائري والنهوض به، بعد سنوات من التخوف والتبعية إلى المحروقات.. وهو التصور الذي رددناه طيلة خمسين سنة دون جدوى، والآن أضحت عملية التصدير وتنويع واردات الجزائر من العملة الصعبة حتمية اقتصادية وتجارية واجتماعية، وأخذ عدد من المنتجين الجزائريين على عاتقهم هذه العملية الكبيرة، حيث أثبتوا أن المنتج الجزائري يصدر وله جودة عالية، والحقيقة أن ما ينقصنا هو وضع شبكة تجارية قوية لتمكين المنتج الجزائري في الخارج من مكانته المستحقة، وهذا هو السياق الذي أتى به أويحيى ولا علاقة له بالأقدام السوداء. فمنذ عقود كنا نعتمد على مواردنا المالية ولم نبحث عن النفوذ أو وضع شبكة نفوذ تجارية، لكن الآن منظومة التجارة العالمية التي لم ننخرط فيها بعد، هي التي تتحكم وتسير اقتصاديات العالم، ومن هنا كانت دعوة الأمين العام إلى الجزائريين الموجودين في الخارج الذين لديهم علاقات للمساهمة في اقتصاد الجزائر وحتى الاستعانة بالأفارقة إخواننا الذين تربطهم علاقة مع الجزائر ودرسوا فيها وتقلدوا مسؤوليات كبيرة ويحملون نوعا من التعاطف نحو الجزائر، كما جاء في سياق الكلام ذكر الفرنسيين قدماء الجزائر الذين تركوها بعد الاستقلال، لكن هذا لا ينفي أن عددا من الأقدام السوداء المنخرطين في عملية الاستيراد والتصدير، هم فرنسيون يشتغلون في المجال ومعهم عدد من الجزائريين. وأويحيى لم يأت بجديد، هو أراد أن يقول إنه يجب استعمال كل إمكانياتنا بما فيها العلاقات مع هؤلاء لوضع شبكة اقتصادية متينة. ماذا يعني هذا.. هل يعني دعوة إلى طي صفحة الماضي الاستعماري؟ لا؛ هذه ليست دعوة إلى طي صفحة الماضي لأن مشكلة الذاكرة والتاريخ وما اقترفته فرنسا الاستعمارية في الجزائر ستبقى ملفا مفتوحا، ومن حين إلى آخر يطغى إلى السطح، وهذه المشكلة وفي كثير من الأحيان تبقى حجر الزاوية التي ترتكز عليها العلاقات الفرنسية الجزائرية، وسيستمر الجزائريون في مطالبة فرنسا الاستعمارية بالاعتراف والاعتذار عما قاموا به من جرائم في حق الجزائريين، فحديث أويحيى يستثني من يحملون مواقف عدائية للجزائر، وسيبقى مشكل الذاكرة مفتوحا بيننا وبين فرنسا إلى أن يصل إلى حل يرضي جميع الأطراف. لا يزال فلول الأقدام السوداء يطالبون بحق العودة واسترداد ما يزعمون أنه ممتلكاتهم.. هل تجد دعوة أويحيى مبررة من الناحية السياسية والتاريخية؟ أعتقد أن عددا من الأقدام السوداء يطالبون بحق العودة من حين إلى آخر، ومع الأسف الشديد الكثير منهم استطاعوا أن يسترجعوا ممتلكاتهم عن طريق العدالة، ولا بد للجزائريين من أن يتفطنوا إلى الموضوع، وفي ما عدا ذلك أصبحنا الآن أكثر من أي وقت سابق مطالبين بالانخراط في المنظومة الدولية المعمول بها من نفوذ، فخارج الإطار الأممي نحن منخرطون في كل الهيئات الدولية ونعترف بكل المواثيق الدولية والجزائر أكثر انضباطا بالشرعية الدولية لكن نبقى نمثل الخصوصية لأننا متمسكون ببعض المبادئ التي مع الأسف بدأت تزول. نحن نعتبر من البلدان الأواخر المتشبثين ببعض القيم على غرار حق الشعوب في تقرير مصيرها ومنظومة اقتصادية أكثر عدالة، وكل هذا يكون لنا ضغوطا ومتاعب. ألا يعني هذا تنازلا رسميا عن مطالب الجزائريين باعتذار فرنسا الاستعمارية عن جرائمها في الجزائر؟ أبدا لا يعني كلامه أي تنازل، لأن الخلاف مهما كان نوعه وحدته إن لم يصل إلى حد نشوب حرب، فالتعامل الدبلوماسي والاقتصادي والتجاري وأحيانا الثقافي يبقى هو شعرة معاوية في العلاقات الدولية، وانطلاقا من هذا فالتعامل الاقتصادي شيء والمطالبة بالاعتذار شيء آخر، ولا ننسى أن عندنا 4 ملايين جزائري بفرنسا، وفي اعتقادي يجب أن نفرق بين ما هو أساسي ومتعلق بالذاكرة والتاريخ، وما هو منفعي ومصلحي، الذي هو ضروري وواقع في التعامل الاقتصادي والتجاري. الأمين العام لمنظمة أبناء الشهداء سابقا، موسى تواتي ل"الشروق" "الحكومة شرعت في التطبيع العلني مع الأقدام السوداء" ماذا فهمتم من تصريح الوزير الأول أحمد أويحيى، الذي تحدث فيه عن دور للأقدام السوداء في دعم الاقتصاد الوطني؟ أعتقد أن الحكومة مرت إلى مرحلة جديدة في علاقتها مع الأقدام السوداء، ترتكز على التطبيع العلني والمصرح به، بعدما كانت العلاقة خفية وغير مصرح بها، فالمعروف أن كل التعاملات التجارية والاقتصادية الجزائرية تابعة للاقتصاد الفرنسي، وكل من يعتقد غير ذلك فهو فاقد للبصر والبصيرة، ولا يريد أن يرى الحقيقة كما هي، وأعتقد أن تصريح الوزير الأول أحمد أويحيى خير دليل على ذلك، كونه أثبت أن الجزائر لا يمكنها أن تخترق الأسواق العالمية وتسويق بضاعتها من دون المرور على فرنسا وبالأخص الأقدام السوداء، وهذا أمر خطير جدا علينا التنبه إليه، لأنه تمهيد لإعادة ممتلكات الأقدام السوداء في الجزائر بطرق قانونية لهؤلاء، والتأكيد على أن لهم الحق في العودة من دون أي حرج. التحق الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، جمال ولد عباس، بتصريحات أويحيى.. هل يعني هذا أنها دعوة رسمية إلى طي صفحة الماضي الاستعماري؟ يجب الإشارة إلى أن هذا الأمر ليس جديدا، فمنذ عهد الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد، بل قبل ذلك، في عهد الراحل هواري بومدين لم تغادر فرنسا كليا الجزائر، حيث كان الأقدام السوداء يديرون المصانع والأراضي الفلاحية الخصبة، كان الاعتقاد السائد أن الجزائر ستكسب الخبرة بتواجدهم هنا، لكن مع مرور السنوات تأكدنا أننا كنا مخطئين، أما عن موقف الآفلان فهو أمر متوقع ولم يعد يخفى على أحد أن صوت حزب جبهة التحرير الوطني أصبح مبحوحا كلما تعلق الأمر بفرنسا، تحت ذريعة بناء وتطوير العلاقات الثنائية والتطلع نحو المستقبل. لا يزال فلول "الأقدام السوداء" يطالبون بحق العودة واسترداد ما يزعمون أنها ممتلكاتهم التي تركوها في الجزائر.. هل تجد دعوة أويحيى مبررة من الناحية السياسية والتاريخية؟ علينا أن نضع تصريح الوزير الأول أحمد أويحيى في إطاره الطبيعي، ونتحدث عن السياسة المنتهجة منذ الاستقلال، لأن أويحيى مجرد موظف في الدولة الجزائرية، وهو خاضع لأوامر وأجندة سياسية مثله مثل أي مسؤول آخر في البلاد، فهو لا يستطيع الخروج عن الإطار المرسوم له من قبل النظام الحاكم، ونحن هنا لا نوجه الاتهام للوزير الأول بالتطبيع مع الأقدام السوداء، ولا نتهم كذلك أجندة معينة ولا الرئيس بوتفليقة ولا أي شخص، لكن علينا أيضا النظر إلى الجهة المقابلة.. هل المواطن الجزائري راض عن التوجه الجديد؟ أم أنه سيخضع للأمر الواقع، هذا الأمر يجب التنبه له قبل اتخاذ أي قرار. مثل هذه التصريحات، ألا تعني توجها نحو تنازل رسمي عن مطالب الجزائريين باعتذار فرنسا الاستعمارية عن جرائمها في الجزائر؟ اعتراف فرنسا بجرائمها في الجزائر والاعتذار عنها قضية تجاوزها الزمن، لأننا لن نجني منه أي شيء، علينا الآن المطالبة بالتعويض عن الأضرار التي خلفها المستعمر الفرنسي طيلة 132 سنة من الاستدمار في الجزائر، وأعتقد أن كلمة الاعتراف جوفاء في مضمونها وليس لها معنى، على اعتبار أن كل الهيئات الدولية تعترف بأن فرنسا ارتكبت جرائم بشعة في حق الشعب الجزائري الأعزل، كما مارست كل أنواع الترويع وحروب الإبادة ضد الجزائريين، تحت ذرائع واهية، كالتحضر ونشر الثقافة والوعي في أوساط الجزائريين، كما كانت ولا تزال تزعم. ما هي الآثار السلبية التي يمكن أن تترتب على مثل هذه التصريحات في المستقبل؟ لا يمكننا تغطية الشمس بالغربال، لأن الوضع يسوء والآثار السلبية لا يمكن تجاهلها لأنها في تفاقم مستمر، حيث وصلنا إلى مرحلة أصبح فيها الجزائريون يشعرون أن بلدهم فاقد للسيادة، وغير مستقلين تماما، وهذا يتطلب منا العمل على استعادة سيادتنا كاملة بكل الوسائل المتاحة.