بنجاح السلطة في تنظيم الرئاسيات وإقناع قرابة 10 ملايين جزائري بالمشاركة فيها، تكون قد كسبت ثاني أخطر امتحانٍ وجودي بعد الامتحان الذي تعرّضت له عقب انتخابات 26 ديسمبر 1991، في حين تعرّض الحَراك لنكسةٍ كبيرة قد تدفعه إلى مراجعة حساباته ومطالبه. الحراك فوّت على نفسه فرصة ذهبية حينما اكتفى بالتظاهر كل جمعة وثلاثاء، ورفض تعيينَ قيادةٍ له ينبثق عنها مرشحٌ له في رئاسيات 12 ديسمبر، كبوشاشي أو بن بيتور… وبذلك ترك المجالَ واسعا لرجال السلطة للترشُّح لهذا الموعد المصيري بلا منافسين حقيقيين. وأكثر من ذلك، سقط رهانُ الحَراك على مقاطعة قياسية للانتخابات، بعد أن أحسنت السلطة استغلال لائحة البرلمان الأوربي لتجنيد ملايين الجزائريين الرافضين لأي تدخّل أجنبي في شؤون بلادهم، ثم جاءت الضربة القاضية بعد لجوء مجموعات من الحراكيين المتطرّفين في المهجر إلى ممارسة عنفٍ جسدي ولفظي جارح ضدّ شيوخ ونساء وعائلات خلال العملية الانتخابية، ما استفزّ الكثير من المتردّدين في الداخل ودفعهم إلى الانتخاب نكاية في هذه الأقلية التي تريد فرض عنفها واستبدادها على الجزائريين. إجراءُ الانتخابات ووصول تبُّون إلى قصر الرئاسة خلفا لبوتفليقة كما توقّعنا في أواخر أفريل الماضي، يعني نجاح السلطة في ترجيحِ كفة الحلّ الدستوري على الحلّ السياسي القائم على مرحلةٍ انتقالية ومجلس تأسيسي.. اليوم لم يعُد واقعيا رفع المطلب نفسه، ما يعني ببساطة أنّ الحَراك قد دخل في ورطةٍ كبرى ليس له مخرجٌ منها سوى قبول دعوة الرئيس تبون إلى الحوار وقبول “يده الممدودة” إليه. غير أنّ المعضلة التي سيواجهها الرئيس هي عدم وجود ممثلين لهذا الحَراك منذ 10 أشهر كاملة، فمع من يتحاور إذن؟ وكيف؟ وفضلا عن ذلك، سمعنا جزائريين متطرّفين بالخارج يدعون إلى الرفض القاطع لدعوة تبُّون إلى الحوار لأنها تعني الاعتراف به رئيسا، والاعتراف بانتخابات السلطة والقبول بتجديد نفسها، وتتمسَّك هذه الأصواتُ المتطرّفة بضرورة استمرار الحراك إلى غاية تحقيق أهدافه وأهمها الذهاب إلى المرحلة الانتقالية والمجلس التأسيسي.. وإذا نجحت هذه الأصوات المتعصّبة في نسف الحوار قبل أن يبدأ، فلن يكون أمام الرئيس الجديد إلا المراهنة على عامل الوقت والشروع في تنفيذ إصلاحاته ووعوده للجزائريين بالتغيير وتجسيد التزاماته الانتخابية ال54، وفي مقدِّمتها إجراء تغيير عميق للدستور، ومراجعة قانون الانتخابات، وحل المجالس المنتخَبة والذهاب إلى انتخابات تشريعية ومحلية مسبقة، وفتح المجال واسعا للشباب لتبوئ المسؤوليات في الدولة، ومواصلة مكافحة الفساد، وإصلاح الوضع الاقتصادي والاجتماعي… وفي الوقت نفسه، يُرجَّح أن ينتظر الرئيس صدورَ أحكامٍ قضائية نهائية بحق مسجوني الحراك ثم يستعمل حقه في العفو الرئاسي لإطلاق سراحهم، قصد تهدئة الخواطر والنفوس. ومن المفارقات أنّ حراك 22 فبراير قد أسقط بوتفليقة وكان سببا في وصول تبُّون إلى قصر الرئاسة، لذلك وصفه ب”المبارَك”، لكن أكبر ضربة مُني بها هي قيام أقلية فرنكو علمانية بركوبه بعد أسابيع من انطلاقه، وتحويل وِجهته برفع مطالب غير واقعية أثارت مخاوف ملايين الجزائريين ودفعتهم إلى الانفضاض عنه في شتى مدن الوطن، وإذا بقي الحراك على تصلّبه ورفضه لكل المبادرات والحلول التوافقية، فقد يقود نفسه بعد أشهر إلى طريق مسدود.