أطلّ الموسم الاجتماعي الجديد، بكثير من الأخبار غير السارة على المجتمع الجزائري بين الذين سافروا بغير رجعة وحكايات الموت غرقا عبر قوارب الموت والهجرة قنطة من دون سبق إصرار ولا ترصد.. مونشيتات الصحف وعناوين نشرات الأخبار في التلفزيون العمومي والقنوات الخاصة لا تنقل خبرا عن هجرة سرّية إلا وتبعته بأخبار مماثلة، من وهران إلى عنابة الصورة واحدة والمأساة قاتلة، والموضة الجديدة أنّ الحرقة صارت جماعية، والكارثة العظمى فيها أن عائلات بأكملها صارت تركب البحر وتأخذ شيوخها وحتى الرضع، هي مأساة أخرى وللأسف ليست الأخيرة. عائلات وشباب يغامرون بالحرقة في "بابور اللوح" مواقع التواصل الاجتماعي صارت رابطا بين الحراقة وشبكات التهريب عادت ظاهرة الحرقة بقوة للواجهة، فلا حديث هذه الأيام إلا عن شباب في ربيع العمر وعائلات وفتيات امتطوا زوارق الموت، وكلهم حلم في الوصول إلى الضفة الأخرى من المتوسط والبدء من جديد لتحقيق العيش الرغيد وكل ما لم يتمكنوا من العثور عليه في وطنهم، غير أن هذه المغامرة محفوفة بالمخاطرة قد تنتهي بالوصول لأوروبا أو جثة تتقاذفها أمواج البحار. جرت العادة في السنوات الماضية أن تتم عملية الحرقة في سرية وكتمان، فيختار الراغبون في الهجرة غير الشرعية الأيام التي يكون فيها البحر هادئا وتتزامن مع أيام العطل والمناسبات في أوروبا، حيث تقل الحراسة ويستطيع الحراقة الوصول بأمان، وبعد ما كان الشباب بمفردهم يخوضون هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر، انقلبت الآية وتغيرت هذه المعايير فأصبحت الشابات، النساء الحوامل وكذا عائلات بأسرها يهاجرون جميعا، يركبون الزورق ولا يعلمون إذا كانوا سيصلون سالمين أو سينقلب بهم البحر. 18 مليونا لحجز مكان في زوارق الموت تحولت شواطئ الولايات الساحلية الشرقية والغربية مقصدا للعديد من الشباب من مختلف ولايات الوطن، وفي الغالب يتجمع أبناء الحي الواحد كي يخوضوا المغامرة، فأسعار حجز مكان في القارب تتراوح ما بين 12 و18 مليونا، ولا يستدعي الأمر معرفة أو دراية، وقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي "فايسبوك" هي همزة الوصل بين الراغبين في الحرقة ومسيري الشبكات الذين يسندون المهمة لأحد الأشخاص كي يقطع بهم البحر، بل وهناك مجموعات خاصة هي التي تتولى تدبير الأمور والاتصال بالشباب بعد تأمين العدة وتطلب منهم الانتقال للولاية المتفق عليها وانتظار هدوء البحر لخوض التجربة. عائلات مفجوعة وأمهات مكلومة تبحث عن جثث أبنائها أخذت ظاهرة الحرقة منحى خطيرا، ففي كل يوم تستيقظ ولاية وبلدية جديدة على وقع اختفاء أخبار أبنائها، فمن شرق الجزائر لغربها ومن شمالها لجنوبها، يقدم أبناؤها على المخاطرة، مخلفين أمهات مكلومات، بعضهن مازلن يقصدن الشاطئ كل يوم ينتظرن عودة فلذة أكبادهن، فبعد ما فجعت عائلات الرايس حميدو باختفاء 13 شابا من أبنائها خلال رحلة الهجرة غير الشرعية باتجاه إيطاليا، عاد الحزن ليخيم مرة أخرى على بلدية باب الوادي بعد ركوب 10 شباب البحر، واستطاع سبعة منهم النجاة فيما بقي 3 منهم مفقودين وهو ما جعل عائلاتهم يحتجون