يتحدث المؤرخ محمد القورصو في هذا الحوار عن خلفيات الرفض الرسمي الفرنسي عن الاعتذار للجزائريين عن جرائم الماضي الاستعماري، ويوعزه لدور الأقدام السوداء الذي يزن ثقيلا على مستوى هرم السلطة في باريس. كما يتطرق إلى الجانب المسكوت عنه في تاريخ فرنسا الحديث، ولا سيما ما تعلق بمن يوصف في فرنسا ب " الخونة "، ممن تعاملوا مع ألمانيا النازية، وكيف تعاطت معهم فرنسا ما بعد التحرير. دشن وزير قدماء المحاربين الفرنسين ألان مارليكس جدارا تذكاريا ل "ضحايا ومفقودي " حرب الجزائر بمدينة بيربينيون. كيف تنظرون إلى هذه الخطوة، وقد جاءت قبل أسبوع من زيارة الدولة للرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي للجزائر؟ الدكتور محمد القورصو : أولا، مدينة بيربينيون كغيرها من المدن المتواجدة على الضفة الجنوبية لفرنسا، تعتبر المقر الطبيعي لجماعات الأقدام السوداء والحركى، وكذلك الذين انضووا تحت لواء منظمة الجيش السري الإرهابية الفرنسية. لذلك فهذه المناطق، تعتبر يمينية متطرفة، بل مفرطة في عنصرية. ولذلك فقد وقفنا من قبل على تدشين جداريات أخرى مخلدة لمآثر المنظمة الإرهابية السالفة الذكر. ثانيا، لقد سبق تدشين جدارية بيربينيون وقوف الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في آخر أيام حملته الانتخابية للرئاسيات الأخيرة التي جرت الربيع الماضي، في هذه المدينة، ووعد كل الأقدام السوداء والحركى، وأنصار منظمة الجيش السري الإرهابية، بأن يعيد لهم الاعتبار، وذلك بالعودة إلى تكريس ما جاء في قانون 23 فبراير، الذي ألغى المجلس الدستوري الفرنسي، بعض بنوده المتعلقة بإلزامية تدريس الدور الإيجابي للاستعمار الفرنسي في مستعمراته السابقة. وما يجعلني أندهش أكثر، هو عندما أرى الصحافة الفرنسية تصف وزير المجاهدين السيد محمد الشريف عباس بأنه عنصري، بالرغم من أنه تحدث عن وقائع تاريخية ثابتة، في الوقت الذي بقيت صحافتنا تتفرج.. إنه أمر مؤسف حقا. وما يؤلمني أكثر هو أن أولئك الذين يتحدثون اليوم عن التاريخ وعن أنريكو ماسياس، يوصفون بأنهم إسلاميين محافظين وبعثيين.. لذلك أجد ما قاله وزير المجاهدين من صميم الوطنية، ما دام الآخرون في فرنسا يتبجحون بتمجيد الماضي الاستعماري لفرنسا. يجب ألا ينسينا أن الشعب الفرنسي كانت لنا معه علاقة طيبة، قبل وبعد الثورة التحريرية، بحيث هناك من الفرنسيين من ندد بالاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر. هناك صحف كاثوليكية نددت بحرب فرنسا على الجزائر. هذه المواقف لا ننساها أبدا. في 17 أكتوبر الأخير، كرمت بلدية سان دوني الفرنسية، كرمت " موح كليشي "، وهو مجاهد من فدرالية فرنسا التابعة لجبهة التحرير الوطني، بصفته واحد ممن دافعوا عنى بلادهم إبان الحقبة الاستعمارية. نحن نعتبر هذا مكسبا للجزائر وللمواقف الموضوعية. وما يثير حفيظتنا، هي المواقف المثيرة لعواطفنا، والكيل بمكيالين. وفيما يتعلق بنيكولا ساركوزي وعلاقته بإسرائيل، اقول إنه يجب علينا أن نطلب منه أن يحترم ديننا، كما يجب عليه أن يحترم الجزائر وتضحيات الجزائريين. تحولت مطالبة الجزائرلفرنسا بالاعتذار عن جرائمها في الجزائر، شريطا مملا، في ظل ما يمكن وصفها بالإهانات التي ما انفكت يصدرها مسؤولون فرنسيون كلما تعلق الأمر بهذه القضية الحساسة، ولعل أهمها تصريح ساركوزي من الجزائر، بأنه من غير المعقول مطالبة الأبناء بالاعتذار عن أخطاء الآباء؟ الدكتور القورصو: يمكن تفسير الرفض المطبق للسلطات الفرنسية بالاعتراف بجرائمها في الجزائر، بعوامل شتى، لعل أولها، هو أن الأقدام السوداء وأنصار " الجزائر فرنسية " يشكلون لوبي قوي ومتنفذ في الأوساط السياسية الفرنسية، ويملك علاقات متينة مع الدولة العبرية. ومواقف الجزائر من هذه الدولة، ومن القضية الفلسطينية واضح وهو المساندة غير المشروطة للحق الفلسطيني. وهذا الأمر طبيعي أن لا يعجب اللوبي اليهودي المتحكم في الأوساط اليمينية الفرنسية. هناك ملاحظة ينبغي قولها، وهو أننا لازلنا نتعامل مع فرنسا الاستعمارية بخجل، لا زلنا خجولين.. الرئيس عبد العزيز بوتفليقة ندد بالاستعمار داخل البرلمان الفرنسي. علينا كمجتمع أن نقف موقفا واحدا وواضحا من هذه القضية. هناك نوع من التذبذب بين مواقف جبهة التحرير الوطني في إبان الثورة التحريرية، وبين المواقف الحالية للدولة الجزائرية. فعندما عرض الجنرال دي غول على الجبهة " سلم الشجعان "، الذي كان من شأنه أن يوقف الحرب، كان ردها الرفض بالرغم من المآسي. لذلك أقول إنه ليس من حقنا التخلي عن مبادئ ثورة أول نوفمبر، التي تأسست عليها الدولة الجزائرية الحديثة، لأن في ذلك تنكر لتضحيات مليون ونصف مليون شهيد. بل الواجب يحتم علينا استمرار مطالبة فرنسا بالاعتراف والاعتذار عن جرائمها في الجزائر. وأعتقد أن استمرارنا في المطالبة بحقنا التاريخي سيدفع فرنسا يوما ما إلى تحقيق ما نصبو إليه، وهو أن تعترف بحقنا، مثلما اعترفت بجرائمها في دولة مدغشقر، وكذلك مثلما اعترفت لليهود بجرائم حكومة فيشي، التي كانت موالية للنازيين في الحرب العالمية الثانية. ومتى يأتي هذا اليوم، برأيكم؟ الدكتور القورصو: هذا اليوم متوقف على مدى تجندنا علميا وسياسيا، لأنه ينبغي إبراز الجرائم المقترفة في حق الجزائريين طيلة 132 سنة. وأعتقد أن التراث الذي تنام عليه الجزائر في هذا الإطار، كفيل بأن يحقق المراد، لكن بشرط أن تتوفر الجزائر على خطة يجب أن تكون وطنية وشجاعة. إن الجزائر محل أنظار العالم بسبب المقومات الكبيرة التي تتوفر عليها، والتي جعلت منها سوقا كبيرة، بالإضافة إلى المكانة الدبلوماسية التي تتمتع بها، فضلا عن موقعها الاستراتيجي في المنطقة. وهي عوامل جعلت منها قبلة للمستثمرين. لذلك أقول إن فرنسا هي من يحتاج غلينا وليس العكس. يجب استثمار هذا المعطى بشكل جيد في الوقت الراهن. عندما زار نيكولا ساركوزي الجزائر الصيف الماضي، كرئيس دولة، قال إنه من غير المعقول أن يطالب الأبناء بالاعتذار عما ارتكبه الآباء، بينما كان بصدد الرد على سؤال حول الجرائم الاستعمارية. هل تجدون هذا الجواب مبررا؟ الدكتور القورصو: إنها مراوغة سياسية لا غير. ثم لماذا يتحدث ساركوزي إذن باسم الثورة الفرنسية (1789). فالرجل لم يكن قد ولد في هذا التاريخ، كما أن ايا من عائلته لم يكن ينتمي إلى هذه الثورة. فهو اليوم فرنسي بالانتماء الأرضي وليس بالأصل.. إن ما قاله ساركوزي، يبقى مجرد مزايدات بهدف التهرب لا غير. وردا على هذا التهرب، نقل للرئيس الفرنسي، نحن لا نتحدث مع نيكولا ساركوزي الشخص، وإنما نتحدث مع ساركوزي رئيس الدولة الفرنسية، التي اعترفت بجرائمها في مدغشقر، وسنت قانونا في الجمعية الوطنية الفرنسية، البرلمان، يعتبر حادثة وقعت في تركيا "إبادة" في حق الأرمن. فكيف يعقل أن تصدر مثل هذه المواقف الفرنسية تجاه دول، لكنها تمتنع عن تبني مواقف مشابهة لها، عندما يتعلق الأمر بالجزائر. يتحدث المتشددون الفرنسيون من الرافضين لمطلب الاعتذار، عن جرائم ارتكبها الطرف الثاني، أي الجزائر، في حق الحركى والأقدام السوداء، ويقولون بأن هناك مجازر وقعت بعد وقف إطلاق النار في 19 مارس 1962. ويتجلى ذلك من خلال الجدار الذي دشنه وزير قدماء المحاربين القدماء الفرنسيين، ألان مارليكس، قبل يومين فقط من تصريحات وزير المجاهدين محمد الشريف عباس، بحيث كتب عليه "ضحايا ومفقودي حرب الجزائر ما بين 1954 و1963. كيف تعلقون؟ نحن نذكر فرنسا بتاريخها وندعوها إلى عدم الخجل منه. هناك المئات من الفرنسيين الذين تم إعدامهم بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وتحرير فرنسا من الاحتلال النازي، لعلاقتهم بالألمان المحتلين. ونحن لا نأتي بجديد عندما نقول ونؤكد بأن هناك الكثير من الفرنسيين تمت تصفيتهم لمجرد أنهم كانت لهم علاقات مع الألمان. إن التاريخ الفرنسي لا زال يحفظ في ذاكرته تعامل فرنسا الحرة مع النساء الفرنسيات اللواتي اتهمن بالتعامل مع الألمان. لقد حلقت رؤوسهن وجابوا بهن الشوارع في وضعيات مهينة، في سياق حملة التشهير بمن وصفوا يومها بالخونة والمتعاملين مع الألمان. لذلك نقول إن تاريخ فرنسا شاهد عليها، وعليهم محاسبة أنفسهم قبل أن يحاسبوا غيرهم. وبالعودة إلى ما يقولون عن تردد المعمرين للتنكيل من قبل الجزائريين، نقول إن المعمرين هم من عذب الجزائريين، لقد سلبوهم أغلى ما يملكون.. أنظر قانون الأهالي الذي سنه الاستعمار الفرنسي في الجزائر. إنه كان بمثابة عقاب جماعي للجزائريين. لا زال التاريخ الذي كتبه مؤرخون فرنسيون يتحدث عن الجرائم التي ارتكبت في حق قبائل أبيدت عن بكرة آبيها.. ألم يسمع العالم عن محارق منطقة القبائل، مجازر الثامن من ماي 1945، قنابل النابالم الحارقة. لقد كانت فرنسا تقتل جزائريين أبرياء، ذنبهم الوحيد هو أن لهم علاقة بعناصر تنتمي لجبهة التحرير الوطني. هناك من يقول إن فرنسا دولة كبيرة ويجب عدم خسارتها، ويقولون إنه يجب بناء علاقات براغماتية معها، خاصة ما تعلق منها بالجانب الاقتصادي، فما تعليقكم؟ يجب تسبيق المبادئ على الصفقات الدبلوماسية والتجارية. هذا مطلب فرنسا يرفعه نيكولا ساركوزي. والهدف منه واضح، وهو طي صفحة الماضي المؤلم في العلاقات الجزائرية الفرنسية. وأعتقد أن في ذلك احتقار لتضحيات شهدائنا. فاحترامنا لمبادئنا يدفع الآخرين لاحترامنا. حاوره: محمد مسلم