عندما يغيب الحوار الفعال في المجتمع تتفاقم المشاكل وتزداد النزاعات تعقيدا، لكن لما يتم الاحتكام إلى العقل الراجح وتغليب أسلوب الحوار فكل هذه المشاكل ستزول وتتلاشى، وهو لب ما تقدمه الوساطة القضائية، التي برزت إلى الوجود في التشريع الجزائري منذ سنة 2008 كبديل للموروث الاجتماعي “تاجماعت” في بلاد القبائل و”العزابة” في منطقة بني ميزاب وغيرها من التسميات لجلسات الصلح عن طريق الحوار الفعال. تعتبر الوساطة القضائية إحدى الوسائل البديلة الناجحة لتسوية المنازعات خارج أروقة المحاكم، وهي محاولة للوصول إلى اتفاق بين المتخاصمين من خلال إدخال طرف ثالث لتقريب وجهات النظر بينهم عن طريق إدارة الحوار وتوجيه النقاش في حال تشعبه للوصول إلى حلول ترضي الطرفين، لتجنب اللجوء إلى العدالة. وبالرغم من أن المشرع الجزائري قنن هذا الإجراء منذ سنة 2008 في التعديل الذي مس قانون الإجراءات الجزائية والمدنية، إلا أن الجزائر بحكم ما مر عليها عبر الزمن والعصور ولما تتميز به تاريخيا من نظام “العروش” و”القبائل” عرفت الوساطة في شكلها الاجتماعي قبل القانوني، فغالبا ما كانت تحل المشاكل بشكل ودي وعن طريق الحوار، وتوكل مهمة الوسيط إلى الشخص الذي يعتبر من الحكماء في المنطقة أو من زعماء القبائل، فخارج نطاق القضاء كانت “تاجماعت” في بلاد القبائل و”العزابة” في منطقة وادي ميزاب نموذجين بارزين لحل القضايا والنزاعات بين الناس خاصة ما تعلق بمشاكل الأسرة والميراث وغيره. وجدير بالذكر أن إجراء الوساطة والصلح والاحتكام إلى الحوار قبل أن يكون قانونا سنه الأوروبيون واعتمدته الولاياتالمتحدةالأمريكية في أروقة المحاكم، كان معمولا به في الإسلام الذي أنزل الصلح منزلة العبادة وخصها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والزكاة، قالوا بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هو الحالقة لا أقول تحلق الرأس ولكن تحلق الدين” ومع تطور مفهوم الدولة الحديثة وتوسع نطاق القانون وتشعب القضايا وأمام عجز الأنظمة القضائية عن مواجهة النزاعات المتراكمة والمستعصية، عمدت مختلف الدول إلى تطوير أساليب تتماشى ومتطلبات هذا التطور تحت مسميات عدة وهي “الصلح” و”التحكيم” و”الوساطة القضائية”. الوساطة امتداد للموروث الجماعي “تاجماعت “و”العزابة” وترى الوسيطة القضائية شائعة جعفري أن اعتماد المشرع الجزائري على نظام الوساطة القضائية في سنة 2008 ما هو إلا صحوة ضمير وعودة إلى الأصل وإلى العادات والتقاليد التي نشأ عليها الجزائريون، لأن الإسلام– تضيف- غلّب الحوار والصلح في كل القضايا والمسائل وخاصة قضايا الأسرة والطلاق، كما أن الجزائريين غالبا ما كانوا يلجؤون إلى الحكماء في منطقتهم أو إلى الإمام أو حتى مجالس “تاجماعت” لحل وفض النزاعات بين المتخاصمين ولم تكن حينها المشاكل ولا القضايا بنفس الحدة والزخم الذي تشهده المحاكم يوميا، وهو ما يؤكد- تضيف المتحدثة- أهمية الحوار لحل الأزمات بالتراضي، وأوضحت أنه في القضاء يوجد دائما طرف رابح وآخر خاسر، لكن لما تكون هناك وساطة يجب أن يكون كلا الطرفين