ويعترضون على صمت السلطة وعدم حراكها للبحث عنهم. مواقع التواصل والأغاني الرياضية تحرضان الحرقة تزدحم مواقع التواصل الاجتماعي "الفايسبوك" و"اليوتيوب"، بمقاطع فيديو وصور للحراقة عند تواجدهم في شواطئ الوطن قبيل انطلاقهم في الرحلة، ويظهرون وهم يودعون الوطن ويوجهون كلماتهم الأخيرة لعائلاتهم وينشرون مقاطع لهم عند وصولهم الضفة الأخرى من المتوسط، حتى يطمئن عليهم أهلهم وذووهم حتى أن البعض صار يستعملها كوسيلة لإخطار أصدقائه بأنه إذا لم يترك تعليقا فهذا يعني انه رحل عن عالمنا ويطلب منهم الدعوة بالرحمة. وتتحمل الأغاني الشبابية وبالتحديد الرياضية التي تردد في الملاعب الجزء الأكبر من المسئولية، لتغنيها بالحرقة وتزيينها في أعين الشباب، فقد تحولت أغنية "بابور اللوح" التي يرددها أولاد البهجة، لشعار يغنيه جميع الحراقة وترافق فيديوهاتهم، بل وساهمت في ترسيخ الفكرة وتشجيعهم عليها، بوصفها الواقع المرير الذي يرزخ فيه آلاف الشباب وفقدان الأمل في الخروج من هذه الوضعية المزرية ليصبح "بابور اللوح" هو الحل الأخير. بريش: الظاهرة تعود لأسباب نفسية أكثر من اقتصادية أكد الخبير الاقتصادي عبد القادر بريش، أنّ سعي الجزائريين للهجرة بطريقة غير شرعية، وتزايدها بقوة خلال الآونة الأخيرة، يعود إلى أسباب نفسية أكثر منها اقتصادية، حيث صرّح أنّ الظاهرة تختفي بين الحين والآخر لتعود للظهور بشكل أقوى مرة أخرى، رغم أن ظروف البلاد واحدة، لهذا فالسبب الرئيسي هو العوامل النفسية التي يمر بها معظم الشباب، والذين وضعوا أمر الحرقة كمخطط كبير في عقولهم، لا بد من الوصول إليه بأي ثمن، حتى لو كلفهم الثمن دفع أرواحهم وأرواح عائلاتهم أيضا، في سبيل العيش بالدول الأوروبية. وأضاف بريش أن هناك بعض الشباب يتحصلون على ظروف العمل داخل الوطن، ومع ذلك يرفضونها ويفضلون "الحرقة" إلى أوروبا وهذا راجع إلى ظروف نفسية يمرون بها، وطالب في سياق ذي صلة، على ضرورة القيام بعمليات تحسيسية كبرى من طرف الأخصائيين في علم النفس وأيضا الأئمة في المساجد، وأيضا من طرف الإعلام من خلال القيام بتحقيقات وربورتاجات معمقة مع الجزائريين الذين يعيشون حياة مأساوية في الدول الأوروبية، حتى ينزع الشباب فكرة أنهم سيعيشون في النعيم بأوروبا، كما دعا الجهات الأمنية بالبلاد إلى استعمال جميع أجهزة الدولة واستعمال سياسة الجزر والردع لمحاربة الظاهرة، من خلال البحث عن الجماعات التي تعمل ضمن شبكات منظمة وتروج لظاهرة "الحرقة" من خلال توفير قوارب الموت مقابل أموال معتبرة. سعدي: شبابنا يبحث عن ظروف الرفاهية الموجودة في أوروبا وأولها فرص العمل قال سعدي الهادي المختص في علم الاجتماع، أنّ مشكلة انتشار ظاهرة الهجرة غير الشرعية بهذا الحجم، يعود إلى أسباب متعددة ومتنوعة سياسية واقتصادية ونفسية، خاصة وأن الظاهرة منتشرة بين الشمال والجنوب، حيث أنّ البلدان الإفريقية وبالأحرى الجنوبية، حسبه، التي عاشت سنوات من القهر والاستعمار، تعيش مجتمعاتها على حلم العيش على الطريقة الأوروبية، من حيث جميع الظروف المعيشية االمنتشرة هناك المعروفة بالرفاهية وغيرها.. وذكر سعدي، أنه