يصنع المنتخب الفرنسي لكرة القدم الحدث، هذه الأيام، في بطولة كأس العالم بروسيا، ليس بسبب النتائج الباهرة ولا التأهل للدور ربع النهائي من المنافسة، لأن الكثير من المنتخبات مرّت كذلك بسلام، لكن اللافت في تشكيلة "الديكة" هو خلوّها تقريبًا من اللاعبين ذوي الأصول الفرنسية، حيث طغت البشرة السمراء على تعداد المدرّب "ديدي ديشان"! تلك الصورة الفارقة، لم تكن لتمرّ مرور الكرام على مشجعي الفرق الكروية، حتّى إنّ بعضهم أطلق على رفاق مبابي لقب "المنتخب الإفريقي"، وهو ما يُحيلنا حتمًا إلى ماضي فرنسا في القارّة المُنهَكة بغنائمها المسمومة، مُستحضرين تدخلاتها السافرة لتبقى مستعمراتها القديمة رهينة سياساتها الخارجية، حفاظا على مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، غير آبهة بمصير الشعوب ومستقبلها! هؤلاء المُبدعون فوق المستطيل الأخضر، الذين يصنعون اليوم فرحة الفرنسيين، مثلما أهداها من قبل الأسطورة "زيزو" اللقب العالمي الوحيد في رصيدها، ما هم في مرآة التاريخ القريب سوى أثر بيّن على جرائم الاحتلال في بلدان إفريقيا، فقد نهبت فرنسا خيراتها وسرقت ثرواتها ثمّ هجّرت سكانها قسرًا بفعل الظروف القاسية، بل المُعدمة في كثير من الأحيان، للحياة الإنسانية، وهي اليوم تستثمر في تلك الثروة البشريّة الهائلة عبر مجالات عديدة، ليست الرياضة بكل ألوانها إلاّ ميدانًا ثانويّا أمام حقول الاختراعات والاكتشافات الباهرة التي تبتكرها العقول الإفريقية في شتى العلوم والمعارف! سيعترض البعض بالقول: إنّ فرنسا تصنع جميلاً حضاريّا باحتضانها تلك المواهب التي لو بقيت في مواطنها الأصلية لكان مصيرها الوأد في المهد، وما شقّت طريقها نحو المجد والنجوميّة والشهرة إلا في بيئة فرنسيّة ترعى الموهبة وتوفّر لها من شروط النجاح ما يجعلها تصل إلى القمّة! لكن مثل هذا التسويغ هو في حقيقة الأمر مجرّد تبرير لفكر "كولونيالي" شنيع، لا يرى في الإنسان الآخر سوى آلة للإنتاج، حتى وإن تظاهر بتقديره لقدراته وعطائه، وأغدق عليه من المزايا الماديّة ما يُغريه بالبذل والبقاء في خدمة فرنسا، ولا أدلّ على ذلك من السلوكات العنصريّة القبيحة التي تبرز مع كل موقف غير مرغوب فيه، حيث يتذكّر الفرنسيون حينها أنّ مدلّل الجماهير من أصول مختلفة! كل مستعمرات فرنسا في إفريقيا، من شمالها إلى جنوبها، لا تزال متخلّفة بعد نصف قرن على خروجها عسكريّا، والاحتلال الفرنسي بآثاره المدمّرة وألغامه الموقوتة من العلل الرئيسة لحال المنطقة، ومثل هذا الكلام ليس هروبا من تحمّل المسؤوليّة الوطنيّة للنخب في كافة المستويات والمجالات، بل هو ما يؤكده واقع العلاقات مع المستعمِر، حيث يظلّ لاعبًا محوريّا في ترتيب أوضاع المنطقة، بدعم الأنظمة العميلة وعزل الحكام المتمرّدين والتدخل في شؤون دولهم، كل ذلك ضمن حسابات مصلحيّة ضيقة، ولتذهب آمال الشعوب المقهورة وتطلعاتها في الحرية والعدالة والكرامة نحو السراب! تلك هي حقيقة فرنسا، ماضيًا وحاضرًا، فكلّ ما شيدته فوق مستعمراتها سابقا تمّ بسواعد المُستضعفين، ومن ثروات أوطانهم، لكن لأغراض استعماريّة محضة، حتى لا ينخدع بعض المغرورين بإنجازاتها الزائفة، وما تقدّمه اليوم فوق أرضها من فرص لأبناء إفريقيا، ما هو إلّا شكل آخر للاستغلال الناعم، خدمة لمصالحها المقدّسة، أمّا مواطنهم الأصلية فليست في فكر قادة فرنسا سوى جنان ضائعة، وجب رهْنها إلى الأبد!