رابحين ومتراضيين. مطالب بتعميم الوساطة لتشمل قضايا الأسرة وأبرزت شائعة في تصريح إلى “الشروق” أهمية الوساطة كوجه من أوجه الحوار الفعال للقضاء على القضايا “التافهة” وللتقليل من حجم الملفات التي تعالجها العدالة يوميا، من خلال إيجاد حل سلمي عن طريق تقريب وجهات النظر والحوار بين المتخاصمين لمختلف المشاكل التي لا ترقى لتعالج أمام المحكمة، وأضافت أن الجزائر اعتمدت الوساطة في العدالة بشكل متأخر مقارنة بدول أخرى كأمريكا وفرنسا، ولفتت في السياق إلى تلقي دفعة الوسطاء القضائيين الجزائريين خلال سنة 2016 تكوينا في “الهندسة البيداغوجية للوساطة” من قبل الاتحاد الأوربي لكن دون تلقيهم الاعتماد الذي مازال مجمدا لدى وزارة العدل إلى غاية اليوم. وقالت شائعة جعفري إنه آن الأوان للمشرع الجزائري أن يعتمد الوساطة القضائية في قضايا الأسرة وخاصة الطلاق، لأن دخول أفراد العائلة مباشرة المحاكم للتقاضي ورفع دعوى طلاق حتى بوجود جلسات صلح يقوم بها قضاة شؤون الأسرة، قد يؤدي إلى تعميق الخلافات بين الأسرة الواحدة، لكن– تقول- إذا ما تم الاعتماد على الوسيط القضائي في مثل هذه القضايا قد يحل الإشكال دون اللجوء إلى العدالة. بناء دولة عصرية قوامها الحوار اللا عنفي أهم أهداف الوساطة ومن جهته، قال نائب رئيس جمعية الوسطاء القضائيين الأستاذ عمار مراونة ل”الشروق” إن 60 بالمئة من القضايا التي تم عرضها على الوساطة القضائية التي تعتمد على أسلوب الحوار لحل المشاكل انتهت بحل ودي مناسب لاحتياجات ومطالب الأطراف المتنازعة خلال السنوات الأخيرة، وأشار في السياق إلى أن الجمعية الوطنية للوسطاء القضائيين الجزائريين التي تأسست منذ سنة 2010 أخذت على عاتقها مهمة تعزيز قدرات الوسيط عن طريق التكوين، والتحسيس والتعريف بأهمية الوساطة النابعة من أهمية الحوار وفضائله، وأضاف أن الجمعية تسعى لبناء دولة مدنية عصرية قوامها الحوار اللا عنفي والتفاوض العقلاني يشارك فيه جميع أطراف المجتمع بغية التوصل إلى جزائر متطورة من جميع النواحي ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا. واعتبر الأستاذ عمار مروانة أن بناء الدولة الحديثة يتطلب تفعيل أسس الحوار داخل المجتمع، وعلى وجه الخصوص في القضاء، حيث إن جميع الدول المتطورة تتجه نحو عدالة ناعمة تصالحية مبنية على مشاركة كل الأطراف المعنية في إيجاد الحل المناسب لمشاكلهم، ومن أهم هذه الحلول نجد الوساطة القضائية التي تسعى لتقريب وجهات النظر بين المتخاصمين وتجنيبهم اللجوء إلى العدالة، وأضاف أن المرسوم رقم 09-100 المؤرخ في 10/03/2009 حدد كيفيات وشروط تعيين الوسيط القضائي، وذكر أنه يمكن لكل شخص طبيعي أن يكون وسيطا بشرط تمتعه بالنزاهة والكفاءة والقدرة على حل النزاعات بالنظر إلى المكانة الاجتماعية، وألا يكون مسبوقا قضائيا. ودعا نائب رئيس جمعية الوسطاء القضائيين إلى توسيع مجال الوساطة القضائية لتشمل مجال الأسرة وقضايا العمل، باعتبارهما الخلية الأساسية في المجتمع معتبرا أنه إذا كانت العائلة هي الخلية الأولى في المجتمع، فإن الركيزة الأولى في