عند الحديث عن الجزائر يجب الرجوع إلى الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة التي تعيشها البلاد، ويتخبط فيها غالبية الشباب، وخاصة خريجو الجامعات الذين يجدون أنفسهم في واقع مبهم بعد إكمال دراستهم الجامعية، وهذا الحال السائد وسط شبابنا، كما قال محدثنا، والمتميز بالإبهام وعدم وضوح الرؤية، مضيفا، أن غالبية الشباب يحلم بحياة يسودها الاستقرار والوضوح والرفاهية، لهذا فهم يقارنون أنفسهم بالمجتمعات الأوروبية، وبالأشخاص الذين هاجروا إلى أوروبا، وتمكنوا من تحقيق جميع ظروف الرفاهية. مصطفى سعدون: هناك شبكة منظمة ضخمة تسوق وتروج للحرقة صرّح قائد الكشافة الإسلامية مصطفى سعدون ل"الشروق، أنّ ظاهرة الهجرة غير الشرعية أو ما يعرف ب"الحرقة"، في تزايد مستمر والسبب راجع إلى الشبكات التي تكبر يوما بعد يوم، وهي شبكات كبيرة تروج وتشجع على ظاهرة "الحرقة"، حيث إنها جعلت منها مهنة تسترزق منها، إذ تقوم بالتسويق لها من خلال نشر دعايات سرية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وأيضا من خلال جماعات منظمة، تستغل الظروف الاجتماعية السيئة التي يعيشها بعض الشباب، وحتى العائلات، التي دخلت هي الأخرى عالم الهجرة غير الشرعية من بابها الواسع، إذ صرنا كما قال سعدون، نلاحظ نساء وأطفالا صغارا ورضعا يموتون غرقا في قوارب الموت، مضيفا أنّ هذه الشبكات، تحمل شعارا خاصا لتشيع ظاهرة الحرقة، وهو الخروج من جهنم إلى جنة النعيم،، وأكّد سعدون أنّ هذه الشبكة التي تشجع على الظاهرة، تعمل ضمن سوق كبيرة وخطيرة كما أن لها أهدافا خفية، حيث تنشر دعاياتها بتخطيط محكم.. ودعا محدثنا إلى معالجة الظاهرة في العمق من خلال محاولة التوصل إلى الرؤوس المدبرة التي تشجع العائلات وتزرع في أوساطهم أفكار الهجرة غير الشرعية وسط الشباب الجزائري، كما وجه دعوة عامة إلى كافة الجهات المعنية بضرورة القيام بحملات تحسيسية ضخمة في كل مناطق الوطن من أجل التخلص من الظاهرة. الأخصائية النفسانية.. سليمة موهوب: اليأس يدفع بالشباب إلى ركوب قوارب الموت أرجعت المختصة في علم النفس، الدكتورة سليمة موهوب، في اتصال ب "الشروق"، إقدام العديد من الشباب على الحرقة إلى سيطرة اليأس وتأثيره عليهم، فالشاب يكون محملا بالأحلام ويطمح إلى تحقيق أهداف ويرسم خططا مستقبلية، فهناك من يريد كسب المال أو أن يعيش حياة وفق مميزات خاصة ومعينة، لكنه يصطدم هنا في بلده بعراقيل عديدة ولا يجد إلى جانبه من يساعده سواء من المحيطين به أم الجهات الرسمية، وحتى وإن حظي بالدعم فسيتخلون عنه سريعا مع أول عقبة، فيصطدم بحواجز تحطمه وتجعل اليأس مسيطرا عليه. وذهبت النفسانية أبعد من هذا معتبرة النفسية الجزائرية مهزوزة للمعاناة من حروب، فبعد الاحتلال الفرنسي الذي تجاوز قرنا، جاءت العشرية السوداء بما حملته من مظاهر قتل ودمار وتشويه، لذا فنفسية غالبية الجزائريين تتأثر بسرعة، فإذا وجدوا جميع الأبواب مغلقة وليس بوسعهم عيش الحياة التي يرغبون فيها يغامرون بإلقاء أنفسهم في البحر، فاليأس، والقنوط، والظلم والملل من الفشل حسب المختصة هو الذي يمنحهم التهور