أول انطباع سجلته وقدمي تطأ أرض السودان لأول مرة ،هو أن هذا البلد يشبه الشيء الذي تملكه ولكنك تفتقده في الوقت ذاته،لأنك لا تستغله. وترسخ هذا الانطباع في ذهني وأنا أتجول في شوارع الخرطوم الشاسعة وفي بعض مناطقها التي أتيحت لي فرصة زيارتها رفقة الوفد الصحفي الجزائري، فقد اكتشفت أن السودان الذي قرأت عنه وعرفت أنه اكبر بلد عربي وإفريقي من حيث المساحة وبأنه " سلة الغذاء العالمي". يتوفر على إمكانيات ضخمة تتيح له الالتحاق بركب الدول التي حققت قفزات تنموية ، ولكنه للأسف ما يزال يزحف ببطء في العديد من المجالات ، ولا شك أن الحرب الأهلية وما تلاها من أزمات ومشاكل في شرق وغرب البلاد قد لعبت دورا في هذا التأخير ،حيث استنزفت جهود أصحاب القرار وجعلتهم لا يفكرون إلا في كيفية تحقيق السلم والأمن بدل التركيز على الجانب التنموي للبلاد. وقد أخبرني أحد العارفين بخبايا هذا البلد بأن السودان اليوم أصبح أفضل حالا مما كان عليه قبل حوالي عامين ، فقد بدأ يتجه نحو الانفتاح الاقتصادي والسياسي ويستغل ثرواته النفطية، كما أن الدول العربية والغربية قد بدأت تلتفت إليه عبر بوابة الاستثمارات ،سيما بعد انتهاء حرب الجنوب واستقرار الوضع الأمني في البلاد .. من "شارع العربي" الى النيل وسحره بداية جولتنا إلى السودان الذي يتربع على مساحة شاسعة تقدر ب 5 .2 كلم2 ،كانت في العاصمة الخرطوم التي يعيش بها حوالي سبعة ملايين نسمة ، وهي مدينة واسعة تنقسم إلى ثلاثة مناطق رئيسية مربوطة بجسور ،وهي الخرطوم وتوجد بها مقر الرئاسة والوزارات والسفارات ،وخرطوم بحري وهي منطقة صناعية تتمركز فيها الشركات والمصانع المختلفة ، والمنطقة الثالثة هي " أم درمان" ،عاصمة المهدية التي قاومت الاستعمار البريطاني وانتصرت عليه .. في الخرطوم تختصر صورة السودان ،فهناك أحياء تحتضن المواطن البسيط الذي يلهث وراء لقمة عيشه بمشقة وعناء ، وهناك أحياء أخرى مخصصة لميسوري الحال ، ممن تسمح لهم إمكانياتهم المادية بالتنزه على ضفاف النيل والجلوس في مناطق راقية لتناول أشهى الأطباق وألذ المشروبات. وسط الخرطوم يوجد "شارع العربي " ، وهو منطقة شعبية مكتظة ،يجتمع فيها الناس وأغلبيتهم من البسطاء والمحتاجين لعرض سلعهم البسيطة أمام المارة . في هذا الشارع تجد نساء وأطفال وشباب وشيوخ يفترشون الأرض لعرض سلعهم البسيطة على المارة .. وأكثر ما شد انتباهي ونحن نتجول ليلا في هذا الشارع ، هو أنه لا يوجد فرق بين المرأة والرجل في السودان ، فكلاهما يتسابق من أجل الحصول على لقمة العيش بعرق جبينه ، وقد قال لي أحد الباعة أن الفقر والاحتياج هو الذي يجعل الأسر السودانية ، تدفع بأبنائها وبناتها الى امتهان التجارة ،وأوضح لي أيضا أن حرب الجنوب تسببت في نزوح عدد كبير من المواطنين استقروا وسط العاصمة وحولوها الى ما يشبه ورشة للبيع والشراء وخاصة في "سوق العربي " .. وخارج " شارع العربي" ،تتغير الصورة ، وأنت تتجه مثلا صوب المناطق التي توجد فيها المباني الحكومية والسفارات ،تكتشف خرطوما أخر ،حيث الطرقات شاسعة ومعبدة والمحلات التجارية ترتدي حلات مختلفة ، وتعرض ال "كوكاكولا " و"البيبسي " وغيرها من المنتجات الغربية التي بدأت تغزو السوق السودانية خلال السنوات الأخيرة .. في الخرطوم أيضا توجد مقومات سياحية ضخمة لكنها غير مستغلة بالشكل الكافي ، وأحد أهم هذه المقومات هو نهر النيل العظيم الذي يشق السودان من الجنوب الى الشمال، و ينقسم النيل إلى فرعين ،نيل أبيض ونيل أزرق يلتقيان في منطقة في الخرطوم تسمى " المقرن" ويصبان في البحر الأبيض المتوسط .. وقد شاهدت سحر النيل في جولة على متن قارب خصص للصحافيين العرب والأجانب وشاهدت كيف يتفرع إلى أبيض وأزرق ثم يلتقيان في "المقرن" في صورة طبيعية رائعة ،وقد أخبرني مرافق سوداني أن النيلين يختلفان في بعض الخصائص ، فالأزرق ينبع من أثيوبيا ولونه داكن وأكثر عمقا ،بينما الأبيض ينبع من رواندا ولونه صافي نوعا ما وعندما يلتقيان يصبح لونهما واحدا ..