د بشير مصيطفى – الدوحة / قطر [email protected] قبل 17 سنة من اليوم حضرت محاضرة لواحد من كبار العلماء والدعاة في العالم الاسلامي في ندوة فكرية كبرى شهدتها الجزائر، وقد لفت نظري رد الشيخ الداعية على سؤال تعلق بدولة موريتانيا حيث قال بلهجة عامية مصرية : موريتانيا؟ يكثر خيرها أنها عايشة . ومازلنا الى اليوم نردد هذه العبارة في مجالسنا كناية أو مجازا عن أمر لا فعل له . وتوفى الله الشيخ الداعية منذ فترة وتبدل النظام السياسي في موريتانيا الشقيقة وبدت تباشير تغير آخر ستشهده الساحة الاقتصادية في هذا البلد الذي أتوقع له موقعا متقدما على الساحة المغاربية ، موقع يعيد مهمة الفعل للشعب والحكومة في موريتانيا وينسينا بدون شك رد الشيخ الداعية على سؤال سائله ذات يوم من العام 1990 . الانسان أساس التغيير عندما زرت نواقشوط العام 2002 في اطار ندوة مغاربية عن الاندماج الاقتصادي بين دول المغرب العربي رافقني واحد من مناضلي الاتجاه الناصري في موريتانيا الى واحد من القصور الرئاسية وقال : أنظر أين يعيش الرئيس في دولة يكثر خير الله أنها عايشة . وفي جولة الى الشواطئ هناك رأينا كيف يعيش السكان على ما يلقيه البحر من سمك وما يخرجه الصيادون من جمبري ملكي عالي القيمة ليبيعون كل ذلك بثمن بخس . ساحل يطل على كنوز من الثروة لا تكاد ترى عليه ميناء يستحق أن يذكر . حينها خطر ببالي نموذج دولة صغيرة في آسيا تسمى سنغافورة . كانت سابقا نقطة على الخريطة لا تكاد ترى، وبسرعة البرق ملأت هذه الدولة الصغيرة أسواق العالم بمنتجات عالية الجودة مقبولة الثمن ، وتمكن ساكنوها من تحقيق مستوى أعلى للمعيشة بمجرد أن تحول البلد الى نظام سياسي جديد أقرب ما يكون الى الحكم الصالح . ولم يستمر حال موريتانيا طويلا على ما كانت عليه حتى حدث الانقلاب الأخير وتنازل الجيش عن السلطة بعدها ليعتلي الرئاسة معارض مدني بسيط لم يكن أحد يتوقع أن يصعد ، وهكذا حولت الديمقراطية الناشئة في موريتانيا البلد من تجمع سكاني لا فعل له الى مثال عن التحول الديمقراطي الهادئ في الوطن العربي . كيف تمكن الموريتانيون من فعل ذلك ؟ وهل نتصور أن يتكرر المشهد الموريتاني في دول الجوار؟ الجواب تحدده قدرة الانسان في دول المغرب العربي على انتاج نماذج حاكمة من طراز (اعلي ولد محمد فال ) في موريتانيا ، و ( الجنرال سوار الذهب ) في السودان ، هؤلاء الذين – وبغض النظر عن نواياهم الحقيقية – يحولون امكانات الحكم لديهم الى أدوات حقيقية للفعل الديمقراطي تذوب عندها السلطة الفردية في المشاركة الأوسع للشعب وللمعارضة . حينها فقط يمكن الحديث عن شرارة التغيير التي ان اشتعلت تحدث ارتدادات على باقي الأصعدة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية . عن ارتدات التحول في موريتانيا في آخر تصريح للرئيس الموريتاني الجديد سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله ( يومية الشرق القطرية : 24 جوان 2007 ) نلمس رؤية واضحة وغير مترددة للاقلاع الاقتصادي في موريتانيا ، فهو يدعو الشركات الأجنبية للاستثمار في البلد ، ويعتبر النفط ورقة مهمة في المشهد الاقتصادي الموريتاني ، ويعد بمراجعة قوانين الاستثمار ، والأهم من ذلك يعتبر الطاقم الحكومي عنصرا مهما في الاقلاع من حيث جودة الوزراء وكفاءتهم . ويسود الاعتقاد أن يشهد البلد تغييرات مهمة بسبب طبيعة الحكم الجديد . فالبلد ينام على احتياطي محتمل كبير من النفط والغاز شانه في ذلك شأن الأراضي الصحراوية ، وينتج الساحل الموريتاني أجود أنواع السمك عالي الطلب عليه من المستهلك الأوربي ، والصيد هناك غير مكلف ، وبالأراضي الموريتانية مخزون من المعادن يشكل المادة الأولية لعديد الصناعات في الصين وأوربا ، ولا يشكو البلد من أي ضغط ديمغرافي يحول دون التحكم في الموارد . وقد بدأت بوادر التغير من خلال موافقة البنك الوطني القطري على فتح فرع له في نواقشوط في انتظار اثبات جدارة الحكم ومتانته حتى يتمكن البلد من جذب الاستثمارات اللازمة لتنميته . الجزائر ورهانات الجذب الاستثماري تشير آخر الأرقام الى تحول ملحوظ في حركة الاستثمارات الأجنبية في منطقة المغرب العربي . فقد أفادت الوكالة الفرنسية للاستثمارات الخارجية للعام 2006 أنه من مجموع 12 مليار أورو قيمة اجمالي الاستثمارات الخارجية في منطقة المغرب العربي حصل المغرب على النصف وتونس على 3.8 مليار أورو وأخيرا الجزائر على 2.3 مليار اورو . ومن وجهة النظر الاقتصادية يعني ذلك أن اتجاه رأس المال الأجنبي يميل نحو الدول واضحة الرؤية الاقتصادية بغض النظر عن مواردها الطبيعية ، شأن الشقيقة تونس التي بلغ نموها الحقيقي 6 بالمائة وتصدر من المنسوجات ما يقارب 5 مليار دولار سنويا ( متوقع عام 2007) أي ضعف صادرات الجزائر خارج المحروقات بحوالي 6 مرات ( 600 بالمائة ) مع فارق الموارد بين البلدين . ستحذو موريتانيا حذو تونس من حيث استغلال الموارد وانتقاء وزراء الحكومة ، وستوفر موريتانيا الحريات اللازمة للتعبير وممارسة الديمقراطية ، وسيتضامن الشعب الموريتاني مع سلطته في تمتين مسعى التنمية ، وسيحظى البرلمان الموريتاني بالسلطة التشريعية الكاملة بما في ذلك المصادقة على المحكمة الخاصة التي ستحاكم سابق المسؤولين في الدولة ، وستوفر الحكومة الموريتانية الكهرباء والماء الشروب لكل مواطن وستواجه التضخم وتعدل في شبكة الأجور لصالح المواطنين ذوي الدخل المحدود، وستعمل الحكومة الموريتانية على تحقيق عدالة التوزيع بدون تردد . نقاط قوة ستحسب للحكم الحالي ان هي تحققت ، وحينها فقط تتحول الحالة الموريتانية الى درس يلقى على دول المنطقة المغاربية كلها وتصبح مقولة : يكثر خير موريتانيا أنها عايشة ، واحدة من أشهر زلات اللسان التي غالبا ما يقع فيها كبار العلماء والدعاة.