قال لي أحد المواطنين المغلوبين على أمرهم شاكيا باكيا، وما الشكوى إلاّ لله: قصدت مستشفى عموميا في هذا رمضان، لأمر جلل وطارئ، وإذا بي أقضي طول اليوم هناك، وكدت أن أفطر بهذه المصحّة العمومية الواقعة بالعاصمة، وقد صادفت طبيبا يتناقش مع زملائه في الرواق، حول الوضع السياسي الراهن في البلاد، على ضوء الحراك الشعبي المستمر، وتلقفت وهو يردّد شعار “يتنحاو قاع.. يتحاسبو قاع” ! ويضيف الزوالي في شهادته وصرخته: توقفت عند السيّد الطبيب، وقلت له: “ابني يعاني، وأنا “أتمرمد” رفقته منذ الصباح هنا في المستشفى دون أن يتمّ التكفل به، ويكاد أذان المغرب يبلغنا دون علاج.. أفلا يهديكم الله وتتولوا مهمتكم الإنسانية النبيلة، وبعدها شكر الله سعيكم..” وفجأة ردّ الطبيب: “الله غالب.. ما عندي ما انديرلك.. روح شوف البارمانونس.. احنا رانا رايحين”! وواصل الغلبان شكواه: قلت للطبيب: سمعتك تردّد: “يتحاسبوا قاع.. يروحوا قاع”، وأنت وغيرك كثير ممّن يعبثون بوظائفهم ويهينون المواطنين، ألا ينطبق عليك أيضا هذا الشعار؟.. فردّ الطبيب غاضبا: “تورّيلي خدمتي.. قلنا كليمة عشينا في ظليمة.. تحسب فيّا رئيس أو وزير أو مدير؟”.. وأضاف المواطن: لم أجد ما أردّ به على “ملائكة الرحمان” سوى القول: حسبي الله ونعم الوكيل ! ..استوقفتني هذه القصة الواقعية، وهي مجرّد مثال ونموذج من آلاف العيّنات الموجعة.. فعلا، تجد بعض التجار مثلا يتحوّلون في شهر الرحمة إلى “مصاصي دماء”، يرددون: “يتحاسبوا قاع”، ويتناسون أنفسهم الأمّارة بالسوء، مثلهم مثل بعض الجزارين والأطباء والموظفين في الإدارات والمنتخبين في المجالس المخلية، يتنافسون على “مرمدة” المواطن ومعاقبته بالبيروقراطية والتسيّب والإهمال واللامبالاة و”الحقرة” ! نعم، يجب ملاحقة الرئيس والوزير والمدير والوالي والنائب والمير، وغيرهم من المسؤولين، بشعار “يتحاسبوا قاع”، وفق مبدإ العدل والمساواة، وضمن قرينة البراءة التي تؤكد أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، لكن على “الحقارين الصغار” أن يحاسبوا أنفسهم قبل أن يحاسبهم غيرهم، فالمعاناة التي يواجهها البسطاء والتعساء في القاعدة لا تختلف في شكلها عما اقترفته أيادي العصابة والحاشية وبطانة السوء ! لا يجب تمييع القضية، وتتفيه عمليات المحاسبة وتسفيه الملاحقة القانونية ضدّ كلّ متورط ومتواطئ ومذنب، لكن لا يعقل بالمقابل، أن تُرفع يافطة “يتحاسبوا قاع” في كلّ مكان، في البيت والعمل والإدارة والشارع والسوق والحانوت والطريق والشاطئ والمنتزه، لكن الكثير ممّن يرفعونها وينادون بها وإليها، يستحقون هم كذلك الحساب والعتاب على ما يقترفونه في حقّ المعذبين في الأرض أطراف الليل وآناء النهار !