وتستغل مياه النيل في الشرب و في سقي الأراضي وكذلك في توليد الطاقة الكهربائية ، ولكن رغم جمال المنطقة ،إلا أنها غير مستغلة سياحيا ، و قد بدأت السلطات تهتم بها ،حيث شرعت في بناء مشروع سياحي ضخم في منطقة "المقرن" بكلفة أربعة مليارات دولار ويتضمن مشاريع تجارية وسكنية .. "أم درمان" .. المهدية والتصوف في مقابل منطقة المقرن تظهر "أم درمان" من بعيد ،وهي مدينة بدت لي أنها أكثر تميزا من الخرطوم في العديد من الجوانب ،وخاصة في الجانب الروحي ، ففيها أثار المهدية والطرق الصوفية التي تمارس بعض الطقوس الغريبة،وقد شاهدت رفقة زملائي طقوس لأتباع الطريقة القادرية ،حيث يجتمع حشد من الناس وسط باحة مسجد ويشرعون في التهليل والتكبير و الميلان يمينا وشمالا والناس يحيطون بهم من كل الجوانب . وقد قيل لي أن المجتمع السوداني مجتمع روحي بطبعه وهناك حوالي 40 طريقة في مختلف ربوع البلاد منها الطريقة التيجانية المتمركزة في دارفور .. من بين أثار المهدية في " أم درمان " يوجد قبر المهدي ويزوره الناس دوما من أجل التبرك به ، والمهدي هو جد الصادق المهدي ،ويعود له الفضل في كونه محرر السودان من الاستعمار البريطاني عام 1956 . وقد صادفت خلال زيارتنا إلى "قبر المهدي" أحد الشيوخ من أتباع المهدية ، تكلم عن أمريكا ورئيسها جورج بوش وقال أن هدف أمريكا هو ضرب الإسلام ، وناشد المسلمين بتوحيد كلمتهم والرجوع الى الدين وكتاب الله ،واسترسل هذا الشيخ في الحديث عن المهدي وأنصاره وقال لي أنه هو "المهدي المنتظر" ،و عندما أبديت استغرابي من كلامه نصحني مرافق سوداني بمغادرة المكان لأن النقاش حول هذه القضية سيجر إلى ما لا يحمد عقباه .. في "أم درمان" أيضا يوجد مقر التلفزيون والإذاعة والبرلمان ،بالإضافة إلى سوق شعبي كبير تباع فيه كل الأشياء ،ملابس وأحذية جلدية وحلي تقليدية وأواني منزلية ،وتجد في هذا السوق تجار مصريين وسوريين،بالإضافة إلى سودانيين طبعا وكلهم يتسابقون من أجل كسب الزبون ،وخاصة إذا كان أجنبيا لا يعرف السوق وخباياه .. والى جانب الخرطوموأم درمان ، توجد مناطق أخرى مهمة ، مثل "الجزيرة" التي تعتبر من أغنى الولايات السودانية بالموارد المائية ، وتشتهر بزراعة القطن ، كما أنها تتميز عن غيرها من الولايات بكونها تتمتع بثروة زراعية كبيرة ،علما أن السودان يتمتع بموارد زراعية كبيرة تتمثل في 200 مليون فدان من الأراضي الخصبة .. وقد اعتبر مؤتمر روما للغداء العالمي المنعقد في السبعينيات السودان "سلة غذاء العالم " ، وذلك لأنه قادر على إطعام ربع سكان العالم وخمسة أضعاف سكان الوطن العربي في حالة استغلال ثرواته الزراعية ،كما يعتبر السودان القطر الأول من حيث تعداد الثروة الحيوانية في الوطن العربي والثاني في أفريقيا،حيث تقدر ثروته الحيوانية ب 135 مليون رأس ، ويصدر السودان في المجال الحيواني الماشية والضأن والإبل كحيوانات حية ،بالإضافة الى اللحوم المذبوحة .. وبالإضافة الى الجانب الزراعي ، بدأت الحكومة السودانية تولي اهتماما خاصا لقطاع الصناعة وفتحت مجال الاستثمار أمام الخواص والأجانب الذين توافدوا على السوق السودانية من الصين وماليزيا واليابان وبعض الدول العربية ،رغم أن هذه الأخيرة ما تزال محصورة في قطاعات .