ويشجعهم على ركوب زوارق الموت. وحملت المختصة محيط "الحراقة" المسؤولية فهم في الغالب من الشباب الذين يزينون لهم ويجملون في أعينهم الهجرة ويستخدمون عبارات "اتكل على ربي"، و"اللي كتبها ربي توصلك" لتغليف المخاوف المحيطة بالمغامرة. وتعتقد الدكتورة موهوب أن غياب التكفل النفسي بالفئات الشابة بعد الاستقلال وإهمال مختلف الجوانب ماعدا الجانب الديني، قد انعكس بشكل كبير ونحن اليوم نجني عواقبه. رئيسة جمعية "حورية".. عتيقة حريشان: من حق الشباب والعائلات البحث عن حياة أفضل لكن بعيدا عن الحرقة ترى رئيسة جمعية "حورية" عتيقة حريشان، في اتصال ب "الشروق"، أن ظاهرة الحرقة قد تفشت في مجتمعنا مثل المرض، وهذا كله ناجم عن الظروف المعيشية الراهنة كانهيار القدر الشرائية وتراجع قيمة الدينار، ودقت المتحدثة ناقوس الخطر، إذ بعدما كانت الظاهرة مقتصرة على الشباب شملت حاليا فتيات لتتطور إلى عائلات تهاجر بأكملها بطريقة غير شرعية ونساء حوامل رفقة أطفالهن، معتقدين أن الجنة في الضفة الأخرى من المحيط غير أن المشاكل والهموم التي وجدها من سبقوهم هناك أكبر بكثير مما كانوا يتخيلونه. واستغربت المتحدثة التفكير السائد لدى الشباب وميلهم إلى تفضيل الإهانة في الدول الأوروبية على البقاء في وطنهم وهو أمر خطير جدا، خصوصا أن الدول الأوروبية الآن لم تعد في منأى عن المشاكل وتعيش هي الأخرى على وقع الصدامات، فمن حق الشباب البحث عن آفاق لتطوير مواهبهم وقدراتهم لكن هذا لا يمنحهم الحق في إلقاء أنفسهم إلى التهلكة، بالرغم من الأوضاع الراهنة والظروف الصعبة للبلاد. ودعت عتيقة حريشان السلطات والجمعيات والمجتمع المدني إلى التحرك العاجل لإيجاد حلول وبعث برامج طارئة للتكفل بالشباب، والاستماع إلى انشغالاتهم وإيجاد مشاريع وفرص عمل لهم تدفعهم إلى البقاء في وطنهم، وشجعت المتحدثة العائلات على فتح الحوار مع أبنائهم والاستماع إلى انشغالاتهم حتى لا يصبحوا ضحايا عصابات الهجرة غير الشرعية. إمام مسجد حيدرة.. الشيخ جلول قسول: الحرقة لا تجوز شرعا .. وينبغي عقاب مروجيها فايسبوكيا أكد إمام مسجد حيدرة، الشيخ جلول قسول، في اتصال ب "الشروق"، عدم جواز الهجرة غير الشرعية "الحرقة" فهي حرام ولا يجوز للإنسان الإلقاء بنفسه إلى التهلكة، واعترف الشيخ بوجود عصابات فكرية تعمل على بث اليأس في النفوس وإفقادهم الأمل، وذلك بتشجيعهم على الموت بدلا من البقاء في وطنهم، فهم يتعاونون على الإثم والعدوان لذا يلقي الشباب بأنفسهم بيد عصابات تتاجر بهم توجد في الغالب بالمدن الساحلية، فيحصلون على المال مقابل نقلهم إلى الضفة الأخرى من المتوسط دون تقديم أي ضمانة لهم، وفي حال نجاتهم ووصولهم إلى أوروبا فهم ينتقلون من خطر إلى آخر أكبر منه. وأبدى الشيخ قسول حرص الأئمة على القيام بحملات توعوية في المساجد وندوات ودروس وخطب للتصدي للظاهرة المرفوضة دينيا، مناشدا جميع أفراد المجتمع والسلطات التعاون لتغيير فكر الشباب وتوعيته، طالبا من السلطات مراجعة القوانين المجرمة وكل من يدعو عبر مواقع التواصل الاجتماعي ويحرض على الهجرة أو ينشر اليأس فيتوجب متابعته وعقابه.