الاقتصاد تكمن في العمل البشري، وباستقرارهما– يقول- يستقر الاقتصاد والمجتمع معا، كما أكد على أهمية إنشاء وساطة حرة غير قضائية انطلاقا من ضرورة خلق بيئة تشريعية جاذبة للاستثمار، حيث تكون تسوية النزاعات فيها بطريقة سيدة تتميز بسرعة التنفيذ، وبأقل تكلفة ممكنة وحل ودي يحافظ على العلاقة، مبني على إرادة الأطراف ويضمن احتياجاتهم ومطالبهم الأساسية. الوساطة القضائية.. هندسة للعلاقات عن طريق التفاوض العقلاني أكد عمار مروانة في السياق على أهمية الوساطة كأسلوب للحوار الفعال باعتبارها آلية لتسوية النزاع، يقوم بها طرف محايد ومستقل اسمه الوسيط متكون في تقنيات الوساطة وتسيير النزاعات، حيث يحاول فيها تقريب وجهات النظر للأطراف وإعادة تواصلهم باستخدام أساليب الحوار الفعال واللاعنفي والتفاوض العقلاني لإيجاد حل ودي نابع من إرادة الأطراف ينهي نهائيا النزاع المطروح، مضيفا أن هذا الأسلوب يخضع إلى مقاييس ومنهجية علمية دقيقة تسمى في الغرب بهندسة العلاقات الذي يرتكز أساسا على الإصغاء الإيجابي والحوار اللاعنفي والتفاوض العقلاني، وذلك عن طريق حوار يتطلب تبادل وجهات النظر بالأدلة والإثباتات ومحاولة إقناع الطرف الآخر، مع وجوب الاحترام المتبادل ومحاولة ترميم العلاقة وضمان احتياجات كلا الطرفين. الوسيط القضائي يقرب وجهات النظر بين المتخاصمين ويرى المحامي لدى نقابة الجزائر العاصمة يوسف بوجنيجنة في حديثه إلى “الشروق”، أن الوسيط القضائي يسهم في تخفيف الأعباء والتكاليف على القضاء والمتقاضين والإسراع في حل النزاعات، ولفت إلى أن القاضي وحده من لديه كل الصلاحيات لعرض الوساطة على أطراف النزاع ليتم تعيينه ويحدد له مهلة شهر لدراسة الملف، ويمكن أن تمدد حسب الوسيط، فيحرر محضرا بالاتفاق أو عدم الاتفاق ويودعه في المحكمة ليصادق عليه القاضي ويعطي المحضر صيغة تنفيذية ويكون بذلك حكما نهائيا غير قابل للطعن، وتأسف المحامي لعدم لجوء المتقاضين في غالب الأحيان إلى الوساطة، مرجعا ذلك إلى عدم التعريف بها بشكل جيد من قبل وزارة العدل وشرح حدودها وأهميتها لحل النزاعات دون اللجوء إلى العدالة. وشدد الأستاذ يوسف بوجنيجنة على أهمية اللجوء إلى الوساطة كآلية من آليات الحوار لفض النزاعات بشكل ودي حتى لا تترك آثارا سلبية على المتخاصمين، لاسيما عندما تكون لديهم علاقات اجتماعية سواء الجيران أم رابطة القرابة أم تجار تربطهم علاقات تجارية، وفي حال وصلت نزاعاتهم بين يدي القضاء وبموجب أحكام قضائية قد تنهار علاقتهم الأسرية والاجتماعية ما ينجم عنه عداوة وفك للروابط، فالوساطة- يضيف الأستاذ- من شأنها الحفاظ على هذه العلاقات من خلال استعمال الحوار للوصول إلى حلول ترضي جميع الأطراف، ويرى المحامي أن الوساطة ضرورية في قضايا الطلاق حتى ولو كانت موجودة ضمنيا في جلسات الصلح التي يقوم بها قضاة شؤون الأسرة، لكن لو تم اللجوء – حسبه- إلى لجنة وساطة خارج نطاق القضاء تضم مستشارين من العلاقات الأسرية وأخصائيين نفسانيين وحكما من أهل الزوجة وآخر من أهل الزوج لأعطت نتائج أفضل ولما وصلنا إلى ألف حالة طلاق سنويا.