وقد زاد اكتشاف البترول في زيادة عدد المستثمرين في مجال النفط ، وتراهن الحكومة السودانية على زيادة الإنتاج من النفط من أجل الاستفادة من عائداته في تحريك موارد البلاد وثرواته الأخرى المعطلة خاصة في المجال الزراعي والصناعي.. وقد لمست أن السودان أفضل حالا من بعض الدول العربية في المجال الصناعي ، وذلك خلال زيارة قمنا بها الى مقر "مجموعة جياد الصناعية" ، الواقع على بعد كيلومترات من العاصمة الخرطوم ، ويتخصص هذا المصنع في العديد من الصناعات من بينها تركيب وتجميع السيارات والشاحنات ،ومجموعة "جياد الصناعية" هي شراكة بين القطاع الخاص السوداني والحكومة . نيالا .. الوجه الأخر لدارفور من شمال السودان شددنا الرحال الى غربه ،أي الى إقليم دارفور الذي يتصدر اهتمامات الإعلاميين والسياسيين منذ عام 2003 . وقد استغرقت رحلتنا من الخرطوم الى مدينة "نيالا " ،عاصمة جنوب دارفور حوالي ساعتين وعشر دقائق على متن طائرة من نوع " فوكر" . وتعكس "نيالا" التي يبلغ عدد سكانها ثلاثة ملايين نسمة الوضع في إقليم دارفور ،حيث غياب التنمية واستفحال ظاهرة الفقر والمعاناة في أوساط السكان ، فليس هناك خدمات ولا اتصالات حديثة ، وما لاحظته في هذه المدينة هو وجود مكثف لما يسمى عند السودانيين "الرقشة" ،وهي عبارة عن سيارات صغيرة لنقل الركاب تتسع لثلاثة أشخاص .ويقدر عددها في مدينة "نيالا" وحدها بخمسة ألاف "رقشة" ،وهي ممنوعة في العاصمة الخرطوم لأنها تسبب الازدحام كما أخبرنا أحد السودانيين. وما زاد الطين بلة في "نيالا" هو الصراع المسلح الذي اندلع في إقليم دارفور ، حيث تسبب المتمردون في تدمير العديد من الخدمات والمنشأت الضرورية ، وهو ما أثر على حياة السكان وجعلهم يطالبون الحكومة بتعويضات عن خسائرهم .. ومن المفارقات أن "نيالا" تزخر بثروات طبيعية وحيوانية طائلة ، ففيها النحاس والبترول ،وفيها ثروة حيوانية تقدر ب 12 مليون رأس ، وتزخر المنطقة بزراعة الخضر والفواكه مثل "المانجا" و"البرتقال "، وكذلك الخضروات مثل الطماطم والسلطة وغيرهما ،وهي منتجات تحقق الاكتفاء المحلي وتصدر الى بعض المناطق .. ويقول المسؤولين الذين التقينا بهم في المدينة أن نهضة تنموية بدأت تتحرك في "نيالا" وفي إقليم دارفور بعد التوصل الى وقف إطلاق النار وتوقيع اتفاقية "أبوجا" ،حيث تولي السلطات أهمية خاصة لإعادة اعمار الإقليم بولاياته الثلاث ،الفاشرونيالا والجنينة ... نحو خصخصة المجال الإعلامي توجد في السودان حوالي ثمانية عشر صحيفة سياسية يومية ، بالإضافة إلى سبعة متخصصة في الشؤون الاجتماعية والأخرى في الشؤون الرياضية وقد لاحظت طوال بقائي في الخرطوم أن معظم العناوين تكتب بحرية و تنتقد أداء الحكومة في العديد من المجالات ، ويقول أحد الصحفيين السودانيين أن الحكومة بدأت تسمح بنوع من الانفتاح في الحقل الإعلامي منذ حوالي عامين ، أي بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل ويؤكد وزير الإعلام ، إبراهيم مالك في ندوة صحفية عقدها في الخرطوم منذ أسابيع أن الحكومة بدأت تتجه نحو خصخصة قطاع الاتصالات ضمن سياسة الخصخصة التي تنتهجها في العديد من القطاعات ويقول الوزير أن الحكومة لا تمارس الرقابة على الصحف الا بما يفرضه القانون و لا تمتلك أي صحيفة تتحدث باسمها ،ولكن المعارضة تؤكد أن هناك صحف تتبنى خط الحكومة ومواقفها ،وان السلطة تتدخل في العمل الصحفي من خلال الأساليب المعروفة في دول العالم الثالث ومن بينها منع الصحف من الصدور تحت حجج وذرائع مختلفة وكشف وزير الإعلام السوداني في ذات الندوة الصحفية أن الحكومة تتجه نحو تحرير الإذاعة والتلفزيون ،وقد منحت تصاريح لإذاعات خاصة مملوكة لشركات وجهات ،وهي تفكر حاليا في قانون للبث الإذاعي و التلفزي يسمح بتغطية شاملة لكل السودان ،وركز المتحدث على ضرورة أن يكون الإعلام السوداني إعلاما قوميا وطنيا يساهم في خدمة الوطن وقضاياه .. ومن جهة أخرى ،كشف الوزير عن إنشاء صندوق وطني لدعم المعلوماتية في السودان ،حيث يتم توزيع الحواسب الالكترونية على المدارس من أجل تطوير وترقية الجانب التكنولوجي في المدارس والجامعات السودانية .. مبعوثة الشروق الى السودان : ليلى لعلالي